محاضرة في الاستقامة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، والقائمين بالقسط من الناس، الداعين إلى الثبات والاستقامة على الدين الذي ارتضى.
أما بعد:
يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30].
ويقول عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف:13].
أنها دعوة إلى الاستقامة، بعد الإيمان بالخالق، فما هي هذه الاستقامة التي من خلال هاتين الآيتين نستشف آثارها العظيمة، ونتائجها الطيبة لمن استقام على الدين.
مفهوم الاستقامة:
أود أن أشير إلى أن مفهوم "الاستقامة" هو تعبير عن الوسطية الإسلامية، وهي مفهوم يرتبط في الاستخدام القرآني بمفاهيم العدل والإيمان والأمانة والشهادة، كما أنها ترتبط في اللغة بمفهوم "القيم" حيث يشتركان في الجذر اللغوي، وهو ما يشير إلى علاقة راسخة بينهما.
والاستقامة تعني فيما تعني: تقويم الواقع، وفق الرؤية والمثالية الإسلامية، وهو ما يربط الاستقامة من خلال البعد القيمي بنفع الناس.
إن الاستقامة تعني التمسك بالدين كله، والثبات عليه، والدعوة إليه.
فيجب على كل مسلم أن يتعرف على معانيها وجوانبها في الحياة، من الاستقامة على العقيدة الصحيحة، والاتباع ونبذ الابتداع، والتوسط وعدم الغلو، فإن لهذا ثماراً كبيرة في إصلاح الفرد والمجتمع والأمة.
والاستقامة كما عرفها بعض السلف هي: "لزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". فالاستقامة إذاً هي الدين كله، (قل آمنت بالله ثم استقم)، لم يكتفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل أن يقول آمنت بالله بلسانه فقط، وإنما أمره أن يستقيم على هذا الإيمان.
أقوال في الاستقامة:
1- سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة، فقال: (أن لا تشرك بالله شيئاً ).
2- وقال عمر بن الخطاب – رحمه الله -: (الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب ).
3- وقال عثمان رضي الله عنه: (إخلاص العمل لله ).
4- وقال علي رضي الله عنه: (بأنها أداء الفرائض ).
5- وقال الحسن البصري رحمه الله: (استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته ).
6- وقال مجاهد رحمه الله: (استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله ).
7- وقال ابن زيد وقتادة رحمهما الله: (الاستقامة على طاعة الله ).
8- وقال سفيان الثوري رحمه الله: (العمل على وفاق القول ).
9- وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: (الإعراض عما سوى الله ).
10- وقال وهب: (لا يكون همّ أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وتحسينه، فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته ).
11- وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (الزهد في الفانية، والرغبة في الباقية ).
12- وقال ابن تيمية رحمه الله: (الاستقامة على محبة الله وعبوديته، وعدم الالتفات عنه يمنة أو يسرى ).
13- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أعظم الكرامة، لزوم الاستقامة ).
14- وقال شيخ الإسلام الهروي رحمه الله: (الاجتهاد في اقتصاد ).
15- قال القشيرى: (الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيماً في حالته، ضاع سعيه وخاب جهده ).
16- وقال الواسطى: ( الخصلة التي بها كملت المحاسن، وبفقدها قبحت المحاسن ).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: (هذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله، عقداً، وقولاً، وفعلاً، وداوموا على ذلك ).
ومن خلال هذه الأقوال السلفية نستخلص أن الاستقامة هي:
أولاً: الإيمان الصادق بالله عز وجل.
ثانياً: الاتباع الكامل والاقتداء التام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الملك:2] قال: أخلصه وأصوبه؛ قيل له: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل، وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أداء الواجبات: "ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضته عليه" الحديث، وفعل الواجبات أفضل من ترك المحرمات.
رابعاً: الانتهاء عن المحرمات والمكروهات.
خامساً: الإكثار من النوافل والتطوعات: "لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" الحديث.
سادساً: المداومة على أعمال الخير: "أحب العمل إلى الله أدومه" الحديث، وقالت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان عمله ديمة".
سابعاً: التوسط والاعتدال، فخير الأمور الوسط، وعمل قليل في سبيل وسنة خير من كثير في بدعة، والاعتدال لا يعني التسيب والانفلات، فبين التشدد، والالتزام، والتفلت فروق دقيقات.
ثامناً: حفظ الجوارح وسجن اللسان.
تاسعاً: السعي لتزكية النفس: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].
عاشراً: الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، وفي نيل مرضاته قدر الطاقة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
أدلة الاستقامة:
أمر الله تعالى بالاستقامة، وحث عليها في كتابه في غير موضع، وكذلك حض عليها نبيه صلى الله عليه وسلم.
فمن الكتاب:
1- قوله تعالى: ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾.
2- وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]
3- وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 14].
4- وقال مخاطباً الرسول وأمته: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ وقال بن عباس رضى الله عنهما في قول الله تعالى:﴿ فاستقم كما أمرت ﴾ (ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قالوا: قد أسرع اليك الشيب؟! فقال: " شيبتنى هود وأخواتها ".
ومن السنة:
1- ما رواه مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: "قل آمنتُ بالله ثم استقم".
زاد الترمذي: قلت: يا رسل الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، وقال: "هذا".
قال القاضي عياض رحمه الله: (هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وهو مطابق لقوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30] أى وحدوا الله وآمنوا به ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن توفوا على ذلك وعلى ما ذكرناه أكثر المفسرين من الصحابة فمن بعدهم وهو معنى الحديث ان شاء الله تعالى)
2- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم لسانه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ".
3- وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".
4- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً: " إذا أصبح ابن آدم؛ فإن الأعضاء كلها تُكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا".
أيها الإخوة:
إن معرفة الحق ممكنة، يمكن للناس أن يعرفوا الحق في أمور كثيرة، وأن يلتزموا به يوماً من أيامهم، ولكن المشكلة هي الثبات على هذا الحق الذي عرفوه، وهذا الإيمان الذي وصلوا إليه، قال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [الأحقاف:13].
إن من الناس من يسلك طريق الإيمان فيكمله حتى النهاية، ومنهم من يسلك هذا الطريق فيتعثر فيه ثم يعاود النهوض، فيمشي ثم يتعثر وهكذا، خطوات فيها تردد، ومشي فيه تباطؤ، ومن الناس -والعياذ بالله- من يسلك الطريق من أوله ثم ينكص على عقبيه فيرتد إلى طريق الضلالة والعياذ بالله.
إذاً: من هنا نستطيع أن نعلم لماذا قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [الأحقاف:13]، ثم استقاموا على هذا الطريق.. (قل آمنت بالله ثم استقم)، واصل المشوار، دون تلكؤ ولا تباطؤ.
وهذا المشكلة يقع فيها كثير من المسلمين، لا يعرفون المواصلة والثبات على الطريق الذي سلكوه، وقد يصرف بعضهم جهداً كبيراً حتى يصل إلى الطريق، فإذا ما وصل إليه تقاعس وانشغل بالدنيا وزخرفها.
أيها الإخوة: إن الاستقامة هي الدين كله، وهي لزوم طاعة الله، ومن هناك كان لابد أن يحدث شيء من التقصير أثناء استقامة الإنسان، ولذلك أمر الله المستقيمين بالاستغفار، فقال الله عز وجل: ﴿ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾ [فصلت:6] لماذا قال: (واستغفروه)، بعدما قال: فاستقيموا إليه؟ لأن الاستقامة قد لا تتهيأ كاملة لكثير من الناس، فيجب عليهم أن يستغفروا الله عز وجل إذا استقاموا على الطريق، حتى يُذهب هذا الاستغفار ما حصل منهم ويحصل من التقصير والتفريط.
جوانب الاستقامة:
أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جوانب الاستقامة، نجد أن الاستقامة تشمل جوانب الدين وأموره كلها.
1- الاستقامة على العقيدة الصحيحة:
لابد من الاستقامة على العقيدة الصحيحة، العقيدة التي هي: إيمان بالله عز وجل، وتوحيد له بجميع أنواع التوحيد.. توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.. استقامة على العقيدة التي تعني أن الإيمان قول وعمل، وليس هو تلفظ باللسان فقط. العقيدة التي تدفع الإنسان إلى العمل، ليس ذلك الإسلام البارد، الذي هو مجموعة من الألفاظ التي يتلفظ بها الناس.. إن هناك مشكلة في سلوك كثير من المسلمين، وهي أن اعتقاداتهم التي يؤمنون بها ليست حافزاً لهم على العمل، ولا دافعاً لهم لمزيد من التقديم في طاعة الله عز وجل.
2- الاتباع وترك الابتداع:
والاستقامة كذلك في جانب التزام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعد عن البدع، لذلك كانت الاستقامة وسطاً بين التفريط والإفراط، بين الغلو والتقصير..
حُكِي للإمام الشافعي رحمه الله ما قاله الليث بن سعد، فقيه مصر ومفتيها في زمانه: "لو رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: "لقد قصَّر الليث، لو رأيتم الرجل يمشي على الماء، أويطير في الهواء، فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب".
وكذلك الغلو الذي حصل من الخوارج في صدر الإسلام، هو مضاد للاستقامة التي أمر الله بها.. مع أن الخوارج كانوا يصلون صلاة أكثر من صلاة الصحابة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم) لكن القضية ليست شعائر تؤدى بكثافة فقط، وإنما هو منهج وتصور صحيح، وسنة منضبطة لها قواعد جاء بها الإسلام تحدد الطريق، وإذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده. هؤلاء هم الخوارج الذين خرجوا على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المسلمين المتمسكين بالدين تمسكاً صحيحاً، قاتلوهم بالسيف وذبحوهم وأجروا دماءهم في الأنهار، معتقدين أن عملهم هذا قربة إلى الله عز وجل، هؤلاء هم الغلاة والمتطرفون الحقيقيون.
إن التطرف والغلو هو: الخروج عن جادة الاستقامة يمنة أو يسرة، هو مجاوزة الحد الذي أمر الله به ورسوله، أما إذا استقام الإنسان على شريعة الله فيتمسك بدين الله وشرعه، ويتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، والظاهر والباطن، حتى في الشكل والمظهر والملبس، فهذا لا يمكن أن يسمى متطرفاً، ولا يمكن أن يسمى غالياً أو مغالياً. ولذلك نتيجة للجهل بمعنى الاستقامة، وبحدود السنة؛ صار الكثير من الجهلة اليوم يطلقون على المتمسكين بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم متطرفين ومغالين، ومتشددين ومتزمتين، وهكذا.. لماذا؟ لأنهم جهلوا معنى التطرف والغلو، ولأنهم يجهلون -أصلاً- ما هي الاستقامة.
أما الذي يخرج على المسلمين بالسيف فيقتل الأبرياء المستقيمين على شرع الله، ويفرق المسلمين، والذي يصوم الدهر كله، ويصلي الليل كله بلا نوم، ويترك الزواج بالكلية، ولا يأكل اللحم مطلقاً، ويعيش نباتياً.. هذا هو الذي يمكن أن نسميه متطرفاً ومغالياً ومتزمتاً ومتشدداً. أما أن نأتي إلى رجل من عباد الله الصالحين، استقام على شرع الله، يؤدي الصلوات في المساجد، عرف معنى الإيمان، وعرف معاني العقيدة الصحيحة، والتزم بشرع الله باطناً وظاهراً، ثم نسميه متطرفاً أو مغالياً في الدين!! فهذا لعمر الله هو التطرف بحده.
3- الاستقامة في جانب السلوك:
والاستقامة أيها الإخوة: تكون كذلك في جانب السلوك، فلابد أن يكون سلوك الإنسان مستقيماً، ولابد أن تكون أخلاقه مستقيمة، فلا يتلبس بشيء من سفاسف الأمور أو الأخلاق السيئة، ولذلك يعتقد بعض الناس أن الاستقامة فقط في قضايا الأخلاق، فترى أحدهم يُسأل عن فلان: ما رأيك في فلان؟ فيقول: هو والله مستقيم، تسأله: كيف هو مستقيم؟ يقول: لا يكذب، ولا يشتم، ولا يسب، وإنسان لطيف، ومعاملته طيبة، وهو مستقيم لا يستعمل الرشوة، لا يخون في معاملته، إنسان مستقيم. لكن قد يكون هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات لا يصلي، وقد يكون خرج إلى الفسق بقضايا كثيرة، ومخالفات عديدة، يرتكبها في حق نفسه. فالناس اليوم يعبرون عن الاستقامة، ويقولون: إنسان مستقيم لمجرد الأخلاق الطيبة، والأخلاق الطيبة في حد ذاتها جيدة مطلوبة لكنها لا تكفي، وهذا الفهم للاستقامة فهم قاصر جداً؛ لأنهم اقتصروا على الاستقامة في جانب واحد من الجوانب.
أنواع الاستقامة:
أيها الإخوة: إن الاستقامة هي أمر فردي وأمر جماعي، فإن هناك جوانب لا تتم الاستقامة بها على المستوى الفردي، ولا تحصل ولا تنتج إلا على المستوى الجماعي، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في الآية التي أشرنا إليها: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ﴾ [هود:112]. إذاً: نزل الأمر بالاستقامة للرسول صلى الله عليه وسلم المستقيم أصلاً، لكن ليزداد في الاستقامة ويثبت عليها، ومن تاب معه من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم خير الأمة، الذين تابوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وسلكوا سبيل الاستقامة. إذاً: هناك أمورٌ لابد من الاستقامة فيها في المجال الجماعي، كالجهاد في سبيل الله، وتوجيه طاقات الأمة، ومعاملة المجتمع الإسلامي كوحدة واحدة مع الكفرة. إذاً: لابد أن تكون استقامتنا استقامة فردية، كل إنسان بنفسه، واستقامة جماعية، استقامة المجتمع كله لله عز وجل. وفقنا الله وإياكم لأن نكون من أهل الإخلاص والاستقامة.
الاستقامة طريق إصلاح المجتمع:
أيها الإخوة: الاستقامة تدخل في مجالات كثيرة، ولو طبقت الاستقامة تطبيقاً صحيحاً لوجدت أنها الحل لجميع المشاكل، فلو أن الأب استقام على شرع الله عز وجل، فربى أولاده تربية إسلامية صحيحة، خالية من المنكرات والانحرافات، وعرف ماذا يطعم أولاده، وتحرى الحلال لهم؛ فإن هذا يساعد في إنشاء البيت المسلم، ويكون هذا البيت لبنة صالحة في المجتمع، ولو أن الأم استقامت على شريعة الله، فحفظت عرضها ومال زوجها، وأولادها، واستقامت على شرع الله، لتطهر البيت من كثير من الأرجاس والأنجاس. ولو أن التاجر استقام على شريعة الله، فتجنب الغش في بيعه وشرائه، وراقب الله عز وجل في تصرفاته، ومشى على حدود الله وأحكامه، وتجنب الحرام كالربا والرشوة وغيرها.. فتأمل ماذا سيحدث؟! ولو أن المدرس استقام على شرع الله، فاتقى الله تعالى واستقام في طريقة تدريسه، وماذا يدرس، وكيف يدرس، وعرف كيف يستغل مكانه في تربية الطلبة تربية إسلامية، فكيف سيكون الحال؟! ولو أن القاضي استقام على شرع الله عز وجل، فلم يجر في الحكم ولم يحد، وعدل العدل الذي أمر الله به، فكيف سيكون وضع المجتمع؟! وهكذا من أصناف الناس، لو أنهم كلهم استقاموا على شرع الله فكيف سيكون الأمر؟!
الاستقامة تشمل الدين كله:
أيها الإخوة: إن الاستقامة باب عظيم يشمل الدين كله، ولذلك قد لا يمكن للناس أن يمسكوا بكل أطرافه، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم: (استقيموا ولن تحصوا) أمرهم بالاستقامة، وأخبرهم بأنهم لن يستطيعوا أن يلموا بكل جوانب الإسلام، وأن يفعلوا كل ما أمر به الله عز وجل، ولذلك قال بعدها: (وسددوا وقاربوا)، أي: اتقوا الله ما استطعتم، قم بكل جهدك وطاقتك، بما تستطيع أن تؤديه من حق الله عز وجل، ولا تقصر ولا تهمل، وبعد ذلك لو فاتك شيء خارج عن إرادتك وطاقتك، فإن الله غفور رحيم.
المداومة على الأعمال الصالحة:
أيها الإخوة: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وقول الله عز وجل قبل ذلك: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت:30] يفيد فائدة تربوية عظيمة وهي: الاستمرار على عمل الطاعات، وعدم قطعها حتى ولو كانت نوافل. ولذلك كان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدومها وإن قل.
إذاً: المحافظة على الأعمال الصالحة نتيجة الاستقامة، ومن مقتضيات الاستقامة ومستلزماتها، (قل آمنت بالله ثم استقم)، واصل المشوار، وأكمل ما أنت عليه من الطاعات. وإذا تأملت معي الحديث القدسي الذي يقول: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) كلمة (لا يزال) هذه من معاني الاستقامة. والمعنى: أي هو مستمر، لا يزال يتقرب ويتقرب، ويقوم بالنوافل ويفعل، حتى يصل إلى تلك الدرجة العظيمة، (وإذا أحب الله تعالى عبداً، نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: أحبوا فلان بن فلان، ثم يوضع له القبول في الأرض).
أيها الإخوة: إن من المعاني التربوية العظيمة للاستقامة: الممارسة العملية اليومية المستمرة لهذه النوافل بقدر الطاقة، والاستمرار عليها وعدم قطعها، (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)، قطع النوافل يقسي القلب، وقطع الأشياء التي اعتادها الإنسان يقسي القلب، ويجعل النفس في وحشة بعيدة عن الله عز وجل.
ما الذي يعين على تحقيق الاستقامة؟
الاستقامة على أمر الله نعمة عظيمة، ودرجة رفيعة، ومنة عالية، فتحقيقها يحتاج إلى جد، واجتهاد، وصبر، واحتساب، ودعاء، وتضرع، وإخبات، وتوفيق، واحتراز.
أهم المعينات على تحقيق ذلك بعد توفيق الله عز وجل ما يأتي:
أولاً: الدعاء والتضرع، وسؤالها بجد وإخلاص، ولأهمية ذلك أمرنا بقراءة الفاتحة في كل ركعة، لما فيها من سؤال الصراط المستقيم المخالف لأصحاب الجحيم.
فالدعاء هو العبادة، وهو سلاح المستضعفين، وعدة الصالحين، ولا يعجز عنه إلا المخذولين، فالله سبحانه وتعالى مالك الهداية والاستقامة، فلا تُطلب إلا من مالكها.
ثانياً: الثقة بنصر الله إذ ليس أضر على استقامة المرء من يأسه من النصر والفرج، لهذا نجد أن الإسلام يبث الثقة في نفوس أبنائه ويثبتهم ويبشرهم بالنصر والفرج من ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 139، 140].
ثالثاً: الاشتغال بالعلم الشرعي، فالعلم قائد والعمل تبع له: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ﴾، فأمر بالعلم قبل العمل.
وينبغي أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويشرع في الأهم ثم المهم، وأن يتلقى من مشايخ أهل السنة الموثوق بدينهم وعقيدتهم وعلمهم، "إن هذا العلم دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم"، كما قال مالك وغيره.
رابعاً: الحرص على التمسك بالسنة، فهي سفينة النجاة، والحذر كل الحذر من البدع والاقتراب من المبتدعين، فإن ذلك هو الداء العظيم، والضلال المبين، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، كما جاء في الصحيح، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
خامساً: مراقبة الله في السر والعلن.
سادساًً: مجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، وعدم الغفلة عن ذلك، ومحاسبتها في كل وقت وحين، وعلى الجليل والحقير.
سابعاً: الإكثار من تلاوة القرآن، ومحاولة حفظه أوما تيسر منه، والمداومة على ورد ثابت.
ثامناً: الإكثار من ذكر الله عز وجل، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار وأدعية المناسبات المختلفات، فمن لم يوفق للغزو والجهاد، ولا لصيام الهواجر وقيام الليالي، فلا يفوتنه أن يعوض عن ذلك بلسانه، ففي الصحيح: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله".
تاسعاًً: الحرص على سلامة القلب، والحذر من أمراض القلب المعنوية، كالحسد، والرياء، والنفاق، والشك، والحرص، والطمع، والعُجْب، والكِبْر، وطول الأمل، وحب الدنيا، فإنها أخطر من أمراضه الحسية، وهي سبب لكل رزية.
عاشراً: التقلب بين الخوف والرجاء، في حال الصحة والشباب يغلب جانب الخوف، وعند المرض ونزول البلاء وعند الاحتضار يغلب جانب الرجاء.
الحادي عشر: مزاحمة العلماء بالركب، والقرب منهم، والحرص على الاستفادة منهم، واقتباس الأدب والسلوك قبل العلم والمعرفة.
الثاني عشر: دراسة السيرة النبوية، وتراجم الأصحاب والعلماء، يعين على تزكية النفوس والترقي بها، "فإن التشبه بالرجال فلاح".
الثالث عشر: الحرص على معاشرة الأخيار، فالمرء على دين خليله، والطيور على أشكالها تقع قال تعالى: ﴿ الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف:67].
الرابع عشر: الإكثار من ذكر الموت وتوقعه في كل وقت وحين، فهو أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الخامس عشر: القناعة بما قسم الله، والرضا بذلك، والنظر إلى من هو دونك وليس إلى من هو أرفع منك في شأن الدنيا، أما في شأن الدين:﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾.
السادس عشر: الخوف والحذر من سوء الخاتمة.
السابع عشر: سؤال الله والاستعاذة به من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
الثامن عشر: الاستفادة من الوقت، والحرص عليه، فما العمر إلا أيام، وساعات، وثوان.
التاسع عشر: تجديد التوبة والإنابة، مع تحقيق شروطها والحرص على أن تكون توبة نصوحاً.
ثمار الاستقامة ونتائجها:
ما أكثر ثمار الاستقامة، وما أجل نتائجها، وما أفضل عقباها، نسوق منها ما يلي، إذ العبرة بالخواتيم:
1- السعادة في الدنيا.
فلستُ أرى السعادة جمع مال ♦♦♦ ولكن التقي هو السعيــد
2- نزول ملائكة الرحمة على المستقيمين عند الموت مطمئنة ومثبتة لهم، ومبشرة إياهم: ﴿ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ﴾.
3- وكذلك تبشرهم في القبر بالقول الثابت.
4- وعند القيام للبعث والنشور.
5- دخل الجنة دار الكرامة والمقامة: ﴿ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر: 48].
نتائج وآثار ترك الاستقامة:
إن نتائج ترك الاستقامة، وعدم الثبات عليها خطيرة، لأن ذلك يعني الانحراف عن الدين ونهجه، وهذه النتائج تمس الفرد، والمجتمع، وقد قص علينا القرآن ما حدث لأفراد وأمم تركوا الاستقامة وانحرفوا عنها، فكان عاقبتهم الخسران في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
وقال أيضاً: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].
فكان حكم الله تعالى في قارون لما زاغ وانحرف عن جادة الاستقامة: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ [القصص: 81].
وقال في بلعام اليهودي الذي انحرف وانساق وراء الشيطان فخسر الدارين وربح الذم الأبدي: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 175 - 178].
وعبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب أم المؤمنين أسلم قديماً وهاجر بزوجته إلى أرض الحبشة فولدت له حبيبة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنه أدركه الشقاء فأعجبه دين النصرانية فتنصر، فلم ينشب أن مات بالحبشة، على ردته.
ومنهم قاضي الدولة العبيدية أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور المغربي كان مالكياً فارتد إلى مذهب الباطنية وصنف له أسَّ الدعوة ونبذ الدين وراء ظهره وألف في المناقب والمثالب ورد على أئمة الدين وانسلخ من الإسلام،وله يد طولى في فنون العلوم والفقه والاختلاف ونفس طويل في البحث فكان علمه وبالا عليه.
وما حدث لبني إسرائيل من نكبات معروفة، فما هي إلا لتركهم الاستقامة، وتنكبهم عن جادتهم ومنهجها.
إن قانون الله تعالى وسنته فيمن ترك الاستقامة، قانون صارم لا يحابي أحداً، وهو ما تقدم الخسران سواء على الصعيد الفردي، أو الجماعي، وإن اختلفت العقوبة بحسب مقدار الانحراف والزلل.
وما أصاب أمتنا من نكبات ومصائب، ما هو إلا جراء مخالفة هذا القانون والسنة الإلهية، والتنكب عن جادة الاستقامة.
عوامل هدم الاستقامة:
إن عوامل هدم الاستقامة كثيرة متشعبة تشعب الاستقامة نفسها، لكن أذكر أنها ما أراه أشهرها وأخطرها:
1- اليأس: وهو مرض قلبي نفسي فتاك يلعب دورا خطيراً في عدم استقامة الإنسان وثباته، وإن تطور فزاد عن حده خرج الإنسان من الإيمان ودخل إلى دائرة الكفر قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
2- الغلو: فقد أفسد عدداً من المسلمين قديماً وحديثاً، فنجد أن الغلو قد ساهم بظهور الخوارج قديماً وحديثاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا ".
قال ابن المنير – رحمه الله -: (في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة بل منع الافراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة).
3- التساهل في أمور الصغائر: فعن ابن مسعود – رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل يهلكنه" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلًا " كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا وانضجوا ما قذفوا فيها ".
4- الشهوات والتطلع إليها: وهذا بلاء عظيم إذ يمكن أن ينتكس الإنسان وينحرف بسبب شهوة خضع لها، إن الشهوات معاول إبليس اللعين في هدم استقامة المسلم وثباته.
5- الاستعجال: فالمستقيم لا يكون عجلاً، والعجل لا يكون مستقيماً، لأن المرء العجل يريد تحقيق أهدافه بسرعة، فإن لم يحدث ذلك، فلعله ينتكس وينحرف.
6- الفتن والمحن: هذا العامل من أفتك العوامل وأشدها تأثيراً في استقامة الإنسان، خاصة في النفس التي لم يهذبها الإسلام ولم تتشرب الإيمان، الجاهلة بحقيقة الإيمان وحقيقة البلاء، التي لم تعلم بأن البلاء سنة الله القديمة في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة وليكونوا لها أهلاً قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾[العنكبوت: 2، 3].
صور مشرقة منسير أسلافنا:
1- ثبات واستقامته أبو بكر الصديق - رضي الله عنه- من المرتدين ومانعي الزكاة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يُظهر بوضوح صدق العزيمة والثبات في نصرة دين الله، والجزيرة العربية تضطرب بالردة والنفاق، وهو ثابت كالطود الأشم لا يتنازل عن عقال ولا عن عناق حتى نصرهالله تعالى، وبقي رضي الله عنه علماً لمن أراد الاستقامة وطلبَ القدوة الصالحة.
2- موقف كعب بن مالك- رضي الله عنه- حين اعتزله الناس وجفاهأقرب الناس إليه، ورفضه لما جاء في رسالة ملك غسان التي فيها استهواء ودعوة للمواساة، وكان التنور هو أبلغ جواب لتلك الشهوات الزائلة.
3- استقامة اللسان: قال البخاري – رحمه الله -: " أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً ".
4- استقامة الهموم: جاء في ترجمة الصحابي الجليلحممة بن أبي حممة أنه بات ليلة عند التابعي هرم بن حيان العبدي، فرآه يبكي الليل أجمع، فقال له هرم: مايبكيك؟ قال: ذكرت ليل صبيحتها تبعثر القبور، ثم باتعنده ليلة ثانية ، فبات يبكي، فسأله فقال: ذكرت ليلة صبيحتها تتناثر النجوم.
5- قال أبو إسحاق: لما احتضر أبو سفيان المغير بن الحارث قال: لا تبكوا علي فإني لم أتنطّف بخطيئة منذ أسلمت.
6- قال إبراهيم الحربي عن بشر الحافي: ما أخرجت بغداد أعقل منه ولا أحفظ للسانه من بشر، ما عرف له غيبة لمسلم.
7- قال الشافعي- رحمه الله -: ما حلفت بالله صادقا ولا كاذباً.
8- قال أبو داود السجستاني: لم يكن أحمد بن حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم.
9- قال القاسم عن أبيه ابن عساكر: كان يحاسب نفسه على لحظة في غير طاعة.
10- قال ابن دقيق العيد: ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلا إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم واجعلنا من أهل السداد والاستقامة، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وارزقنا حسن الختام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق