الجمعة، 10 سبتمبر 2021

( خمس لا يعلمهن إلا الله )

   محاضرة

(  خمس لا يعلمهن إلا الله )


 

الشيخ / عبد الرحمن بن عبد الله  السحيم

( عضو مركز الدعوة والإرشاد بالرياض )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله  نحمده ونستعينه  ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له  .

وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )

أمـا بعـد  :.

فإن الله تبارك وتعالى أثنى على الذين يؤمنون بالغيب ، وما ذلك إلا لأنهم آمنوا وصدقوا بما لم يروه من موعود الله ومن خبر رسوله صلى الله عليه وسلم  .

قال الله جل جلاله : ( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )

والإيمان بالغيب هو الذي ينفع صاحبَه .

أما إذا عاين العبد ورأى رأي عين  فإنه لا ينفعه الإيمان ، بل لا يكون إيمانا بالغيب .

كأن يُعاين ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب عند الاحتضار  ، فإن الإيمان حينئذ      لا ينفعه لأنه آمن بما هو مشاهد فلا يكون إيمان بالغيب .

قال الله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )

ولذا لما آمن فرعون عند معاينة الموت ومُصارعة الغرق لم ينفعه إيمانه ، فقال لما أدركه الغرق : (آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

فقال الله جل جلاله : ( آَلآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )

يعني الآن تؤمن لما عاينت الهلاك ... فأين أنت وقت الإمهال وزمن قبول التوبة ؟

كما أنه لا ينفعه الإيمان حينما يُدرك طلوع الشمس من مغربها ، لأنه آمن بشيء مُشاهد .

قال الله تبارك وتعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ )

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون ، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو

كسبت في إيمانها خيرا . متفق عليه .

وقال عليه الصلاة والسلام : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض . رواه مسلم .

وقد يبتلي الله عباده ليعلم سبحانه من يخافُه بالغيب ومَنْ يعلم علم يقين أن الله مطّلعٌ عليه .

قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

وقد وعد الله الذين يخشونه بالغيب بالمغفرة في الدنيا والأجر الكبير في الآخرة .

قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )

وأما علم الغيب فهو مما اختص الله به نفسه وحَجَبَه عن عباده لمصلحتهم .

قال ابن القيم – رحمه الله – وهو يُبيّن العلم الممنوح للعباد والعلم الممنوع :

قال : ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك [ أي علم ما سوى ما ينفعهم ] مما ليس في شأنهم ولا فيه مصلحة لهم ولا نشأتهم قابلة لـه ، كعلم الغيب وعلمِ ما كان وكلّ ما يكون ، والعلم بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال ومساقط الاوراق وعدد الكواكب ومقادِيرها ، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى وما في لجج البحار وأقطار العالم وما يُكِنُّه الناس في صدورهم ، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ، إلى سائر ما عزب عنهم علمه ، فمن تكلف معرفة ذلك فقد ظلم نفسه وبخس من   التوفيق حظه ولم يحصل إلا على الجهل المركب والخيال الفاسد في أكثر أمره .

وقال أيضا : ومن حكمته سبحانه ما منعهم من العلم علم الساعة ومعرفة آجالهم  وفي ذلك من الحكمة البالغة مالا يحتاج إلى نظر فلو عرف الإنسان مقدار عمره فإن كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش وكيف يتهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت فلولا طول الامل لخربت الدنيا وأنما عمارتها بالآمال ، وإن كان طويل العمر وقد تحقق ذلك فهو واثق بالبقاء فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد ويقول إذا قرب الوقت أحدثت توبة ، وهذا مذهب لا يرتضيه الله تعالى عز وجل من عباده ولا يقبله منهم ولا تصلح عليه أحوال العالم ولا يصلح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمته وسبق في علمه ، فلو أن عبدا من عبيدك عمل على أن يُسخطك أعواما ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه ولم يفز لديك بما يفوز به من همه رضاك ، وكذا سُنة الله عز وجل أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم ينفعه توبة ولا إقلاع ...

إلى أن قال – رحمه الله – : فَبَانَ أن من حكمة الله ونِعمـه على عباده أنْ سـتر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم  ،فلا يزال الكيِّس يترقب الموت وقد وضعه بين عينيه فينكف عما يضره في معاده ويجتهد فيما ينفعه ويُسرُّ به عند القدوم . انتهى كلامه .

 

وإن الله اختص نفسه بعلم خمسة أشياء ، فلا يعلمها نبيٌّ مرسل ولا مَلَكٌ مُقرّب .

فمن ادّعى علم شيءٍ من هذه الخمس فقد أعظم الفرية ، وافترى على الله الكذب ، وقد قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ )

وهذه الخمس سماها الله عز وجل مفاتح الغيب : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )

وكذلك سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله عليه الصلاة والسلام : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم ما في غد  إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله . رواه البخاري .

وإنما سُمّيت مفاتيح الغيب لأنها مفاتيح لما بعدها كما ذكر العلماء .

فقالوا :

قيام الساعة مفتاح لليوم الآخر .

ونزول الغيث مفتاح لحياة الأرض .

وعلم ما في الأرحام مفتاح لحياة المخلوقات .

وما تدري نفس ماذا تكسب غدا مفتاح للأرزاق .

وما تدري نفس بأي أرض تموت مفتاح للقيامة الصغرى لكل إنسان بحسبه .

وهذه الخمس تُعرف بالعلامات والأمارات والدلائل

كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال رضي الله عنه :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزاً  للناس ، فأتاه رجل ، فقال :يا رسول الله ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر . قال : يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان  قال : يا رسول الله ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربَّـها فذاك من أشراطها ، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمـس لا يعلمهن  إلا الله ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ثم أدبر ، فقال ردوه ، فلم يروا شيئا ، فقال : هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم  رواه البخاري ومسلم .

 

فالله سبحانه هو عالِم الغيب والشهادة .

وقد وصف الله نفسه بذلك فقال تبارك وتعالى : ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ )

وقال جل وعلا : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلاّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا )

وقال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا )

وقال جل جلاله: ( وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )

وقال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )

ولما قالت جارية : وفينا نبي يعلم ما في غد . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين . رواه البخاري .

وقالت عائشة : ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) وقرأت : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) ومـن حدثك أنه يعلم ما في غد ، فقد كذب ، ثم قرأت : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا )

ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ، ثم قرأت : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) الآية . متفق عليه .

وفي رواية لمسلم قالت رضي الله عنها : ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية – وذَكَرَتْ منهنّ - : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقـول : ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ )

ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة أمره الله عز وجل أن يقول :  ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )

ولما سأله جبريل متى الساعة ؟

قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل .

ولما خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قام النبي عليه الصلاة والسلام فزعا يخشى أن تكون الساعة فأتى المسجد فصلى . والحديث متفق عليه .

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى الساعة فغيره من باب أولى .

بل إن ملكا من الملائكة العِظام وهو إسرافيل الذي وُكِّل بالنفخ في الصور لا يعلم متى يؤمر .

قال عليه الصلاة والسلام  : كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وأحنى جبهته وأصغى سمعه ينظر متى يؤمر . قال المسلمون : يا رسول الله فما نقول ؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا . رواه الإمام أحمد والترمذي .

وقال صلى الله عليه وسلم : خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة . ما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا بن آدم  . رواه الإمام أحمد وغيره .

ويُنـزل الغيث .

فلا يعلم عدد قطر الأمطار ، ولا متى ينـزل المطر إلا الله .

ويجب على المسلم أن يعتقد جازما أن الغيث منّـةٌ من الله سبحانه وتعالى ، فلا يُنسب نزول الغيث إلى نجم ولا إلى نوء .

ولذا لما صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال :هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال : قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب . رواه البخاري ومسلم .

والنجوم أو الكواكب أو غيرها من مخلوقات الله لا يُنسب لها فعل ولا ترك .

بخلاف ما إذا كان ذلك للتوقيت لا لنسبة الأفعال إليها .

مثل قول بعض الناس : يالله بنوٍّ .. وما أشبه ذلك .

ويعلم مافي الأرحام .

وهذه المسألة مما يُشكل على بعض الناس فيظنون أن الطب اليوم توصل لمعرفة ما في الأرحام ، وليس الأمر كما ظنوا .

فالله عز وجل قال ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ) فلفظ ( مَا فِي الأَرْحَامِ ) عام يشمل الإنس والجن والوحش ، ومافي البحر من ذوات الأرحام ، والطيور ذوات الأرحام .

فلا يعلم جميع مافي هذه الأرحام إلا الله ، ولا يُحيط بها إحاطة شاملة تامة إلا الله عز وجل .

ثم إنهم لا يعلمون مافي الأرحام إنما يُحاولون ويتوقّعون فيقولون بنسبة كذا ذكر وبنسبة كذا أنثى ، ثم قد تقع ما توقعوه وقد لا يقع كما قالوا .

( إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ )

ثم – ثالثاً – لا يتكلمون عما في الأرحام إلا بعد ظهور علامات ، فهم كمن يتكلّم عن الغيث بالعلامات الدالة عليه من غيم وسحاب .

أو كمن يتكلّم عن الساعة بعلاماتها وأماراتها الدالة على قُربها .

ومهما أوتوا من علم فلن يستطيعوا معرفة أمرين :

الأول : جميع مافي الأرحام .

والثاني : معرفة مافي الأرحام قبل أربعين يوم .

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول : إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك فيقول يا رب أذكر أو أنثى ، فيجعله الله ذكرا أو أنثى ، ثم يقول يا رب أسويٌّ أو غيرُسويّ ، فيجعله الله سويا أو غيرَسويّ ،  ثم يقول يا رب ما رزقه ؟ ما أجله ؟ ما خلقه  ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا .

فهذا المَلَك علِمَ بعد مضي أربعين يوما ، فإذا علِمَ أحد بعده فلا يكون من علم الغيب المُطلق .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم   يجمع خلقه  في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . الحديث . رواه البخاري ومسلم .

وما تدري نفس ماذا تكسب غدا .

وما تدري نفس بأي أرض تموت .

وهذه يُمكن أن يعرف منها علامات وأمارات بأشياء يُسبشر بها ولا يُجزم بها ولا يُعوّل عليها .

وقد ورد في تفسير قوله تعالى : ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أنها الرؤيا الصالحة .

وقال عليه الصلاة والسلام : لم يبق من النبوة إلا المبشرات . قالوا : وما المبشرات  قال : الرؤيا الصالحة . رواه البخاري .

وفي الحديث الآخر : قالوا :يا رسول الله وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُـرى له . رواه أحمد وغيره .

وقال عليه الصلاة والسلام : الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

وأول ما بُدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل  فلق الصبح . كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها .

ومن هذا الباب – أعني باب الرؤى – ما يقع لبعض الصالحين أنه يرى في المنام رؤيا فيُقال لـه تلحق بنا  – مثلاً – بعد ثلاث ، وما أشبه ذلك .

أو أن يرى رؤيا فتُأوّل على أنه يأتيه مال في يوم كذا أو بعد أسبوع أو شهر وما اشبه ذلك

فكل هذا من الأشياء التي يُستبشر بها ولا يُعوّل عليها كما تقدّم . فهي مُبشّرات .

وقد روى ابن المبارك في كتاب الجهاد عن ثابت البناني أن فتى غزا زمانا وتعرض للشهادة فلم يصبها فحدث نفسه فقال: والله ما أراني إلا لو قفلت الى أهلي فتزوجت قال ثم قَالَ في الفسطاط ( أي نام عند الظهيرة ) ثم أيقظه أصحابه لصلاة الظهر فبكى حتى خاف أصحابه أن يكون قد أصابه شيء ، فلما رأى ذلك قال إني ليس بي بأس ، ولكنه أتاني آت وأنا في المنام فقال : انطلق إلى زوجتك العيناء ( واسعة العين ) قال فقمت معه فانطلق بي في أرض بيضاء نقية ، فأتينا على روضة ما رأيت روضة قط أحسن منها ، فإذا فيها عشر جوار ما رأيت مثلهن قط ولا أحسن منهم ، فرجوت أن تكون إحداهن ، فقلت : أفيكن العيناء ؟ قلن : هي بين أيدينا ونحن جواريها . قال : فمضيت مع صاحبي فإذا روضة أخرى يضعف حسنها على حسن التي تَرَكْت ، فيها عشرون جارية يضاعف حسنهن على حسن الجواري اللاتي خلّفت ، فرجوت أن تكون إحداهن ، فقلت : أفيكن العيناء ؟ قلن : هي بين أيدينا ونحن جواريها حتى ذكر ثلاثين جارية . قال : ثم انتهيت الى قبة من ياقوتة حمراء مجوفة قد أضاء لها ما حولها ، فقال لي صاحبي : ادخل . فدخلت ، فإذا امرأة ليس للقبة معها ضوء ، فجلست فتحدثت ساعة فجعلت تحدثني فقال صاحبي : اخرج انطلق . قال : ولا أستطيع أن أعصيه . قال : فقمت فأخَذَتْ بطرف ردائي فقالت  أفطر عندنا الليلة ، فلما أيقظتموني رأيت إنما هو حلم ، فبكيت ف، لم يلبثوا أن نودي في الخيل . قال : فركب الناس فما زالوا يتطاردون حتى إذا غابت الشمس وحل للصائم الإفطار أصيب تلك الساعة وكان صائما .

فهذا من هذا الباب لا أنه يُجزم له بالموت تلك الساعة وذلك اليوم في ذلك المكان .

وكم تعرّض سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه للقتل ولم يُقتل بل مات على فراشه

ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها . كما قال عليه الصلاة والسلام .

ومما يلحق بهذا الباب – أعني باب علم الغيب – مايدّعيه بعض الناس من علم النجوم ، وما يُسمّونه بالأبراج ، وما يتعلّق بذلك مما يزعمونه من غنى أو فقر أو مرض .

وهذه كلُّها من أمور الجاهلية كما في قوله صلى الله عليه وسلم : أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة رواه مسلم .

وقال ابن عباس : خلال من خلال الجاهلية : الطعن في الأنساب ، والنياحة والاستسقاء بالأنواء  كما في صحيح البخاري .

قال قتادة رحمه الله تعالى : إن الله تبارك وتعالى خلق هذه النجوم لثلاث خصال جعلها زينة السماء ، وجعلها يهتدي بها ، وجعلها رجوما للشياطين ، فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلّف ما لا علم له به ، وإن ناسا جهلة بأمر الله تعالى قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة مَنْ غرس بنجم كذا وكذا كان كذا ، و مَنْ ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ولعمري ما من نجم إلا يُولد به القصير والطويل والأحمر والأبيض والحسن والدميم ، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذه الطير شيئا من الغيب ... ولعمري لو أن أحداً علم الغيب لعلم آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة يأكل منها رغدا حيث شاء ونُهيَ عن شجرة واحدة فلم يزل به البلاء حتى وقع بما نهي عنه ، ولو كان أحد يعلم الغيب لعلم الجن حيث مات سليمان بن داود عليهما السلام فلبثت تعمل حولا في أشد العذاب وأشد الهوان لا يشعرون بموته فما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل من منسأته أي نأكل عصاه ، فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانت الجن تعلم الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، وكانت الجن تقول مثل ذلك : إنها كانت تعلم الغيب ، وتعلم ما في غد ، فابتلاهم الله عز وجل بذلك ، وجعل موت نبي الله عليه الصلاة والسلام للجن عظة ، وللناس عبرة . اهـ .

 

وقد كان سلفُ هذه الأمة ينهون عن تعلّم علم النجوم لأنه يدعوا إلى الكهانة والسحر والشعوذة ، وربما نُسب إليها شيء من الأفعال .

ولذا قال عليه الصلاة والسلام : من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لمولاه كُريب : يا غلام إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة .

وإذا علم أيضا أن النفع والضر بيد الله لم يلجأ إلا إلى الله ، ولم يطلب الشفاء إلا من الله ، وهو مع ذلك مأمور بفعل الأسباب المباحة .

 

وهاهنا مسألة .

وهي أن بعض الناس عبدٌ لله في الرخاء ، وأما في الشدة فإنه ينسى ربّه بخلاف المشركين الأوائل  الذين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين لـه الدين  ، وبخلاف من وصفه الله بقوله : ( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )

فإذا أصابته مصيبة من مسٍّ أو سحر أو عين لجأ إلى السحرةو والكهان والمشعوذين .

وحال بعض الناس  إذا أصيب بشيءٍ مما تقدّم كحالِ تلك المرأة التي مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي عند قبر ، فقال : اتقي الله واصبري . قالت : إليك عني ،فإنك لم تصب   بمصيبتي ، ولم تعرفه فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوّابين ، فقالت  لم أعرفك ، فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى . متفق عليه .

والإتيان إلى السحرة والعرافين والكهان الذين يدّعون أنهم يعلمون الغيب فيه خطورة على دين المسلم ....

وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من مجرّد سؤال هؤلاء لما يُحدثون في دين الناس مِنْ لَبْسٍ  وخداع

فقال عليه الصلاة والسلام : من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة . رواه مسلم .

وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام : من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد وغيره .

وقال صلى الله عليه وسلم : من أتى كاهنا فصدقه بما يقول أو أتى امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد وغيره .

والكاهن هو الذي تخدمه الشياطين فيُخبرونه بالمُغيَّبات وبما يسترقون من السمع فيُضيف إلى نلك الكلمة الواحدة التي استرقتها الشياطين مائة كِذْبَة حتى يُلبّس على الناس

وقد سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بشيء . قالوا : يا رسول الله فإنهم يحدّثون أحيانا الشيء يكون حقا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقرها في أذن وليّه قرّ الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كِـذْبَة . رواه البخاري ومسلم .

والعرّاف : قيل هو الكاهن ، وهو الذي يُخبر عن المستقبل .

وقيل اسم عام للكاهن والمنجّم والرمّال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدِّمات يستعملها .

وتصديق هؤلاء الكُهان والعرافين والمنجمين وغيرهم من الدجاجلة الأفّاكين يكون كفراً بالله من وجهين :

1 – تصديقهم بما يقولون وبما يدّعون من كذبٍ وافتراء أنهم يعلمون شئيا من الغيب

 2- عمل ما به شرك مِن ذبح أو تقرّبٍ أو إراقة ماء أو لبن في مكان معين دون ذكر اسم الله ونحو ذلك .

والسحر يعتمد ويقوم على ثلاثة أركان :

الكفر بالله – الكذب – الاستعانة بشياطين الجن .

ويُستخدم السّحـر لترويج الباطل ، كما في قصة فرعون ومحاولة تضليل الناس وصدّهم عن الحق بما كان يتعاطاه من السّحر وتوظيف السحرة لصالح إفكه وما يفتريه .

وكما في قصة أصحاب الأخدود ، فقد روى الإمام مسلم من حديث صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت ، فأبعث إلي غلاما أعلمه السحر ... في قصة طويلة .

والسّحر بضاعةٌ يهودية .

ولذا حاولت يهود أن تسحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود ، ومع ذلك صبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليُخيل إليه أن يأتي الأمر وهو لم يأته .

ولم يكن  لهذا السحر  تأثير على تبليغه صلى الله عليه وسلم لدين الله تعالى .

قالت عائشة : سَحَرَ رسولَ الله رجل من يهود يُقال لـه لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله حتى إذا كان ذات يوم وذات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا ثم قال : يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر ثم رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي والذي عند رجلي للذي عند رأسي ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب قال : من طبه قال لبيد بن الأعصم قال : في أي شيء ؟ قال في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر . قال فأين هو ؟ قال : في بئر ذي أروان ، قالت : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ثم قال : يا عائشة والله لكأن ماءها نقاعة الحناء  ، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين قالت فقلت : يا رسول الله أفلا أحرقته ؟ قال : لا أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرتُ بـها فدُفنت . رواه البخاري ومسلم .

قال الله عز وجل : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )

قال القرطبي – رحمه الله – : هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بانهم اتبعوا السحر أيضا وهم اليهود .

وكذا قال ابن جرير الطبري – رحمه الله – .

والساحر حدّه ضربة بالسيف ، ولا يُستتاب ، ولذا أمر عمر رضي الله عنه بقتل كل ساحر وساحرة .

وذلك لعظيم خطر الساحر وشرّه ، وأنه كافر بالله العظيم .

قال بجالة بن عَبَدة : أتانا كتاب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . قال فقتلنا ثلاث سواحر . رواه أحمد وغيره .

وقد قتلت حفصة جارية لها سحرتـها .

وقتل جندب الخير ساحراً كان يدعي أنه يحيي الموتى ، فقال بعد أن قتله : ليحيي نفسه إن كان صادقا .

وهم يدّعون علم الغيب أعني السحرة والكهان والعرافين والمشعوذين .

ويُلبّسون على الناس الأمر ... كما تقدّم من أنهم يسمعون الكلمة الواحدة فيزيدون عليهامائة كِـذْبَة .

فلا يأتي إلى هؤلاء ويطلب العلاج عندهم إلا من قل حظُّـه ونصيبه من الإيمان .

ومن الناس من إذا ابتلي ذهب إلى السحرة والكهان والعرافين والمشعوذين يلتمس عندهم الشفاء ، وما يدري أنه يُذهب دينه بذهابه إليهم  ، بل قد يُذهب دينه ودُنياه .

والله عز وجل لا يبتلي عباده عبثاً ، بل يبتلي عباده لحكم عظيمة ، منها :

أن الابتلاء سنة ربانية ، وامتحان ، فكلّ هذه الحياة امتحان وابتلاء ، ليعلم الله من يُطيعه ورسله بالغيب ، ومن يصبر على بلاء مولاه ممن يتسخّط الأقدار ، ولا يرضى بما قسم الله له .

ومِنْ حِكَمِ الإبتلاء : أن الله يكتب للعبد منـزلة لا يبلغها العبد بعمله فيبتليه حتى يصل إلى تلك المنـزلة .

ومنها : أن العبد يقع في الخطايا وتقع منه الزلات ، فيكون البلاء تطهيراً  لـه من الذنوب ، وإن البلاء لا يزال بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه ذنب .

أن الله عز وجل يحب الدعاء ، ويحب أن يسمع تضرع عبده فربما ابتلاه ليسمع دعائه وتضرعه ويرى انطراحه بين يدي مولاه .

أن الأبدان ربما صحّت بالعلل . فيكون أحيانا هذا المرض يطرد أمراضا أخرى أو يُصرف به كثير من الأمراض .

وما ثم إلا الله في كل حالـة         فلا تتّكل يوما على غير لطفه

 فكم حالة تأتي ويكرهها الفتى           وخيرته فيها على رغم أنفـه

وليعلم المسلم أن صبره في هذه الدنيا على البلاء والابتلاء خير لـه في الآخرة ، ولذا إذا رأى الناس يوم القيامة ما لأهل البلاء مما أعدّه الله لهم تمنّوا أنهم تعرضوا للبلاء لرفعة درجاتـهم .

قال صلى الله عليه وسلم : يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض .

فإذا صبر العبد وانطرح بين يدي ملاه وتضرع إليه وأخبت وأناب فرّج الله عنه وإلا كان دعاؤه والتجاؤه إلى الله عبادة وقربة .

ليعلم العبد أن الله جاعل لـه فرجا ومخرجا ، وأنه لن يغلب عسرٌ يُسرين ، وأنه من يتقّ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .

فإذا ذهب الإنسان إلى هؤلاء لبّسوا عليه الأمر ، وربما أورثوه الشكّ في دينه .

بخلاف ما إذا استرشد وسأل أهل العلم والتقى .

ولا أدلّ على ذلك من قصة قاتِل المائة .

فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعه وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على راهب فأتاه ، فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال : لا فقتله ، فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة  ؟ فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة . انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء .

والعلماء هم الذين يُبصّرون الناس من العمى ، ولا أدلّ على ذلك من قصة ذلك الدجال الذي يدعي علم شيء من الغيب ، وكان ...

 

فإذا علم المسلم وأيقن أن السحرة لا يعلمون الغيب ، فإنه لا يذهب إليهم ولا يأتيهم .

ومما يدلّ على ضعف السحرة والكهان والعرفين أنهم يستعينون بالضعفاء ، وهم الجن والجن لا يعلمون الغيب .

ومما يدلّ على ضعف الجن أن الله سخّـر الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام  ، فلما مات بقيّ سنة كاملة وهو متكئ على عصاه والجن مسخّرة تخدمه ولا يعلمون أنه قد مات إلا بعد أن أكلت دابة الأرض ( الأرضة ) من عصاه فلما انكسر العصا خـرّ سليمان فعلت الجن وتبيّن لهم أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .

كما قصّ الله تبارك وتعالى ذلك في كتابه فقال : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ )

فعلمت الإنس وتبيّن أمر الجن الذين كانوا يدّعون علم الغيب أنهم لا يعلمون شيئا حتى مما يقع أمامهم وعلى مرأى ومسمع .

فهم أذلّ وأحقر من أن يعلموا الغيب أو أن يملكوا ضرا أو نفعا .

وتأمل حال سحرة فرعون ، كيف جمعوا كل ما استطاعوا إليه سبيلا ، وطلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام الانتظار ( أرجه وأخاه ) حتى يجمعوا كل ما يستطيعون من سحرهم وكيدهم ، ولكن الأمر كما ذكر الله عز وجل ( ولا يُفلح الساحر حيث أتى ) فجمعوا كيدهم وصفوا صفوفهم ، وألقوا حبالهم وعصيّهم وارهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم كما وصفه الله ، حتى أوجس موسى في نفسه خيفة منها ، فأوحى الله إليه ألا يخاف ، وأن يُلقي عصاه فإذا هي كحية عظيمة تلقف وتتلقف وتبتلع  كل ما به يكيدون ، وكل ما جمعوا ...

وإذا كانوا صادقين – أعني السحرة والمشعوذين والعرافين والكهان ومن يدّعون علم الغيب فليُخبرونا بما سيكون ، لأنهم لا يُخبرون غالباً إلا بما كان ، وهذا ليس من علم الغيب .

ومما يدلّ على ضعفهم أيضا أنهم لا يستطيعون أن يعملوا السحر إلا بأخذ أثر من آثار من يُريدون أن يعملوا له السحر .

كما أنهم لا يستطيعون أن يسحروا من تحصّن بالأذكار والأوراد الشرعية .

قال ابن القيم – رحمه الله – : وبالذِّكر  يصرع العبدُ الشيطان ، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان . قال بعض السلف : إذا تمكن الـذكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان ، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون ما لهذا فيقال : قد مسه الإنسي . انتهى كلامه .

فإذا ابتُلي المسلم بشيء من المس أو السحر أو العين فليتّق الله وليصبر ، ولا يأتي إلى السحرة ليفكّوا عنه السحر بسحر مثله ، فإن من الناس من يظن ظنّاً خاطئا ويعتقد اعتقاداً باطلا وهو أنه لا يفك السحر إلا ساحر .

وهذا غير صحيح لا من جهة النقل ونصوص الكتاب والسنة ولا من جهة العقل والتجربة ...

وغلإنسان إذا أتى هؤلاء السحرة والعرافين والكهان فإما أن يصدقهم وإما ألا يُصدقهم .

فإن صدّقهم كفَرَ بالله كما تقدّم ، وإن لم يُصدّقهم لم تُقبل له صلاةٌ أربعين يوما .

ولكن عليه بعد تقوى الله والإنابة إليه والتوبة من مظالم العباد عليه بالصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم .

ثم عليه بالرقية والقراءة والعزيمة الشرعية .

وللقراءة شروط :

1 – أن تكون بالقرآن والسنة والأدعية المعروفة .

2 – أن تكون بلسان عربي مبين مفهوم .

3 – أن لا يعتقد أن النفع من القاريء أو من القراءة نفسها ، إنما النفع بيد الله ويكون الاستشفاء بكلام الله عز وجل  .

ومما يمنع الجن وتسلطهم على الإنس قراءة سورة البقرة في البيت .

كما قال عليه الصلاة والسلام : اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة . قال معاوية بن سلاّم – : بلغني أن البطلة السحرة . رواه مسلم .

وكذلك تعويذ الصبيان بالمعوذات .

فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعوّذُ الحسنَ والحسينَ ويقول : إن أباكماكان يَعوّذُ بها إسماعيلَ وإسحاق : أعوذُ بكلماتِ الله التامّة ، من كلّ شيطانٍ وهامّة ، ومن كل عينٍ لامّة . رواه البخاري .

وروى البخاري عن عمرو بن ميمون الأودي قال :كان سعدٌ ـ أي ابن أبي وقاص ـ يُعلّم بَنيهِ هَؤلاءِ الكلماتِ كما يُعلم المعلمُ الغِلمانَ الكتابَة ، ويقول : إِنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذُ منهنّ دُبُرَ الصلاةِ : اللّهمّ إِني أَعوذُ بكَ منَ الجُبنِ ، وأَعوذُ بكَ أَن أُرَدّ إِلى أَرذَلِ العُمر   وأَعوذُ بكَ من فتنةِ الدّنيا ، وأَعوذُ بكَ من عَذابِ القَبر . فحدّثتُ بهِ مُصعَباً – يعني ابن سعد – فصدّقُه .

تعويذٌ واستعاذة بالله وحده .

وكذلك إخراج الصور من البيوت ... صور ذوات الأرواح ...

وقد امتنع جبريل من دخول منـزل النبي صلى الله عليه وسلم لوجود جرو كلب ...

ويلحق بـهذا آلات اللهو والطرب ، وما يُعرض فيها من صور الرجال والنساء .

وذكر الله عند دخول المنـزل .

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا دخل الرجل بيته فذكر الله ثم دخوله وعند طعامه قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء .

وكذلك المحافظة على الورد اليومي من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم  .

وكذلك التّصبّح بسبع تمرات من تمر المدينة ، فإن من تصبّح بسبع تمرات من تمر المدينة لم يضره سم ولا سحر .

وأن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ، أعني صلاة النافلة .

وأن يقول إذا نـزل منـزلا أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق .

والمحافظة على الوضوء .

وقراءة آية الكرسي عند النوم ... وكذلك آخر آيتين من البقرة .

كثرة ذكر الله ، والابتعاد عن الغفلة .

إنما يعتمدون على التمتمات والطلاسم التي لا تفهم ، والخرز  والتعلّق بغير الله .

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى ووحدانيّته أن يكفيّنا شر الأشرار ، وأن  يُجنّبنا كيد الفجار ، وأن يشفي مرضانا ويُعافي مُبتلانا وأن يرحم موتانا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق