الأربعاء، 1 سبتمبر 2021

القول الحسن

 

القول الحسن


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

إن للقول وللَّفظ محط عناية واهتمام كبير بيِّن في الإسلام، فقد اهتم الإسلام بكيفية التخاطب وأداء الكلمات، وصياغة الألفاظ والجمل، بحيث يكون اللفظ الصادر عن الإنسان: طيب المعنى، لين الأسلوب، ذا غاية وهدف لا مجرد ثرثرة وقطع للوقت.

 

لذلك نجد أن الآيات والأحاديث - كما سترد معنا - تؤكد على هذا الأمر، وما ذاك إلا لمقصد وغاية تحقق في النهاية الصالح العام للفرد وللجماعة.

 

إن كل تشريع وأمر وتوجيه وإرشاد له مقصد وله حكمة وغاية للشارع علمها من علم وجهلها من جهل، وهي تهدف في محصلتها إلى تحقيق مصالح للخلق وتدرأ عنهم المفاسد.

 

والله - تعالى - حين أنزل شرعه المطهر أنزله ليحقق الحياة الطيبة للخلق جميعاً ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل:97].

 

فالشريعة تستهدف تحقيق مقصد عام، وهو إسعاد الفرد والجماعة، وحفظ النظام وتعمير الدنيا بكل ما يوصل إلى الخير والكمال الإنساني، فتصير الدنيا مزرعة للآخرة ويحيى الحياة الطيبة فيها، ليدخل بعدها الجنة، فيحظى بسعادة الدارين.

 

أحبتي:

إن (لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر، وله عليه فيه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه، فقد شكر نعمته عليه فيه، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطل أمر الله ونهيه فيه، عطله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته) [ابن القيم: الفوائد: 170].

 

ومن أهم أعضاء الإنسان جارحة اللسان، فهو أنفع الجوارح إذا صلح، وأضرها إذا فسد، ومن المعلوم أن اللسان عضلة لحمية لذا فإن المقصود من حديثنا هنا ما تلفظه هذه العضلة لا ذاتها.

 

ولأهمية اللسان جعل نصف الإنسان قال الميداني:( المرء بأصغريه قلبه ولسانه، أي: تقوم معانيه بهما) [فيض القدير ج1/ ص287].

 

وفي القصص: أن لقمان الحكيم قدم لسيده قلب الشاة ولسانها على أنهما أخبث ما فيها، وعرضهما مرة أخرى على أنهما أطيب ما فيهما، ولما سئل عن ذلك قال: يا سيدي، لا أخبث منهما إذا خبثا، ولا أطيب منهما إذا طابا.

 

لذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه على جارحة اللسان بقوله:" لا يستقيم إيمان عبد؛ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه؛ حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه " [المسند].

 

فبين الحديث (على أن أعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه ) [شرح سنن ابن ماجه:1 /286].

 

ومن استقامته أن يكون ذا خطاب لين هين لا فاحش ولا بذيء، مبتعد عن العنف والتجريح، ذا أسلوب سهل عفيف كيف لا!! وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة - رضي الله عنها -: " يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه " [مسلم]

 

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم. قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله " فقلت: يا رسول أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قد قلت: وعليكم " [البخاري ].

 

وعنها رضي الله عنها أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه " [ مسلم].

 

قال النووي - رحمه الله -: في هذه الأحاديث فضل الرفق والحث على التخلق وذم العنف، والرفق سبب كل خير، ومعنى: ( يعطي على الرفق) أي يثيب عليه مالا يثيب على غيره. [شرح النووي على صحيح مسلم (16 /145)].

 

فاللين والرفق أصل التعامل مع الخلق سواء كان تعاملاً فعلياً أم قولياً تخاطبياً.

 

بلا: قد يلجأ إلى التقريع والتعنيف لكن في محله ومكانه - فهو إذاً فعل طارئ على الأصل العام وهو اللين والرفق - ومن ذلك قصة معاذ - رضي الله عنه - فعن جابر قال: كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه، فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم، ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا أصحاب نواضح، نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى، فافتتح بسورة البقرة!! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال: " يا معاذ أفتان أنت؟! اقرأ بكذا، واقرأ بكذا "[مسلم].

 

قال النووي - رحمه الله - عن فقه الحديث:( فيه الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه، وإن كان مكروها غير محرم، وفيه جواز الاكتفاء في التعزير بالكلام) [شرح النووي على صحيح مسلم:4 /183].

 

لقد كان من حرص الشارع في مسألة الكلام وضرورة حسنه واختيار أطايبه أن حرص حتى على طريقة أدائه ومن ذلك ما جاء في موعظة لقمان لابنه: ﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان:19].

 

أي لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، وتأدب مع الناس ومع الله ولهذا قال: ﴿ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19] قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير، أي: غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى، وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" [تفسير ابن كثير ج3/ ص بتصرف447].

 

وحرم السخرية والاستهزاء بالآخرين وتجريحهم بألقاب وأسماء لا يحبونها فهذا أسلوب تخاطب الظالمين لا المؤمنين حين قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].

 

قال ابن سعدي رحمه الله: ( وهذا أيضا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض أن ﴿ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾ [الحجرات: 11] بكل كلام وقول وفعل دال على تحقير الأخ المسلم فإن ذلك حرام لا يجوز) وأضاف: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11] أي لا يعب بعضكم على بعض، واللمز بالقول، والهمز بالفعل وكلاهما منهي عنه حرام متوعد عليه بالنار كما قال تعالى:﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1]. ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11] أي لا يعير أحدكم أخاه ويلقبه بلقب يكره أن يقال فيه).

 

إن سمات خطابنا معاشر المسلمين لا بد وأن يكون خطاباً حضارياً يتفق وتعاليم ديننا فالذي أمرنا بتوحيده وإقامة الصلاة والزكاة أمرنا بأطايب الكلام، ونهانا عن الفاحش منه فعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء ".

 

وبوب ابن حبان على هذا الحديث بقوله: (ذكر نفي اسم الإيمان عمن أتى ببعض الخصال التي تنقص بإتيانه إيمانه).

 

قال المناوي - رحمه الله - على الحديث السابق: ( "ليس المؤمن بالطعان " أي الوقاع في أعراض الناس بنحو ذم أو غيبة. قال ابن العربي: وإنما سماه طعناً؛ لأن سهام الكلام كسهام النصال حساً، وجرح اللسان كجرح اليد.

 

"ولا اللعان " أي الذي يكثر لعن الناس بما يبعدهم من رحمة ربهم إما صريحاً كأن يقول: لعنة الله على فلان، أو كناية كغضبه عليه، أو أدخله النار.

 

"ولا الفاحش" أي ذي الفحش في كلامه وفعاله، قال ابن العربي: والفحش الكلام بما يكره سماعه مما يتعلق بالدين. " ولا البذيء " أي الفاحش في منطقه، وإن كان الكلام صدقاً) [فيض القدير:5/ 360].

 

وعن ابن عباس أن رجلاً لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لا تلعن الريح فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه "[الترمذي ].

 

وعن عمران بن حصين قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" خذوا ما عليها، ودعوها فإنها ملعونة " قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. [مسلم].

 

فكيف بمن نراه يلعن أخاه المسلم، بل أبناءه، بل زوجته التي يساكنها نفس الفراش، إن كلامنا وخطابنا يجب أن يترفع عن أسلوب اللعن والشتم.

 

وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه "[البخاري].

 

قال ابن حجر رحمه الله عن فقه هذا الحديث:( أن علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه هي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في علامة المنافق ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.

 

تنبيه: ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيداً، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا، وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، والإتيان بجمع التذكير للتغليب) [فتح الباري:1/53 بتصرف].

 

وقال النووي رحمه الله: ( قوله صلى الله عليه وسلم:" من سلم المسلمون من لسانه ويده " معناه: من لم يؤذ مسلماً بقول ولا فعل، وخص اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها وقوله صلى الله عليه وسلم: " من سلم المسلمون من لسانه ويده " قالوا: معناه المسلم الكامل، وليس المراد نفى أصل الإسلام عن من لم يكن بهذه الصفة بل هذا كما يقال: العلم ما نفع أو العالم زيد أي الكامل أو المحبوب فكله على التفضيل لا للحصر. ثم أن كمال الإسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة وإنما خص ما ذكر لما ذكرناه من الحاجة الخاصة) [شرح النووي على صحيح مسلم:2 /10 بتصرف].

 

( قال الزمخشري: لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملاً لا يمكن فيه المباشرة باليد، وقدم اللسان؛ لأن إيذاءه أكثر وأسهل، ولأنه أشد نكاية قال المصطفى لحسان: " اهج المشركين فإنه أشد عليهم من رشق النبل ".

 

قال الشاعر: جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان) [فيض القدير ج2/ ص48].

 

قال المناوي - رحمه الله -: ( فإيذاء المسلم من نقصان الإسلام والإيذاء ضربان ضرب ظاهر بالجوارح كأخذ المال بنحو سرقة أو نهب، وضرب باطن كالحسد والغل والبغض والحقد والكبر وسوء الظن والقسوة ونحو ذلك فكله مضر بالمسلم مؤذ له وقد أمر الشرع بكف النوعين من الإيذاء وهلك بذلك خلق كثير ) [فيض القدير ج6/ ص271].

 

نحن لا نرد على الخطاب الفاحش بمثله، بل نرتقي كما علما ديننا، فمن التوجيهات للصائم أن يقول عند تعرضه للشتم ونحو ذلك: إني صائم، فعن أبي هريرة - رضي الله - عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين" [البخاري].

 

إنه تدريب على التخلق بخلق عدم الرد على الكلام والخطاب الفاحش بمثله.

 

قال النووي - رحمه الله -:( وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليقل إني صائم إني صائم " اختلفوا في معناه: فقيل: يقوله بلسانه جهراً يسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غالباً، وقيل: لا يقوله بلسانه، بل يحدث به نفسه؛ ليمنعها من مشاتمته ومقاتلته ومقابلته ويحرص صومه عن المكدرات، ولو جمع بين الأمرين كان حسناً.

 

واعلم أن نهى الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصا به بل كل أحد مثله في أصل النهى عن ذلك لكن الصائم آكد) [شرح النووي على صحيح مسلم:8/28-29 بتصرف].

 

وعن سعيد بن المسيب أنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر فقال أبو بكر: أوجدت علي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان " [سنن أبي داود].

 

ولأهمية وخطورة الكلمة وضرورة أن تكون منضبطة بضابط الشرع ومقصده قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً، يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يهوى بها في جهنم " [ البخاري].

 

قال ابن حجر رحمه الله: (قال ابن عبد البر: الكلمة التي يهوى صاحبها بسببها في النار هي: التي يقولها عند السلطان الجائر، وزاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم، فتكون سبباً لهلاكه، وإن لم يرد القائل ذلك؛ لكنها ربما أدت إلى ذلك، فيكتب على القائل إثمها، والكلمة التي ترفع بها الدرجات ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرج بها عنه كربة، أو ينصر بها مظلوماً.

 

وقال غيره في الأولى: هي الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها فيما يسخط الله قال ابن التين: هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان ممن يتأتى منه ذلك ونقل عن ابن وهب أن المراد بها: التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين، وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة، أو بمجون أو استخفاف بحق النبوة والشريعة، وان لم يعتقد ذلك.

 

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه.

 

وقال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم، وإلا امسك) [فتح الباري:11 /311 بتصرف].

 

قال المناوي رحمه الله: ( فعلى العاقل سيما الفاضل أن يميز بين إشكال الكلام قبل النطق؛ ليكون على بصيرة من نفسه وبينة من ربه، وستر للجاهل؛ لأن المرء مخبوء تحت لسانه وهو المنبئ عن شأنه، فحاله مستور ما لم يتكلم) [فيض القدير ج4/ ص241].

 

إننا قد لا نسع الناس بمالنا ولا جاهنا، فلا أقل من أن نسعهم بكلامنا وخطابنا الطيب و (أصل الطيب ما تستلذه الحواس، ويختلف باختلاف متعلقة قال ابن بطال: طيب الكلام من جليل عمل البر لقوله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [المؤمنون: 96] الآية والدفع قد يكون بالقول كما يكون بالفعل) [فتح الباري ج10/ص448].

 

إن الحرص على طيب الكلام وحسن الخطاب يقي من النار، فهو حصن من حصون الوقاية من النار، قال عدي - رضي الله عنه- سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة "[البخاري].

 

قال ابن بطال - رحمه الله -:( وجه كون الكلمة الطيبة صدقة أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يعطاه ويذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب، فاشتبها من هذه الحيثية) [فتح الباري:10 /449].

 

ففي الحديث: عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها " قال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: " لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناس نيام "[المستدرك على الصحيحين].

 

ولأثر الكلام الطيب كان النبي صلى الله عليه وسلم تعجبه الكلمة الحسنة ويعدها من الفأل الحسن، فعن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة " [مسلم].

 

وقد وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيب والكلمة الخبيثة بقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾ [إبراهيم:24-26].

 

والكلمة الطيبة هي التي: ( تطيب قلب السائل مما يتلطف به في القول والفعل. وقيل الكلمة الطيبة ما يدل على هدى، أو يرد عن ردى، أو يصلح بين اثنين، أو يفصل بين متنازعين، أو يحل مشكلاً أو يكشف غامضاً، أو يدفع تأثيراً، أو يسكن غضباً) [فيض القدير ج1/ ص138].

• • •

 

لقد كان الأمر والتوجيه بالخطاب الحسن من بنود الميثاق الذي عقد بين الله سبحانه وتعالى وبني إسرائيل حيث قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 83].

 

لقد تضمن هذا الميثاق جملة من القواعد الثابتة في دين الله - عز وجل - التي جاء بها الإسلام أيضاً: وهي التوحيد المطلق لله سبحانه، والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين، وخطاب الناس بالحسنى، وتضمن فريضة الصلاة والزكاة، وهي في مجموعها قواعد الإسلام وتكاليفه.

 

يقول ابن سعدي - رحمه الله -:( وهذه الشرائع من أصول الدين التي أمر الله بها في كل شريعة لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان، فلا يدخلها نسخ كأصل الدين ولهذا أمرنا الله بها ).

 

إن ضم هذا الميثاق الإلهي لهذا البند ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83] ضمن بنود وأصول الدين (التوحيد) وفرائضه (الصلاة، والزكاة) والتي يكفر تاركها على تفصيل في بعض الجوانب، لذو دلالة هامة وخطيرة، تسترعي ولا بد أذن كل سامع وقارئ لهذا الميثاق.

 

ولعلك أخي: تجد وتلاحظ معي أن الخطاب الحسن جاء عاماً بقوله:( للناس) دون تحديد لدين أو جنس أو مذهب، أو طبقة اجتماعية فهي تشمل جنس الناس.

 

ومما يؤكد على العموم السابق - في الإحسان القولي لكل أحد - ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته " [مسلم ].

 

والحسن: ضد القبح ونقيضه، والجمع محاسن. [لسان العرب: 13/ 114].

 

فقوله تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83] أي كلموهم طيباً ولينوا لهم جانباً ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83] فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسناً كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله.

 

وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تحقرن من المعروف شيئاً وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق " [مسلم والترمذي].

 

وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي) [تفسير ابن كثير ج1/ ص121].

 

قال القرطبي رحمه الله عن الآية السابقة: (وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً ووجهه منبسطاً طلقاً مع: البر والفاجر، والسني والمبتدع من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضى مذهبه؛ لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ﴾ [طه: 44] فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه.

 

وقال طلحة بن عمر قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل فيَّ حدة، فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل يقول الله تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].

 

فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالحنيفي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: " لا تكوني فحاشة، فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء") [تفسير القرطبي:2 /16].

 

ومن النصوص التي ترشد إلى اتصاف المرء بالخطاب الحسن قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً ﴾ [الإسراء:53].

 

أي: على وجه الإطلاق، وفي كل مجال، فيختاروا أحسن ما يقال؛ ليقولوه، فبذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما ينهم من مودة، فالشيطان ينزغ بين الإخوة، الكلمة الخشنة تفلت، وبالرد السيئ يتلوها، فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف، ثم بالجفوة، ثم بالعداء، والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب، وتندى جفافها، وتجمعها على الود الكريم.

 

﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53] فيتلمس سقطات فمه، وعثرات لسانه، فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه، والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات، وتقطع عليه الطريق، وتحفظ حرم الأخوة آمناً من نزعاته ونفثاته. [مستفاد من الظلال ].

 

قال ابن سعدي - رحمه الله - عن الآية السابقة: ( وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة وذكر وعلم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين، فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما، والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره، وقوله:( إن الشيطان ينزغ بينهم) أي يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم، فدواء هذا أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها وأن يلينوا فيما بينهم؛ لينقمع الشيطان الذي ينزغ بينهم، فإنه عدوهم الحقيقي الذي ينبغي لهم أن يحاربوه فإنه يدعوهم ﴿ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

 

إننا نجد في تعاليم ديننا أن الجدال لابد أن يكون حسناً مع غير المسلمين فكيف مع إخوة الدين قال تعالى: ﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [ العنكبوت:46].

 

(فأمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يجادل خصومه بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة من إيضاح الحق بالرفق واللين إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجادلهم بالسيف؛ حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

 

ونظير ما ذكر هنا من المجادلة بالتي هي أحسن قوله لموسى وهارون في شأن فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44] وفيه دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة وضمنت له العصمة ألا تراه قال: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ﴾ [طه: 44] ومن ذلك القول اللين قول موسى له: ﴿ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 18، 19] [أضواء البيان:2 /465].

 

و (القول اللين هو: القول الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشيء يلين ليناً فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولاً لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه وأمره بالمعروف في كلامه) [القرطبي:11 /200].

 

قال القرطبي رحمه الله: ( اختلف الناس في معنى قوله: ﴿ لَيِّنًا ﴾ [طه: 44] فقالت فرقة منهم معناه كنِّياه قاله ابن عباس ومجاهد والسدى، فعلى هذا القول تكنيه الكافر جائزة إذا كان وجيهاً ذا شرف وطمع بإسلامه، وقد يجوز ذلك، وإن لم يطمع بإسلامه؛ لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملاً وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه ومن الإكرام دعاؤه بالكنية وقد قال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية: " انزل أبا وهب " فكناه، وقال لسعد:" ألم تسمع ما يقول أبو حباب " يعني عبد الله بن أبي) [القرطبي:11/ 200 بتصرف].

 

وقد تعهد الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ترك الخطاب الجدلي الذي لا نفع منه غير إيغار الصدور، وبث التباغض بين القلوب بالجنة حيث قال:" أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه " [سنن أبي داود].

 

ويحسن أن نشير هنا إلى مراتب الجدل على وجه الإجمال:

قال الكرماني: الجدال هو الخصام ومنه: قبيح، وحسن، وأحسن، فما كان للفرائض: فهو أحسن، وما كان للمستحبات: فهو حسن، وما كان لغير ذلك فهو قبيح.

 

فهو تابع للطريق فباعتباره يتنوع أنواعاً وهذا هو الظاهر.

 

وعليه فإذا كان فيما لا بد له منه تعين نصر الحق بالحق، فإن جاوز الذي ينكر عليه المأمور نسب إلى التقصير، وإن كان في مباح اكتفى فيه بمجرد الأمر والإشارة إلى ترك الأولى. [فتح الباري ج13/ ص314].

 

لقد اهتم الإسلام بمسألة الخطاب والكلام الطيب، فشرع حين اللقاء والمحادثة إلقاء أجمل تحية عرفت على الإطلاق المتضمنة لاسمين من أسمائه سبحانه وتعالى (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء:86].

 

قال ابن كثير رحمه الله: ( أي: إذا سلم عليكم المسلم، فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة) [تفسير ابن كثير ج1/ ص532].

 

وقال ابن سعدي - رحمه الله -:( التحية هي اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها، وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع من السلام ابتداءً ورداً، فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حيوا بأي تحية كانت أن يردوها بأحسن منها لفظاً وبشاشةً، أو مثلها في ذلك.

 

ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية، أو ردها بدونها، ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين:

أحدهما: أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعاً.

والثاني: ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو (أحسن) الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن كما هو الأصل في ذلك).

 

وأفضل السلام قول: ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) لهذا الحديث فعن عمران بن حصين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم يا رسول الله، فرد عليه السلام ثم جلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عشر " ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، فجلس، فقال:" عشرون " ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، فجلس، فقال: " ثلاثون " [أبو داود].

 

وقد نبه الإسلام على أن ننزل الناس منازلهم وهذا يتضمن بلا شك وريب إحسان الخطاب لهم، فعن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة عليها السلام مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة، فأقعدته، فأكل فقيل لها في ذلك فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزلوا الناس منازلهم " [سنن أبي داود].

 

قال المناوي - رحمه الله -:( أي احفظوا حرمة كل أحد على قدره وعاملوه بما يلائم حاله في دين وعلم وشرف فلا تسووا بين الخادم والمخدوم والرئيس والمرؤوس فإنه يورث عداوة وحقدا في النفوس والخطاب للأئمة أو عام وقد عد العسكري هذا الحديث من الأمثال والحكم وقال هذا مما أدب به المصطفى أمته من إيفاء الناس حقوقهم من تعظيم العلماء والأولياء وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير وما أشبهه) [فيض القدير:3 /57].

 

لذا جاء الأمر الإلهي بأن تكون صيغة خطاب ومناداة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الصحابة تليق بمقامة النبوة من خفض الصوت ونحو ذلك فقال تعالى: ﴿ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ [النور:63].

 

(فلا تقولوا له: يا محمد مصرحين باسمه،ولا ترفعوا أصواتكم عنده كما يفعل بعضكم مع بعض، بل قولوا له: يا نبي الله، يا رسول الله مع خفض الصوت احتراماً له صلى الله عليه وسلم) [أضواء البيان:5 /557].

 

كما أرشدت السنة إلى توقير الكبير من الناس والتوقير كما يكون بالفعل يكون بالقول، فعن أنس بن مالك قال: جاء شيخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجته فأبطؤوا عن الشيخ أن يوسعوا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا "[مسند أبي يعلى].

 

وهذا التوقير في حق العالم أوجب، فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه "[مسند أحمد].

 

فـ: (إجلال الكبير هو: حق سنه؛ لكونه تقلب في العبودية لله في أمد طويل ورحمة الصغير: موافقة لله، فإنه رحم ورفع عنه العبودية، ومعرفة حق العالم هو: حق العلم بأن يعرف قدره بما رفع الله من قدره، فإنه قال: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ﴾ [المجادلة: 11] ثم قال: ﴿ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11] [فيض القدير:5/389].

 

ومن خلال نصوص الشرع نجد أن الأمر بحسن الخطاب شامل لجميع فئات الناس:

ففي ما يتعلق بالوالدين نجد قوله تعالى: ﴿ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ [الإسراء:23].

 

كما نلحظ في قصة إبراهيم - عليه السلام - حينما كان يخاطب أباه المشرك كان خطاباً يحمل صبغة الاحترام والتوقير فقال فيما قصه علينا القرآن: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 42 - 45].

 

وهذا هو خطاب الأنبياء مع أبائهم خطاب تقدير وحب واحترام: ومن ذلك خطاب إسماعيل لأبيه إبراهيم - عليهما السلام - ﴿ قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102].

 

وخطاب يوسف لأبيه يعقوب - عليهما السلام -: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ﴾ [يوسف: 4]

 

وعلى مستوى العلاقة بين الزوجين نجده حسن الخطاب حاضراً في وصيته صلى الله عليه وسلم حين قال: " استوصوا بالنساء خيراً " [مسلم] فمن الخيرية حسن التعامل معهم قولاً وفعلاً.

 

وعن حكيم بن معاوية عن أبيه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الزوج؟ قال:" أن يطعمها إذا طعم وأن يكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت) [ابن ماجه].

 

ومعنى:( لا يقبح ): ( أي: لا يسمعها المكروه، ولا يقل قبحك الله، ولا يشتمها) [فيض القدير:3 /392].

 

وإليكم هذه القصة للعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله التي تنم عن مدى حرصه على تنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق النساء.

 

ونجد حسن الخطاب أيضاً عند مخاطبة الأبناء والصبيان، فإبراهيم لما أراد أن يذبح ولده إسماعيل بأمر الله ناداه بلفظ البنوة المشعرة بالمحبة فقال له كما ذكر القرآن: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات:102].

 

كما جاء مثل ذلك عن يعقوب- عليه السلام-: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:132].

 

وحسن الخطاب مع الأبناء العصاة أيضاً يظهر في نداء البنوة من نوح - عليه السلام - لولده المشرك، كما قص علينا القرآن: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود:42].

 

كما استخدم لقمان الحكيم هذا الأسلوب عند وعظه ونصحه لابنه: ﴿ َإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان:13] وهذا الآية مسبوقة بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾ [لقمان: 12].

 

ومن ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خطابه للأطفال ما ذكره أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: " يا أبا عمير ما فعل النغير "[البخاري].

 

كما نجد تلطفه مع خادمه أنس بن مالك - رضي الله عنه - حيث قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بني "[مسلم].

 

قال النووي رحمه الله عن فقه هذا الحديث أن فيه:( جواز قول الإنسان لغير ابنه ممن هو أصغر سناً منه: يا ابني ويا بني مصغراً، ويا ولدى ومعناه تلطف، وإنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة، وكذا يقال له ولمن هو في مثل سن المتكلم يا أخي للمعنى الذي ذكرناه وإذا قصد التلطف كان مستحباً كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ) [شرح النووي على مسلم:14 /129].

• • •

 

وأحسن خطاب ما تضمن دعوة إلى أمر الله ونهيه وإرشاده الله المتمثل بدينه الإسلام قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت:33].

 

قال ابن سعدي - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية: ( هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولاً. أي: كلاماً وطريقةً وحالةً (ممن دعا إلى الله) بتعليم الجاهلين ووعظ الغافلين، والمعرضين ومجادلة المبطلين بالأمر بعبادة الله بجميع أنواعها والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه خصوصاً من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام، وتحسينه ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الدعوة إلى الله تحبيبه إلى عباده بذكر تفاصيل نعمه وسعة جوده وكمال رحمته وذكر أوصاف كماله ونعوت جلاله، ومن الدعوة إلى الله التغريب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنه رسوله، والحث على ذلك الحث على مكارم الأخلاق والإحسان إلى عموم الخلق ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام وبر الوالدين ومن ذلك الوعظ لعموم الناس في أوقات المواسم والعوارض والمصائب بما يناسب ذلك الحال إلى غير ذلك مما لا تنحصر أفراده بما تشمله الدعوة إلى الخير كله والترهيب من جميع الشر ).

 

على المرء أن ينظر في هذا الحديث جيداً، ويتمعن بعد ذلك في كل خطاب أو كلام يصدر من فِيهِ.

 

"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت " [البخاري]

 

يقول ابن حجر - رحمه الله -: ( هذا من جوامع الكلم؛ لأن القول كله إما خير وإما شر، وإما آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال: فرضها، وندبها فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر، أو يئول إلى الشر، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت.

 

وأضاف - رحمه الله -: ( من كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولاً بالخير وسكوتاً عن الشر، وفعلاً لما ينفع، أو تركاً لما يضر) [فتح الباري ج10/ ص446].

 

وقال النووي - رحمه الله -: ( وأما قوله صلى الله عليه وسلم:" فليقل خيراً أو ليصمت" فمعناه أنه إذا أراد أن يتكلم، فإن كان ما يتكلم به خيراً محققا يثاب عليه واجباً، أو مندوباً فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه، فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنه حرام، أو مكروه، أو مباح مستوي الطرفين فعلى هذا يكون الكلام المباح مأموراً بتركه مندوباً إلى الإمساك عنه؛ مخافة من انجراره إلى المحرم، أو المكروه وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالباً وقد قال الله تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18] [شرح النووي على صحيح مسلم ج2/ ص19]

• • •

 

إخوتي:

إليكم بعض الآيات التي تصف الخطاب الذي يرده الله منا أن نتعاطاه ونستخدمه، فمن هذه الآيات:

قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ [الإسراء:23].

 

أي: بلفظ يحبانه، وتأدب وتلطف معهما بكلام لين حسن، يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما. [تفسير ابن سعدي].

 

وقوله تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾ [الأحزاب:32].

 

أي: غير غليظ ولا جاف، كما أنه ليس بلين خاضع.[تفسير ابن سعدي].

 

وقوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة:263].

 

أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم (ومغفرة) أي: عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي.[تفسير ابن كثير:1 /319].

 

قال ابن سعدي رحمه الله: ( ذكر الله أربع مراتب للإحسان: المرتبة العليا النفقة الصادرة عن نية صالحة ولم يتبعها المنفق منا ولا أذى، ثم يليها قول المعروف وهو الإحسان القولي بجميع وجوهه الذي فيه سرور المسلم، والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئاً وغير ذلك من أقوال المعروف، والثالثة: الإحسان بالعفو والمغفرة عمن أساء إليك بقول أو فعل، وهذان أفضل من الرابعة وخير منها، وهي التي يتبعها المتصدق الأذى للمعطى؛ لأنه كدر إحسانه وفعل خيراً وشراً، فالخير المحض وإن كان مفضولاً خير من الخير الذي يخالطه شر، وإن كان فاضلاً، وفي هذا التحذير العظيم لمن يؤذي من تصدق عليه، كما فعله أهل اللؤم والحمق والجهل والله تعالى غني عن صدقاتهم وعن جميع عباده).

 

وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ﴾ [الأحزاب:70 ].

 

أي: مستقيماً لا اعوجاج فيه، ولا انحراف. [تفسير ابن كثير ج3/ ص522].

 

وقوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً ﴾ [الإسراء:28].

 

أي: إذا سألك أقاربك وليس عندك شيء وأعرضت عنهم لفقد النفقة ﴿ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ﴾ [الإسراء: 28] أي عدهم وعداً بسهولة ولين إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله، ومعلوم أن الجواب بلطف قد يقوم مقام العطاء في إجابة السائل. [تفسير ابن كثير ج3/ ص38، وأضواء البيان].

 

فهذه النصوص وغيرها مما تقدم توضح طبيعة الخطاب الذي يريده منا الشارع، إنه خطاب خير وحَسَنٌ في مضمونه وشكله، محاطٌ بإطار من الرفق واللين، صادر من قلب محب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق