وتحديد الأهداف لأي عمل من الأعمال التربوية أمرٌ أساسي قبل الشروع في هذا العمل وتنفيذه؛ لأن هذا التحديد يؤثر تأثيرًا كبيرًا في تكييف وتحديد مجال الدراسة، وطرقها، ووسائلها، وأساليبها التي تحقق هذه الأهداف، كما أن الأهداف غالبًا ما تكون محركًا للسلوك وموجهًا إليه.
لذا؛ كان لزامًا على دارسي التربية الإسلامية أن يحددوا أهدافها أولاً؛ حتى يستطيعوا أن يحددوا الطرق والوسائل والأساليب التي يمكن أن تحقق لهم أهدافهم، وتحركهم تجاه هذه الأهداف بقوة وفعالية؛ فالإنسان عندما يضع لنفسه هدفًا محددًا ينشط كلما اقترب منه خطوة، وكلما حقق جزءًا منه ازداد فرحًا وسرورًا وبهجة، وتصميمًا على مواصلة العمل في سبيل تحقيق باقي الهدف، ويدفعه ذلك إلى تنظيم حياته، «وتجنب اللهو والأمور التافهة التي ينشغل بها – عادةً - من ليست لهم الأهداف السامية، ولا يعرفون كيف يملَئُون أوقات فراغهم بما يعود على حياتهم بالنفع».
والإنسان الذي لا هدف له، لا يعرف لذة العمل، ولا يتذوق طعم الحماس، بل يحيا حياته ضائعًا، لا يعرف أين الجهة التي يولي وجهه شطرها، ولا يدري أين المنتهى، ولا يستطيع الجزم بأفضلية طريقة على طريقة أخرى، أو الأخذ بوسيلة دون أخرى.
إذن، فتحديد أهداف معينة للتربية الإسلامية يعد أمرًا لازمًا وضروريًّا لممارسة العملية التربوية في الإسلام، وضمان نجاحها واستمرارها وتطورها؛ لتؤتي ثمارها بأقل جهد، وأقصر وقت، وأفضل عطاء.
ما أن تحديد أهداف التربية الإسلامية يساعد على تحديد «مسارات التقدم العلمي والحضاري، ويُوَجِّه هذا التقدم إلى حيث يجب أن يتجه إليه. وكل ذلك يعد بمثابة موجهات واقية من انحراف التربية عن مسيرها المستقيم».
أما مصادر اشتقاق الأهداف التربوية فلا تخرج غالبًا عن مصدرين رئيسين، هما: الفرد والمجتمع؛ وعلى هذا اتفقت معظم الفلسفات والنظريات التربوية في الماضي والحاضر، وتتفق التربية الإسلامية مع هذه النظريات والفلسفات - في تحديد هذين المصدرين كمصادر لاشتقاق الأهداف التربوية، لكنها تنفرد عن غيرها من الفلسفات والنظريات في أن هناك مصدرًا ثالثًا يحتل مركز الصدارة بين مصادر اشتقاق الأهداف في التربية الإسلامية، وهو «الوحي الإلهي»، الذي يعد الضابط الذي تقوم عليه تربية الفرد في الإسلام.
وعلى هذا تكون مصادر اشتقاق الأهداف في التربية الإسلامية ثلاثة، هي:
والعبودية لله – تعالى - لا تقتصر على مجرد أداء شعائر ومناسك معينة: كالصلاة، والصيام، والحج - مثلاً - وإنما هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فالإنسان الذي يريد أن يتحقق فيه معنى العبودية، هو الذي يُخضع أموره كلها لما يحبه الله – تعالى - ويرضاه، سواء في ذلك ما ينتمي إلى مجال الاعتقادات، أو الأقوال، أو الأفعال؛ فهو يكيف حياته وسلوكه جميعًا لهداية الله وشرعه؛ فلا يفتقده الله حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه، وإنما يلتزم بأوامر الله فيأتي منها ما استطاع، وينزجر عن نواهيه سبحانه فلا يقربها؛ تصديقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فَأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه»؛ فالمسلم دائمًا إذا أمره الله – تعالى - أو نهاه، أو أحل له، أو حرم عليه - كان موقفه في ذلك كله: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].
وهذا هو الهدف العام الذي تعمل التربية الإسلامية على تحقيقه.
ثانيًا: الأهداف الفرعية للتربية الإسلامية:
ثانيًا: أن يتخلق الفرد في المجتمع المسلم بالأخلاق الحميدة: من صدق، وأمانة، وإخلاص... إلخ؛ مقتديًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي شهد له ربه سبحانه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثتُ؛ لأتمم مكارم الأخلاق»؛ وبذلك يمكن تهيئة المجتمع المسلم للقيام بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثًا: تنمية الشعور الجماعي لأفراد المجتمع المسلم؛ بحيث يرسخ لدى الفرد الشعور بالانتماء إلى مجتمعه؛ فيهتم بقضاياه وهمومه، ويرتبط بإخوانه؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»؛ وبذلك تتأكد روابط الأُخوَّة الإيمانية الصادقة بين أبناء الأمة المسلمة.
رابعاً: تكوين الفرد المتزن نفسيًّا وعاطفيًّا، وذلك بحسن التوجيه وحسن الحوار مع الأطفال، ومعالجة مشاكلهم النفسية... إلخ؛ مما يساعد على تكوين شخص فاعل وعضو نافع لمجتمعه.
خامسًا: صقل مواهب النشء ورعايتها؛ لتكوين الفرد المبدع، الذي يتمتع بالمواهب والملكات التي باتت ضرورة ملحة لتقدم المجتمعات في الوقت الحاضر، وذلك بتنمية قدرات النشء على التفكير الابتكاري، ووضع الحلول للمشكلات المختلفة، وتنمية قدراتهم على التركيز والتخيل والتعبير، واستثارة الذهن بالأسئلة والمناقشات، وتوجيه الأطفال إلى الأمور التي قد تكون أكبر من سنهم، ورفعِ همتهم، وتنظيم تفكيرهم.
سادساً: تكوين الفرد الصحيح جسميًّا وبدنيًّا، الذي يستطيع القيام بدوره وواجبه في عمارة الأرض واستثمار خيراتها، والقيام بأعباء الاستخلاف في الأرض ومهامه، التي جعله الله خليفته فيها؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»؛ ولهذا شجع الإسلام على أمور تقوي الجسم: كالرمي، والفروسية، والسباحة، وكان الصحابة يتبارَوْن ويتمرنون على رمي النبل، وصارع الرسولُ صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد فصرعه صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سببًا في إسلامه.
هذا وسيأتي تفصيل القول في موقف الإسلام من هذه الأهداف، وكيفية سعيه إلى تحقيقها عند الحديث في مقالات لاحقة عن ميادين ومجالات التربية في ضوء السنة النبوية بمشيئة الله تعالى.
المراجع المتخصصة:
أهمية تربية الأولاد في الإسلام
الأولاد كما في القرآن الكريم زينة الحياة الدنيا قال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾[1]، وهم نعمة تستحق الشكر ﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ﴾[2]، "وفي نفس الوقت هم مسؤولية يجب العناية بهم لاسيما فيما يصلحهم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾[3]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (علموا أنفسكم وأهليكم الخير)[4]، وعن ابن عمر - رضي الله عنه -ما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته)[5]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ، أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)[6]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما نحل والد ولداً من نحل أفضل من أدب حسن)[7]، والمعنى ما أعطى والد ولداً من عطية وهبة أفضل من تعليمه وتأديبه أدباً حسناً.
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) وأشار بين السبابة والوسطى، وفرج بينهما[8]، وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين) وضم أصابعه[9]، وعن عائشة - رضي الله عنه -ا قالت: دخلت عليَّ امرأة معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا، فأخبرته فقال: (من ابتلي بهذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)[10]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة)[11].
كل هذه النصوص وغيرها كثير دلت على فضل تربية الأولاد وهو فرع من تربية الفرد الذي يسعى الإسلام إلى إعداده وتكوينه ليكون عضواً نافعاً وإنساناً صالحاً في الحياة، بل هو مدار بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾[12]، "والتزكية هي التربية وأعظم بل أسمى ما يربى عليه الفرد تحقيق العبودية لله رب العالمين وإخلاص العبادة له والسلامة من الشرك"[13]، قال ابن كثير[14] رحمه الله: "ويزكيهم: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية"[15].
لذا اهتم العلماء المسلمون بتربية الأولاد، ويتضح ذلك من مؤلفاتهم وكتبهم سواء ما يتعلق بأهمية التربية أو بيان وسائلها أو ثمراتها، قال الغزالي[16] رحمه الله: "الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه؛ فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له"[17]، وقال أيضاً: "وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء، وكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم"[18].
بل إن الإنفاق على الأهل والأولاد عبادة؛ حيث قال الله تعالى ﴿ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[19]، وقوله تعالى: ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾[20]، وقوله تعالى ﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾[21]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)[22]، ذكر الراغب الأصفهاني"[23] أن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية من يقول لهم: (ما أشد ما مر بكم في هذا الحبس؟)، فقالوا: ما فقدنا من تربية أبنائنا "[24].
إنَّ لِنُصْحِ المربي أثراً كبيراً في تصحيح بعض الأخطاء التي قد يقع فيها الطفل؛ من إساءة الأدب، أو عدم التحلي بالأخلاق الفاضلة، أو فعل حركات غيرِ لائقة[1]؛ ولهذا فرض الإسلام طريقَة التوجيه والإرشاد والتذكير طريقةً تربوية؛ يستغلها المربي مع من يربيه، والمعلم مع من يعلمه، والمسلم مع أخيه؛ ابتغاءً للخير، ونفوراً عن الشر؛ فقال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر:1 -3]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴾ [البلد: 17]، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))[2].
واستخدامُ أسلوبِ التوجيه والإرشاد في التربية لا يجعله وَقْفاً على المربي، بل للتلميذ دورُه ورأيُه، ولِوَلِيِّ الأمر دورُه ورأيُه، ويكون للمجتمع كلِّه سُلطةُ التوجيه التربوي، فلا (ديكتاتوريةَ) لفرد، وإنما التربية جِمَاع اهتماماتِ القيادة والتلاميذ، أو أُولي الأمر والمجتمع؛ ولذا جعله الإسلام مبدأً حيويّاً من مبادئ التربية[3].
وطريقة التوجيه والإرشاد المباشر من أقرب الطُّرُق إلى مخاطبة عقل الطفل، وتبيين الحقائق له، وترتيب المعلومات الفكرية؛ ليحفظها مع فهمها؛ وهو ما يجعل الطفل أشدّ قَبولاً، وأكثر استعداداً للتلقي، أما اللفُّ والدوران فليس لهما في التعامل مع الطفل نصيبٌ، وهكذا علمَنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخاطبَ الطفلَ -في كثير من المناسبات- خطاباً مباشراً، بصراحةٍ ووضوح[4].
وقد مضى كثير من الأحاديث التي رأينا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يستخدم فيها هذا الأسلوب في تربية الطفل، ومن ذلك -أيضاً- ما رُوِي عن أنس -رضي الله عنه- قال:
ثُمَّ قَالَ لِي: ((يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّني، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ)) )[5].
فالرسولُ -صلى الله عليه وسلم- يعرِض توجيهاتِه ونصائِحَه للطفل، بأسلوب سهل مباشر، يتناسب مع قدرة الطفل على الفهم وتقبُّل الخطاب، معتمداً على كلمات مختصرة مفيدة، لا طول فيها ولا إملال، وهو ما ينسجم مع طبيعة الطفل الفكرية.
وأسلوب التوجيه والإرشاد في التربية يحتاج من المربي إلى شيء من الحرص؛ لكيلا تتحول توجيهاته وإرشاداته إلى فضائحَ وهتكٍ للستر!! فإنَّ مَن نَصَحَ أخاه سِرّاً فقد زانه، ومن نصحه جهراً فقد فضحه وشانه، وإن كان لا بد من الجهر بالتوجيه والنصيحة، فليكن ذلك بالإيماء والإشارة التي تكشف عن النصيحة المطلوبة محفوفةً بالستر، بعيداً عن الفضائح، وهو أسلوب حكيم اتَّبَعَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا رأى شيئاً من أصحابه أو بَلَغَهُ عنهم شيء، وأراد أن يدلَّهم وسائرَ أصحابِه على الحق فيه؛ فإنه لا يُصرِّحُ بأسمائهم ولكنه يُلَمِّحُ؛ فيسترُهم، ويحصلُ مقصودُه -صلى الله عليه وسلم- من النصح، فيقولُ صلى الله عليه وسلم: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا؟!))[6].
كما في قصة (الثلاثةِ الَّذِينَ أَتَوْا بُيُوتَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً. وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَصُومُ فَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَداً..؛ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا؟!)) ثُمَّ قَالَ: ((وَلَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنَ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي)) )[7].
وعن أبي حُمَيْد الساعدي قال: (اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ -يُقَالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّة- عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذا أُهْدِيَ لِي!! فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ - أَوْ: بَيْتِ أَمِّهِ- فَيَنْظُرُ: أيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً؛ إِلاِّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ إِنْ كَانَ بَعِيراً لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ))!! ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَة إِبْطَيْهِ[8]: ((اللَّهُمَّ، هَلْ بَلَّغْتُ! اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ!)). ثلاثاً)[9].
وهو في هذا يُرَبِّي أُمَّتَه بتوجيههم وإرشادهم إلى ما يُقَوِّم سُلُوكَهُم، ويهذِّب أخلاقهم.
وتقول الدكتورة سهير كامل أحمد: "إن اللعب حتى مرحلة الطفولة المبكرة هو طريقة الطفل الخاصَّة للانفتاح على العالم المحيط به، وإن الطفل يعبر في أثناء اللعب عن إحساساته الكامنة حيالَ الأفراد المحيطين به؛ وتكشفُ لُعَبُ الأطفال عن حياتهم الوجدانية التخيُّليَّةِ، وعن مدى تأثرهم بعملية التطبيع الاجتماعي التي يَخَضعون لها"[3].
وتقول الدكتورة آمنة أرشد بنجر: "إن أسلوب اللعب هو استغلال واستنفاد لطاقة الجسم الحركية، كما أنه مصدر المتعة النفسية للطفل؛ لأنه يمنح الطفل السرور والمرح والحرية، ويعده «فروبل» النشاط الروحي النقي للإنسان، فهو يشتمل على كل منابع الخير"[4].
وترى الدكتورة وفاء محمد كمال عبد الخالق أن النشاط اللعبي محدِّد لنموِّ شخصيةِ طفلِ ما قبل المدرسة، وبغير هذا النشاط لا يمكنُ لهذه الشخصية أن تنتقل إلى المرحلة اللاحقة لها؛ ومن ثَمَّ لا يمكن أن تزوَّد شخصيتُه بالخصائص اللازمة لشخصيةِ طفلِ المدرسةِ الابتدائية إلا إذا قام النشاطُ اللعبي بدوره كنشاطٍ مُهَيْمِن على المرحلة السابقة[5].
وهذه الأهمية التربوية للعب لم تغب عن أذهان علماء التربية الإسلامية من السلف، بل قد عرَف السلف –رحمهم الله– أهميةَ اللعب للطفل، وأرشدوا الآباء والمربين إلى ضرورة السماح للأطفال بقسط من اللعب؛ فها هو ذا الغزالي يقول: "ينبغي أن يُؤْذَن للصبي بعد الانصراف من الكُتَّاب أن يلعب لعباً جميلاً يستروحُ فيه من تَعَبِ المكتَبِ؛ بحيث لا يتعب في اللعب؛ فإنَّ مَنْعَ الصبي من اللعب، وإرهاقَه بالتعلم دائماً، يُميت قَلبَهُ، ويُبطِل ذَكَاءَهُ، وينغص عليه العيشَ حتى يطلب الحيلة في الخلاص من الكُتَّاب رأساً". وما أشار إليه الغزالي بالكُتَّاب هو ما يساوي المدرسة في عصرنا[6].
وقد سبقت السنة النبوية جميعَ هذه الآراء المنبهة على أهمية اللعب للطفل، إذ تضافرت النصوصُ التي تدل دلالة واضحة على اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعطاء الأطفال حقَّهم من اللعب؛ فعن أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه– أنه قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحسنُ والحسينُ –رضي الله عنهما– يلعبان بين يديه أو في حِجْره، فقلت: يا رسول الله، أتحبهما؟ فقال: ((وكيف لا أحبهما وهما رَيْحَانَتَىَّ من الدُّنْيَا أشمهما؟!))[7].
وعن جابر –رضي الله عنه– قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين -رضي الله عنهما- وهو يقول: ((نعم الجَمَل جملُكما، وَنِعْمَ الْعِدْلانِ أنتما!))[8].
وعن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– قال: رأيت الحسن والحسين -رضي الله عنهما- على عاتِقَيِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: نِعمَ الفَرَسُ تحتكما! فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ونعم الفارسان هما!))[9].
وعن البَرَاء بن عَازِب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يصلي، فجاء الحسن والحسين، أو أحدهما -رضي الله عنهما- فركب على ظهره، فكان إذا رفع رأسه قال بيده، فأمسكه، أو أمسكهما، وقال: ((نعم الْمَطِيَّةُ مَطِيَّتُكُمَا!)) وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ونعم الرَّاكِبان هما، وأبوهما خير منهما))[10].
ففي الأحاديث السابقة خير شاهد على تقديره -صلى الله عليه وسلم- لحق الطفل في اللعب، إلى الحد الذي جعله يلاعب الأطفال بنفسه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يكتفي بذلك، بل كان يقرن ذلك بمدح الطفل والثناء عليه؛ ليزيد من نشاطه النفسي في اللعب؛ فيستمر بلا كلل أو تعب، ويتابع لعبه بحب وشغف؛ وبذلك يكون اللعب غذاء جسميا ونفسيا في آن واحد[11].
وكما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلاعب الأطفال بنفسه، كان يشجعهم أيضاً على اللعب معاً، فعن يَعْلَى بن مُرَّة -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدُعِينا إلى طعام، فإذا الحسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام القوم ثم بسط يديه فجعل حسين يمر مرة هاهنا ومرة هاهنا، حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه وأذنيه ثم اعتنقه وقبله، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((حُسينُ مني وأنا منه، أحبَّ الله من أَحَبَّهُ، الحسن والحسين سِبْطَانِ من الأَسْبَاطِ))[12].
روى أبو داود بإسناد صحيح عن عائشة –رضي الله عنها– قالت: ((قَدِمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أو حُنَيْن وفي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ، فَهَبَّت ريحٌ فكشفت ناحية السِّتْرِ عن بنات لعائشة –أي: لُعَب– فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهن فرساً له جناحان من رِقَاعٍ، فقال: ما هذا الذي أرى وَسْطَهُنَّ؟ قالت: فَرَسٌ، قال: وما الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرسٌ له جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسليمان خَيلاً لها أجنحة؟! قالت: فضَحِكَ حتى رأيت نَوَاجِذَهُ))[13].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((تزوجني النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأنا بنتُ ستِّ سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فَوُعِكْتُ؛ فَتَمَزَّقَ شَعَرِي؛ فوفَى جُمَيْمَةً، فأتتني أمي أم رومان –وإني لفي أرجوحة ومعي صواحبُ لي– فصَرَخَتْ بي فأتيتُها، لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأَنْهَجُ حتى سكن بعض نفسي، ثم أَخَذَتْ شيئاً من ماء فَمَسَحَت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فَأَسْلَمَتْنِي إليهن، فأصلحن من شأني، فلم يَرُعْنِي إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إليه، وأنا يومئذ بنتُ تسعِ سنين))[14].
ففي إقراره -صلى الله عليه وسلم- لِلَعب عائشة ولُعبها التي كانت تلعب بها، ما يوضح تأكيدَ الإسلام أهميةَ اللعب للطفل، وجواز شراء اللُّعَب له؛ فعلى الآباء والمربين أن يراعوا ذلك، فيعطوا لصغارهم الفرصة للعب والترويح عن أنفسهم، ولكن مع توجيههم إلى أنواع اللعب الملائمة لهم؛ بحيث يمكن من خلالها تحقيقُ الفوائد المرجوة من اللعب، التي من أهمها:
وحتى تكون اللُّعبةُ مفيدةً وجيدة للطفل؛ لا بد للوالدين أن يطرحا على أنفسهما التساؤلات التالية حين شراء الألعاب لأطفالهم:
- التربية عن طريق جماعات الأصدقاء
- لِجماعات الأصدقاء والرفاق دورٌ كبير في حياة الفرد في مختلف مراحلِ عمره، ففي مرحلة الطفولة يُقْبِلُ الطفلُ بشَغَفٍ على مُشَاطَرة الأطفال الآخرين لعبَهم، والتعاون معهم، حتى أطلق البعض على مرحلة الطفولة مرحلةَ الاجتماعية الطبيعية؛ إذ يُحب الأطفالُ اللعبَ مع بعضهم بطريقة جماعية، ويتعاونون في نشاطاتهم المختلفة[1]، وقد وُجِدَ أن الطفل يحصل على أفضل النتائج من خلال مشاطرة الآخرين لعبهم والتعاون معهم[2].
وفي مرحلة المراهقة يرتبطُ المراهقُ ارتباطاً وثيقاً بمجموعة النُّظَرَاء (الشِّلَّة)، فيسعى إليها سعياً أكيداً، ويكافحُ في سبيل تثبيت مكانته بها، ويتبنَّى قِيَمَها ومعاييرَها ومُثُلَها السلوكية، ويتجه إليها - قبل غيرها من المجموعات الأخرى – بوجدانه وعاطفته وولائه؛ ذلك أن المراهق يشعر في وسط إخوانه بالمشابهة والمجانسة وبوحدة الأهداف والمشاعر، كما يشعر في الوقت نفسه بالهوة الواسعة التي تَفصِل بينه وبين الكبار في كثير من الأحيان[3].
كما تمارسُ جماعاتُ الأصدقاء والرِّفاق دورَها وأثرها في حياة الفرد فيما بعد مرحلة المراهقة من مراحل الحياة، وهنا تجدُرُ الإشارةُ إلى أن أماكن العمل - سواء أكانت رسميَّة أم تَطَوُّعيَّة - تُعَدُّ من جماعات الرفاق، إلا أنه يغلِب عليها الطابع الرسمي في العادة، وهي مؤسسات اجتماعية ذات تأثيرٍ مُهمٍ على تربية الإنسان بعامة؛ نظراً لما يترتب على وجوده فيها من احتكاك بالآخرين، إضافة إلى أنه يقضي فيها جزءاً ليس باليسير من وقته الذي يكتسبُ خلالَه الكثيرَ من المهارات والعادات والطباع والخبرات المختلفة.
والمعنى: أن جماعات الرِّفاق توجد وتمارس نشاطاتها المختلفة في المكان الذي يجتمع فيه أفرادُها، إذ تجمعهم – في الغالب – الاهتماماتُ المشتركة والنشاطات المرغوب فيها؛ كالنشاطات الرياضية، أو الترويحية، أو الثقافية، أو الاجتماعية، أو الوظيفية، أو التطوعية، ونحوها.
كما أنَّ لكل جماعة من جماعات الرفاق ثقافةً خاصة بهم، وهذه الثقافة تُعَدُّ فرعية ومتناسبة مع مستوياتهم العقلية والعمرية، وخبراتهم الشخصية، وحاجاتهم المختلفة، إلا أنها تختلف من جماعة إلى أخرى، تبعاً للمستويات الثقافية والتعليمية والعمرية، والأوساط الاجتماعية المتباينة[4].
وذلك الدور الكبير الذي تؤديه جماعاتُ الرِّفاق والأصدقاء في المراحل المختلفة من حياة الإنسان، يُلقِي الضوءَ على جانبٍ من جوانب التميُّز في التربية الإسلامية، التي عُنيت بجماعات الرفاق والأصدقاء؛ لأنها وسيلة مهمة من وسائل التربية؛ إذ حرَص رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على أن يَنشأ الطفلُ بين الأطفال بعيداً عن العُزْلَةِ والانطواء؛ فقد مر - صلى الله عليه وسلم - بصبيان يلعبون فَسَلَّم عليهم، فعن أنس قال: ((انتهى إلينا رسول الله وأنا غلام مع الغلمان، فسلم علينا ...))[5].
وفي هذا تنبيه منه - صلى الله عليه وسلم - على السماح للطفل بالاتصال بالأطفال الآخرين، وخصوصاً في زمن الطفولة الأولى التي تترك آثاراً دائمة في شخصيته؛ لذا فالأطفال الذين يُعزَلون عن جماعاتهم الإنسانية لسبب أو لآخر، لا يستطيعون أن يكوِّنوا شخصياتٍ إنسانية؛ إذ إن هذا التكوين لا بد له من أشخاص آخرين يتفاعلون معهم[6].
ولكن لكي يؤتي هذا الاختلاطُ ثمارَه التربوية المرغوب فيها؛ فلا بد أن يُحسِن المُرَبُّون اختيارَ الصُّحْبَة التي يختلط بها الطفل، وكذلك لا بد أن يحسن الفردُ في كل مرحلة من مراحل حياته اختيارَ صحبته ورفاقه، وهو ما نبه عليه الحق -سبحانه وتعالى- بقوله: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً ﴾ [الفرقان: 27، 28]، ويقول سبحانه: ﴿ الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
كما نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهمية اختيار الصاحب والرفيق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المرءُ على دين خليله؛ فلينظرْ أَحَدُكُم من يُخَالِل))[7].
ويقول أيضا: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصالح والجليس السَّوء كحامل المسك وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فحاملُ المسك إما أن يُحْذِيَكَ، وإما أن تَبْتَاعَ منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيِّبة، وَنَافِخُ الْكِيرِ إما أن يُحرِق ثيابَك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة))[8].
وكذلك أدرك السلفُ الصالح دورَ الرفاق والأصدقاء وتأثيرَهم في الفرد؛ فيقول الإمام علي –كرم الله وجهه-: "إياك ومخالطةَ السَّفِلة؛ فإن السَّفِلة لا تؤدي إلى خير"[10].
وينصح ابنُ سينا في تربية الصغير أن يكون معه في مكتبه "صِبْيةٌ حَسَنَةٌ آدابُهم، مَرْضِيَّةٌ عاداتُهم؛ لأن الصبيَّ عن الصبيِّ أَلْقَن، وهو عنه آخذ، وبه آنس"[12].
وعلى الآباء والمربين أن يبادروا بتوجيه الصغار إلى أهمية الصحبة الصالحة، وأن يُرَغِّبوهُم في مرافقة ذوي الأخلاق الحسنة، وأن يُنَفِّرُوهُم من رُفقَةِ ذَوِي النُّفوس الخبيثة والأخلاق الذميمة منذ الصِّغَر، ولا يهملوا ذلك إلى مراحلَ تالية؛ لأنه مع تَقَدُّم العمر بالطفل يَكره تدخلَ الآباء في اختيار رفاقه وأصدقائِهِ، ويَرْغَبُ في أن ينفرد هو باختياره؛ ولا سيما في مرحلة المراهقة، إذ يختار المُرَاهِق من يريد من أصدقائه بنفسه، ويرفضُ أيَّ تَدَخُّل من والديه في ذلك الموضوع، بخلاف الطفل، الذي لا يمانعُ مطلقاً في أن يختار له الوالدان بعضَ الأصدقاء، ومعنى ذلك أن موقف الطفل من والديه في اختيار الأصدقاء إنما هو موقفٌ سلبيٌّ[13].
فيجب على الآباء والمربين استغلالُ هذا الموقف السلبي من جهة الطفل، بتعويده اختيارَ الصديق الصالح؛ فإنه إن اعتاد ذلك في صغره شب عليه ثم استمر كذلك في باقي مراحل حياته.
وأما المراهقُ فإن دوره في اختيار الأصدقاء دورٌ إيجابيٌّ؛ ومن ثم فكثيراً ما يظهر على وجه المراهق مظاهرُ عدم الرضا عن الأسلوب الذي تتبعه الأسرة في التوجيه أو الأمر بعدم مصادقة شخص أو أشخاص معروفين بالسلوك الشاذ؛ فهو يرفض التَّدَخُّل بالأسلوب المباشر، على الرغم من قناعته بصحة وسلامة رأي الأسرة؛ لأنه يعُدُّ هذا التدخل إضعافا لشخصيته، وهذا يتطلب من المربين إذا أرادوا التدخل في اختيار أصدقاء المراهق أن يكون تدخلُهم بأسلوب غير مباشر، بأن يناقش الأب مثلاً مع ابنه قضايا الأخلاق والعلاقات الاجتماعية مناقشةً موضوعية، وأن يتحدث خلالَها عن الصفات التي يجبُ أن تتوافر في الأصدقاء، ويعطي فرصة للمراهق في الحديث الحر عن الصفات المُثْلَى للصديق[14].
ولا شك أن هذا المراهق إذا كان قد تَعَوَّد منذ الصغر اختيارَ الصديق الصالح، ونشأ على البعد عن أصدقاء السوء؛ فإن هذا سيسهل كثيراً على الأب مهمةَ توجيهه إلى ما يريد بالطريق غير المباشر.من أساليب التربية في السنَّة النبوية: استخدام المواعظ، وضرْب الأمثلة والقصص؛ فقد روي عن عبدالله بن مسعود - رضِي الله عنْه - أنَّه قال: "كان النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يَتَخَوَّلنا بالموعِظة في الأيَّام؛ كراهة السَّآمة عليْنا"[1].
ولهذا الأسلوب الَّذي أقرَّته السنَّة النبويَّة أثرٌ بالغ في تربية الإنسان، صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لما فيه من ترْقيق للقلْب، ومخاطبة للنَّفس، واستثارة لعواطفها، ولاسيَّما أنَّ في النَّفس استعدادًا للتأثُّر بما يلقى إليْها من الكلام، وهو استعداد مؤقَّت في الغالب؛ ولذلك يلزمه التَّكرار، والموعظة المؤثِّرة تفتح طريقَها إلى النَّفس مباشرة عن طريق الوجْدان، وتهزُّه هزًّا، وتُثير كوامنَه لحظةً من الوقْت، كالسَّائل الَّذي تقلب رواسبه، فتملأ كيانه؛ ولكنَّها إذا تُرِكت تترسَّب من جديد[2].
وكذلك كان أسلوب ضرْب المثَل أحدَ الأساليب الإقناعيَّة الَّتي استخْدَمها القُرآن الكريم والرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في بيان الحقائق التي يهتدي بها النَّاس، وفي إقامة الحجَّة على مَن ضلَّ عن الهدَف الذي يَرمي إليْه القُرآن والسنَّة، وهو تحقيق العبوديَّة لله وحده[3]، وغير ذلك من أهْداف التَّربية الإسلاميَّة؛ كتربية العواطِف الربَّانيَّة بإثارة الانفِعالات المناسبة للمعنى من خِلال المثل المضْروب، وتربية العقل على التَّفكير الصَّحيح، والقِياس المنطقي السَّليم[4].
وقد كان رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يستعين على توْضيح المواعظ بضرْب المثل ممَّا يشاهِدُه النَّاس بأمِّ أعيُنِهم، ويقع تَحت حواسِّهم وفي متناول أيديهم؛ ليكون وَقْع الموْعِظة في النَّفس أشدَّ، وفي الذهن أرْسَخ، ومن الأمثِلة على ذلك: ما رواه أنس بن مالك - رضِي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مَثَل المؤمِن الَّذي يقرأ القُرآن كمثل الأُتْرُجَّة: ريحها طيِّب وطعْمُها طيِّب، ومَثَل المؤمِن الَّذي لا يقرأ القُرآن كمثَل التَّمرة: طعمُها طيِّب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الَّذي يقرأ القُرآن كمثَل الرَّيحانة: ريحها طيِّب وطعمها مرٌّ، ومثَل الفاجر الَّذي لا يقْرأ القُرآن كمثل الحنظلة: طعمُها مرٌّ ولا ريح لها))[5].
ومِن الأحاديث - أيضًا - الَّتي استخدم فيها النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أسلوب ضرْب الأمثال، وأسلوب إثارة الانتِباه، وطرْح السُّؤال على أصحابه؛ ليثير النَّشاط الذِّهْني، ويجذب انتباهَهم ويشوِّقهم لما سيقولُه لهم: ما جاء عن أبِي هُريرة - رضِي الله عنْه -: أنَّه سمِع رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((أرأيْتُم لو أنَّ نهرًا بباب أحَدِكم يغتسل منْه كلَّ يوم خَمس مرَّات، هل يبقى من درَنِه شيء؟)) قالوا: لا يبْقى من درَنِه شيء، قال: ((فذلِك مثَل الصَّلوات الخَمس، يمحو الله بهنَّ الخطايا))[6].
وترجِع أهمِّيَّة استِخْدام أسلوب ضرْب المثل في التَّربية إلى كوْنِه طابعًا خاصًّا، سواءٌ في إصابة المعْنى بدقَّة، أم في إيجاز اللَّفظ مع فصاحتِه، أم في أداء الغرَض الَّذي سيق من أجلِه الكلام، وهو أعظم من أسلوب التَّلْقين؛ لأنَّه يُثير في النَّفس العواطف والمشاعِر، وعن طريق ذلك يُدفع الإنسان إلى الالتِزام بالمبادئ عمليًّا، هذا إلى جانب أنَّه يُساعد على تصْوير المعاني، وتَجسيدِها في الذِّهْن، وعن طريق ذلك يسهل الفهْم وإثبات المعاني في الذَّاكرة، واستِرْجاعها عند الحاجة[7].
وقد استخدم رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أُسْلوب القَصَص الهادف في التَّربية؛ لما للقصَّة المشتمِلة على العِظة والعبرة من تأثيرٍ بالغٍ في النُّفوس؛ لأنَّ النَّفس بطبيعتِها تنجذب إلى القصَّة، وتأخذ القصَّة بِمجامع القلوب، فإذا أودعت فيها الحكمة والعِبرة كانت الغاية، والرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لا يَحكي القصص لمجرَّد أنَّه قصص للتَّسلية وتزْجية الأوْقات؛ ولكنَّه يقصُّ القصص من أجْل التَّربية، وترسيخ المعاني الإيمانيَّة، والأخلاق المرْضية[8].
وممَّا يُرْوى عنْه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في ذلك: ما رُوِي عن أبِي هُريْرة - رضِي الله عنْه -: أنَّه سمِع النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((إنَّ ثلاثةً في بني إسرائيل: أبْرص وأقْرع وأعْمى، فأراد الله أن يبتلِيَهم، فبعث إليْهم ملكًا، فأتى الأبْرص فقال: أيُّ شيء أحبُّ إليْك؟ قال: لون حَسَن، وجِلْد حسن، ويذهب عني الَّذي قد قذرني النَّاس، قال: فمسحَه فذهب عنْه قذره، وأُعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، فقال: فأيُّ المال أحبُّ إليْك؟ قال: الإبل، قال: فأُعْطِي ناقة عُشَرَاء، فقال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأقرع فقال: أيُّ شيء أحبّ إليْك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عنِّي هذا الَّذي قذرني النَّاس، قال: فمسحه فذَهَب عنه، وأُعْطي شعرًا حسنًا، قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: البقر، فأُعْطِي بقرة حاملاً، فقال: بارك الله لك فيها.
قال: فأتى الأعْمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرُدَّ الله إليَّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فردَّ الله إليْه بصره، قال: فأيُّ المال أحب إليْك؟ قال: الغنم، فأُعْطِي شاة والدًا.
فأنتج هذَانِ وولَّدَ هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم.
قال: ثمَّ إنَّه أتى الأبْرص في صورته وهيْئته فقال: رجلٌ مسكين قد انقطعت بي الحِبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلاَّ بالله ثمَّ بك، أسألك - بالَّذي أعطاك اللَّون الحسن والجِلْد الحسن والمال - بعيرًا أتبلَّغ عليْه في سفري.
فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأنِّي أعرفك، ألَم تكُنْ أبْرص يقذرك النَّاس، فقيرًا فأعْطاك الله؟ فقال: إنَّما ورثت هذا المال كابِرًا عن كابر، فقال: إن كنتَ كاذِبا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ.
قال: وأتى الأقْرع في صورته، فقال له مثلَ ما قال لهذا، وردَّ عليه مثل ما ردَّ على هذا، فقال: إن كنتَ كاذِبًا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ.
قال: وأتى الأعْمى في صورته وهيْئته، فقال: رجُل مسكين وابنُ سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغَ لي اليوم إلاَّ بالله ثمَّ بك، أسألك - بالَّذي ردَّ عليْك بصرك - شاةً أتبلَّغ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعْمى فردَّ الله إليَّ بصَري، فخُذْ ما شئت، ودَعْ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم شيئًا أخذته لله.
فقال: أمْسِكْ مالك، فإنَّما ابتُليتُم، فقد رُضي عنك، وسُخِط على صاحبيك[9].
فبهذِه القصَّة استطاع الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يغرِس في نفوس أصحابه الكثير والكثير من القيم الإسلامية؛ كالصِّدْق، والكرم، وشُكْر النِّعمة ... إلخ، بأُسلوبٍ كلُّه تشْويق وإثارة، وطرافة في الموْضوع، وبساطة في الأسلوب[10].
ومن القصص المؤثِّرة والمقْنِعة الَّتي وردتْ في السنَّة أيضًا: قصَّة أصْحاب الغار، وقصَّة اختِصام الملائكة فيمن قتَل مائةَ نفْسٍ، ثمَّ توبته بعد ذلك، وغيرها كثير، ممَّا يجعل في عرْضها الفائدة الكبيرة في إنْجاح العمليَّة التَّربوية وتأكيد فاعليتها؛ وذلك لاشتِمالها على الفوائد التَّالية:
1- التَّشويق، وجذْب الانتباه، وترْكيز الذِّهن، وإثارة المشاعر، بِما يشدُّ السَّامع إلى مجْريات القصَّة؛ حتَّى يستجليَ أحداثَها ويعرف نتائجها.
2- تحفيز السَّامع أو القارئ إلى أخْذ العِبْرة من أبْطال القصَّة، واختيار السَّبيل المناسب.
3- دفع السَّامع أو القارئ إلى الاقتِداء بأبطال القصَّة في الأمور الخيِّرة، ونبذ ما سوى ذلك.
4- إشْباع حبِّ الاطِّلاع لدى السَّامع أو القارئ؛ لمعْرِفة مواقف وفواصل وتداخُلات القصَّة حتَّى يصِل إلى عُقْدة الحل.
5- التَّركيز على "عمليَّة الإيحاء"، الَّتي تُعْتَبر من أهمِّ وسائل الإقْناع في التَّربية والتَّوجيه[11].
وكل هذا وغيْره يَجعل للقصَّة أهمِّيَّة بالغة، تتمثَّل في تأْثيرها النَّفسي الكبير عند المتعلِّم، وهو ما يدفعه تلقائيًّا إلى تعْديل سلوكه وتغْيير ميوله[12].
وقد أكَّدت الدِّراسات الحديثة: أنَّ القصَّة مصْدر هامٌّ من مصادِر المعْرِفة، الَّتي يستمدُّ منها الطِّفْل إحساسَه بذاتِه بين البشر، ويستطيع من خِلالِها أن يسيْطِر على العالم من حولِه بما يملكُه من معارف، ومن خِلال القصَّة يستطيع الطِّفل أن يجِد الإجابة عن العديد من تساؤُلاته، ويحلَّ كثيرًا من الألْغاز الوجوديَّة التي يُجابِهها، ويجد الحلول لكثيرٍ من المشْكِلات الَّتي يصادِفُها انفعاليًّا، "بتقديم النَّماذج الإيجابيَّة من أبطال هذه القصَص التي يتعاطف معها الطفل، ويعرف مِن خلالِها كيف يحلُّ أزماته الانفعاليَّة، ويكون قادرًا على السَّيْطرة على عالمه الدَّاخلي، كما تشكِّل القصَّة ركنًا هامًّا من أرْكان تحديد الهُوِيَّة الاجتِماعيَّة للطِّفْل، وانتِمائه الثَّقافي من خلال موضوعاتِها ورموزها، المرتبطة بالواقع والمجتمع المحيط بالطفل من جهة، والمرتبطة بالثَّقافة العامَّة للمجتمع من جهة أخرى"[13].
وفي هذا كلِّه ما يؤكِّد على الأهميَّة التَّربويَّة لأسلوب القَصِّ؛ فعلى المربِّين أن يُكثروا من رواية القِصص والحكايات التي تزوِّد صغارهم بالخبرات، وتكون متضمِّنة ذكر الله - تعالى - وقدرته، ويفضَّل أن تُرْوَى للصَّغير القصص التي يكون فيها الحيوانات والطُّيور؛ لأنَّه يحبُّها، ولأنَّها توسِّع خياله وتَجعله يحب القصص والحكايات.
ويجب أن يخصَّص وقت من النَّهار (قبل النوم مثلاً)، وفي نهاية الأسبوع، وفي الرحلات؛ وذلك لسرْد القصص التي يستمدُّ منها الطِّفْل خبرات الآخرين، وتزْرع في نفسِه القِيَم وحبَّ الخير، وتُتِيح له فُرْصة الحوار مع والدَيْه أو أحدهما؛ لتفسير المواقف الَّتي مرَّ بها.
وتُرْوى له حكاية الإنسان على الأرْض (قصَّة سيِّدنا آدم - عليه السلام -)، ويوضَّح له أنَّ عدو الإنسان على هذه الأرْض هو الشَّيطان الذي يأمُر بالشَّرِّ، وأنَّ الإنسان يجب أن يعْمَل الخير، ويعبد الله؛ حتَّى يرجع إلى الجنَّة.
وتُرْوى له قصص الأنبِياء، ويُحَبَّب إليْه الأنبياء والصالحون، وتُرْوى له حكايات عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - توضِّح صفاتِه وأخلاقَه، ممَّا يحبِّب إليْه الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم.الإقناع هو: "عملية إرضاء، يقوم فيها المربِّي باستخدام الطُّرُق المؤَثِّرة، التي تجعل نفس المتعلِّم ترضى - بكامل جوانبها - بالشيء المعتقَد، وتقتنع به، بعيدًا عن أيِّ عامل خارجي، ويأتي الاتِّباع نتيجة لهذا الإقناع"[1].
والتربية عن طريق حوار العقل والإقناع من الأساليب المهمة، التي حرص عليها القرآنُ الكريم والسنَّةُ النبوية في تربية الأمة الإسلاميَّة؛ ففي القرآن الكريم العديدُ من النصوص التي تسوق إلى البشر أدلَّةً فِطْريَّةً[2]؛ بهدف إقناعهم بوُجُود الخالق – سبحانه - وقدرته على إنشاء الخلق، وإعادة بعْثه، وغير ذلك من القضايا العَقَدية والإيمانية.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27]، ويقول تعالى في شأن مَن استنكر أمْر بعث الأجساد والعظام، بعد أن تَبْلَى وتصير رميمًا: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78، 79]، ويقول تعالى لِمَن استغرب أو تعجَّب تعجُّبًا إنكاريًّا أن يكونَ المسيح - عليه السلام - وُلِدَ بدون أب: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]؛ أي: أيها المنكرون لِولادة عيسى مِن أم دون أب، لماذا قبلتُم خلْق آدم، وهو الذي خُلِق من غير أمٍّ ولا أبٍ؟! فالأَوْلَى بكم أن تُنكروا خلق آدم؛ فهو أعظمُ مِن خلق عيسى[3].
وتؤكِّد السُّنة النبوية اهتمامَ الإسلام بأُسلوب التربية عن طريق العقل والإقناع؛ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على تعليم أصحابه بطريق الحوار[4]، وكان - صلى الله عليه وسلم - يُحاور في سبيل الإقناع وإقامة الحجة؛ فعن أَبي أُمامةَ رضي الله عنه: أَنَّ فتىً من قريشٍ أَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - فقالَ: يا رسولَ الله، ائْذَنْ لي في الزِّنا، فأقْبلَ القومُ عليهِ وزَجَروهُ، وقالُوا: مَهْ مَهْ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ادْنُهْ))، فَدَنا مِنهُ قريبًا، وجعل النبي - عليه الصلاة والسلام – يحاوره ويقول له: ((أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟))، قال الفتى: لا والله، جعلَني الله فِدَاكَ، قال: ((ولا الناسُ يحبُّونَهُ لأمَّهاتِهِمْ))، قال: ((أَفتحِبُّه لابنتكَ؟))، قالَ: لا والله يا رسولَ الله، جعلَني الله فداكَ، قال: ((ولا الناسُ يحبُّونَهُ لِبَناتِهِمْ))، قالَ: ((أَفتحِبُّه لأخْتِكَ؟))، قال: لا والله يا رسولَ الله، جعلَني الله فداكَ، قال: ((ولا الناسُ يحبُّونَه لأخَواتِهم))، قال: ((أَتحبُّهُ لعمَّتِكَ؟))، قال: لا والله يا رسولَ الله، جعلني الله فداكَ، قال: ((ولا الناسُ يحبونَهُ لعَمَّاتِهم))، قال: ((أَتحبهُ لخالتِكَ؟))، قالَ: لا والله يا رسولَ الله، جعلني الله فداك، قالَ: ((ولا الناسُ يحبونَهُ لخَالاتِهِمْ))، قال: فوضَعَ يدَهُ عليه وقالَ: ((اللهمَّ اغفِرْ ذَنْبهُ، وطهِّرْ قَلبَهُ، وحَصِّنْ فرجَهُ))، قال: فلَمْ يكُنْ بَعْدَ ذلكَ الفَتى يلتفِتُ إِلى شيءٍ"؛ رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني.
فنجد أن النبي صلى الله وسلم في هذا الموقف التربوي العظيم قد استخدم الحوار العقلي عن طريق قياس معاملة الآخرين من الناس على معامَلة النفس، لأن النفس البشرية بطبيعتها تحب لذاتها الخير وتكره لها الشر ، وعليه فيجب أن تتجب أذى الآخرين لتنجو من أذاهم .
فما لا يحبه الإنسان لنفسه لا يحبه الآخرون لأنفسهم أيضاً.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعتمد على أُسلوب الحوار للإقناع أيضًا مع الصغار، كما يعتمد عليه مع الكبار، مع الفارق - بالطبع - في كيفيَّة الحوار وطريقته؛ ومن ذلك ما يُروى عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: أُيِّمَت أمي، وقدمتْ المدينة، فخطبها الناس، فقالت: لا أتزوج إلا برجل يكفل لي هذا اليتيم، فتزوجها رجل من الأنصار، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فيُلْحِق مَن أدرك منهم، قال: فعُرِضْتُ عامًا، فألحق غلامًا، وردَّني، فقلت: يا رسول الله، لقد ألحقتَه ورددتني، ولو صارعتُه لصرعته، قال: ((فصارِعْه))، فصارعته فصرعته، فألحقني[5].
وسار الصحابةُ بعد ذلك على منهاج النبوة؛ فهذا عمر بن الخطاب - أمير المؤمنين - يشكو إليه أبٌ عقوق ولده، فما كان من عمر إلا أن استدعى الابن ليفهمَ الحقيقة، فقال عمر للابن: ما حملك على عقوق أبيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما حقُّ الولد على أبيه؟ قال: أن يحسن اسمه، وأن يحسن اختيار أمِّه، وأن يعلِّمه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبي لم يفعل شيئًا من ذلك، فالتفت عمر للأب وقال له: لقد عققتَ ولدك قبل أن يعقَّك.
وكان عمر يُحاور الصبيان، حتى إنه يستشيرهم في الأُمُور المهمَّة[6]؛ حيث كان يفعل ذلك مع ابن عباس - رضي الله عنهما.
وهكذا عُنِي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُه بأُسلوب الحوار، كأسلوب مِن أقوى أساليب الإقناع؛ وما ذاك إلا لأنه يُعَرِّف بالأساس العقليِّ والمنطقي لأية قضية تطرَح؛ ليرقى بالمتلقِّي من أسلوب التقليد الأعمى إلى أسلوب إعمال الفِكْر، وإيضاح الحقائق، والحرية في مناقشة أية فكرة تَعْرِض له، حتى يجد الحلَّ الذي يتمَشَّى مع الفطرة السليمة، والعقل الصحيح، دون أن يُفرض عليه بالقوة[7]، أو يكون مجرد تقليد أعمى لغيره.
وذلك لأن التقليد لا يخلق في الإنسان تلك الحركةَ، والتفاعُل، والطاقاتِ التي توجد عند مَن يؤمن بالشيء عن طريق العقل والاقتناع، وأوضح دليل على ذلك: ما نلمسه هذه الأيام مِن تحوُّلٍ في أداء كثير من المسلمين للعبادات؛ حيث أصبحوا يؤدُّونها كمُجرد طقوس وعادات، أكثر من أن تكون رُوحًا وإشْراقًا وصعودًا في معارج الترقِّي، ومواصلة التقرُّب إلى الله تعالى[8]؛ كما كان أداؤُها كذلك عند السَّلَف الصالح، وما الفرْق بين السلَف والخلَف في ذلك إلا أن إيمان الأَوَّلين كان نتيجةَ اقتناع حقيقي، أما إيمان أكثر الخلَف اليوم، فهو - للأسف - إيمان تقليدي.
وفي ضوء ما سبق، ينبغي على المربِّين اليوم أن يهتموا بالحوار مع أطفالهم؛ لأنَّ الحوار الهادئ ينمِّي عقل الطفل، ويوسِّع مداركه، ويزيد من نشاطه في الكَشْف عن حقائق الأمور، ومجريات الحوادث والأيام، وإن تدريب الطِّفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدَيْن إلى قمَّة التربية والبناء؛ إذ عندها يستطيع الطفلُ أن يعبِّرَ عن حُقُوقه، وبإمكانه أن يسأل عن مجاهيلَ لم يدْركها؛ وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له، فيغدو في مجالس الكبار، فإذا لوجوده أثر، وإذا لآرائه الفكرية صَدًى في نفوس الكبار؛ لأنه تدرَّب في بيته مع والديه على الحوار، وأدبه، وطرقه، وأساليبه... واكتسب خبرة الحوار من والديه[9].
ومما لا شك فيه أنَّ أُسلوب الحوار من الأساليب المحبَّبة في التدريس؛ فبه تثبت المعلومات، وترسخ المفاهيم؛ للأسباب التالية:
أولاً: أن الحوار يُعطي الموضوع حيوية؛ مما لا يدَع مجالاً للمَلَل، بل يدفع الطالبَ إلى الاهتمام والتتبُّع.
ثانيًا: أن الحوار يوقظ العواطف والانفعالات؛ مما يساعد في تربيتها وتوجيهها نحو المَثَل الأعلى، كما يساعد على تأصيل الفكرة في النفْس وتعْميقها.
ثالثًا: أنه عن طريق الحوار يُمكن عرْض الحجج عرْضًا فكريًّا، يُمكن من خلاله دحْض الحجج الباطلة، وإظهار الحقيقة ببراهينها.
رابعًا: أن الحوار يُعطي فرصة للطالب في الأخْذ والرَّد، وإثبات الحقائق، وتجلية الشبهات، كما يُعطيه فرصة في معرفة الحقائق، والاستفسار عنها، وإمكانية ترديدها.
وبهذه الأمور يستطيع الطالبُ أن يكتسبَ كمًّا كبيرًا من المعلومات والمعارف، التي تساعده في الحصول على مستوى أعلى بين زملائه[10].
وبالتربية عن طريق العقل والإقناع - أيضًا - يستطيع المربِّي والمعلِّم أن يرسخَ في نفس الناشئ والمتعلم الإيمانَ بالله تعالى؛ وذلك بأن يوجِّه المربِّي نظر من يُربِّيهم إلى الحقائق الكونية، ودلائل قدرة الله - تعالى - الظاهرة في الأنفس، والمأكولات، والحيوانات... إلخ، ويُريهم ما في ذلك كلِّه من دلالات على صناعة الصانع الحكيم؛ ليزيد إيمانهم كلما رأوا آية تدل على وجود الله المبدع الكريم، وذلك حسب نمو مداركهم، ومستوى ثقافتهم وتعليمهم؛ وذلك وفقًا لتوجيهات نظريَّة التربية والتعليم في الإسلام، التي تدعو إلى دراسة الحقائق من ناحيتَيْن: دراستها من حيث هي حقائقُ، ودراستها من حيث دلالتُها على الصُّنع والإبداع والتَّجميل[11].
ويُمكن الاستعانة في ذلك بما تقدِّمه العلوم الحديثة منَ اكتشافات عظيمة، تؤكِّد قدرةَ الخالق سبحانه؛ حيث كان للاكتشافات المذْهلة في العُقُود الأخيرة من هذا القرن دورٌ بارز في تأسيس انتصارات علمية فكرية لصالح الإيمان؛ ولذا جاءت الدعوةُ إليه على ألسنة علماء الفيزياء والكيمياء والفضاء، الذين أخرجوا لنا الكتابين المشهورين: "الله يتجلَّى في عصر العلم"، و"العلم يدعو إلى الإيمان"؛ لكربيس موريس.
كما أنَّ علمَ الطب قدَّمَ لنا دراساتٍ علمية، وكشوفًا مهمة، لها من القيمة الطبيَّة والعلميَّة الأهميَّة البالغة، ثم كان لها الأَثَر البارِز على قضية الإيمانفَطَرَ الله الإنسان على حبِّ المثوبة، وما فيها من لذَّة ونعيم؛ فإنه يَرْغَب في ذلك ويعمل من أجل تحقيقه، كما فطره - أيضًا - على بُغض العقاب، وما يَتَرَتَّب عليه من أَلَم وشقاء، فإنه يرهبه وينفر منه.
ولهذا عُنِي القرآن الكريم والسنة النبوية بالترغيب والترهيب، كأسلوب مهمٍّ من أساليب التربية.
والترغيب: وعْد يصحبه تحبيب وإغراء بمصلحة أو لذة أو متعة آجلة، مؤكدة، خيِّرة، خالصة من الشوائب، مقابل القيام بعَمَل صالح، أو الامتناع عن لذَّة ضارة أو عمل سيئ؛ ابتغاءَ مرْضاة الله، وذلك رحمة من الله بعبادِه.
والترهيب: وعيد وتهديد بعقوبة تترتَّب على اقتراف إثْم أو ذنب، مما نهى الله عنه، أو على التهاون في أداء فريضة مما أمَرَ الله به، أو هو تهديد من الله يقصد به تخويف عباده، وإظهار صفة من صفات الجبروت والعظمة الإلهية؛ ليكونوا دائمًا على حذر منَ ارتكاب الهَفَوات والمعاصي[1].
ويمتاز أُسلوب الترغيب والترْهيب في القرآن الكريم والسنة النبوية، عن غَيْره من أساليب الثواب والعقاب في المناهج التربويَّة الأخرى - بأنه يعتمد على الإقناع والبرهان، ويكون مصحوبًا بتصوير فنيٍّ رائع للثواب المرغَّب فيه، المتمَثِّل في الجنة، وكذلك للعقاب المنتظر، المتمثل في جهنم - أعاذنا الله منها –كما يعتمد الترغيب والترهيب في القرآن والسنة - أيضًا - على إثارة الانفعالات وتربية العواطف الربانية؛ كعاطفة الخوف من الله تعالى، والتذلُّل والخشوع له – سبحانه - والطَّمَع في رحمته، والأَمَل في ثوابه[2].
ومن أساليب الثواب والعقاب التي يُمكن أن تستنبط منَ السنة النبوية ما يلي:
أولاً: من أساليب الثواب:
1- القُبلة:
تُعَدُّ القُبلة للطفل الصغير أسلوبًا مهمًّا من أساليب الإثابة؛ وذلك لأنَّ للقُبلة دورًا فعَّالاً في تحريك مشاعر الطفل وعاطفته، كما أن لها دورًا كبيرًا في تسكين ثَوَرانه وغضبه، بالإضافة إلى الشعور بالارتباط الوثيق في تشييد علاقة الحب بين الكبير والصغير، وهي دليلُ رحمة القلب والفؤاد بهذا الطفل الناشئ، وهي برهان على تواضُع الكبير للصغير، وهي النور الساطع الذي يبهر فؤاد الطفل، ويشرح نفسه، ويزيد من تفاعله مع مَنْ حوله، ثم هي أولاً وأخيرًا السُّنة الثابتة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مع الأطفال.
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قَدِم ناس من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتُقَبِّلون صبيانكم؟ فقال: ((نعم))، قالوا: لكنا والله لا نُقَبِّل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَوَأَمْلِك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة؟!))[3].
2- إدخال السرور على الطفل بمُداعبته ومُمازحته:
إحساس الفرح والسرور يلعب في نفس الطفل شيئًا عجيبًا، ويؤثِّر في نفسه تأثيرًا قويًّا، فالأطفال - وهم براعم البراءة والصفاء - يحبُّون الفرح، بل هم أداة الفرح للكبار، ويحبون الابتسامة حين يشاهدونها على وُجُوه الكبار.
وبالتالي فإن تحريك هذا المؤثِّر في نفس الطفل سيورث الانطلاق والحيوية في نفسه، كما يجعله على أُهْبَة الاستعداد لتلقِّي أي أمْر، أو مُلاحَظة، أو إرْشاد.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُدْخل الفَرَح والسرور على نُفُوس الأطْفال؛ لما للسرور من بَراعة في إسعاد الطفل، ولما للفَرَح من قوَّة في التأثير[4].
3- الإثابة بالمدْح والثناء:
مدْح المربِّي للصغير وثناؤه عليه مِن أكثر الأُمُور التي تدخِل السرور على قلْبه، وتشعره بأهمية هذا العمل الذي مُدِح من أجْله، وتدفعه إلى تَكراره والاستكثار منه؛ وفي السنة النبوية ما يدلُّ على أهمية المدح والثناء، كوسيلةٍ من وسائل الإثابة والتشجيع على طَلَب العلم؛ من ذلك ما رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد ظننتُ ألاَّ يسألني أحدٌ عن هذا الحديث أول منك؛ لما علمتُ من حرصك على الحديث...))[5].
فبهذا المدْح والثناء الرَّقيق يستثير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أبي هريرة الرغبة والحرص على طَلَب الحديث، ويدفعه دائمًا لأن يكون سبَّاقًا في السؤال عنه.
4- الإثابة بالمكافَأة المادية (الهدية):
الهديَّة تُدخل السرور على النفوس، وتزيد أواصر المحبة بين المُهْدِي والمُهْدَى إليه، وهو ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((تهادوا تحابُّوا))[6].
ومن ثَم؛ فإن منَ الوسائل التربوية المُفيدة تقديمَ الهدايا والمكافآت المادية للمجيدين والمتفوِّقين من الناشئة والمتعلِّمين؛ فإن ذلك يثير نشاط المتعلِّم، ويبعث فيه الحماس، ويفجر فيه ينابيع الطموح والتنافُس والعزيمة، ويحرك فيه الجد والاجتهاد، والإخلاص والاستقامة[7].
ثانيًا: مِن وسائل العقاب:
1- الحِرْمان منَ التشجيع:
من وسائل العقاب التي أرشدت إليها السنة النبوية: الحِرْمان منَ التشجيع؛ حيث يعمد المربِّي إلى حرمان مَن يعاقبه مما كان قد عوَّده من تشجيع، أو مدح، أو ثناء، وما شابه ذلك؛ يدل لهذا من سنته - صلى الله عليه وسلم - ما ترويه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في قصة الإفك من موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها حين مرضتْ، وأنه لم يكن يزيد على قوله: ((كيف تِيكُم؟))[8]، دون أن ترى منه - صلى الله عليه وسلم - ما كانت تراه من اللُّطْف الذي كانتْ تعرفه منه حين تمْرض.
وبهذه الطريقة في المعامَلة يضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمام المربِّين وسيلة من وسائل العقاب التربوي، قد تكون من أجدى أنواع العقوبات التي يُمكن أن يعاقب بها الطفل، وأكثرها ملاءمة لنفسيته في المراحل الأولى من دراسته[9].
2- اللَّوم والتوبيخ:
لا بأس أن يلجأ المرَبِّي إلى توبيخ الناشئ أو المتعلم إذا ما أخطأ خطأ يستوجب العقاب، ويمكن الزجْر عنه بالتوبيخ.
وقد استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسلوب التوبيخ حيث دعت الحاجة إلى ذلك؛ حيث يُروى عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -: أنه عَيَّر رجلاً بسواد أمِّه، فوبَّخه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: ((إنك امرُؤٌ فيك جاهلية))[10].
لكن ينبغي للمربِّي ألاَّ يُفْرط في استخدام التوبيخ؛ لأن ذلك قد يكون له تأثير سلبي على الناشئ، فلا بد أن يراعي المؤدِّب حال الصغار، والفروق بينهم في الطباع والأخلاق، فمنهم مَن يكفي في لومه وإشعاره بخطئه نظرةٌ قاسية، ومنهم من يرتجف فؤاده بالتلميح، ومنهم مَن لا يردعه إلا التصريح باللوم والتوبيخ، وعلى المربِّي أن يحدِّدَ الطريقة الملائمة للتوبيخ مع كل منهم.
3- الهجْر والمقاطعة:
وقد لجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الأسلوب في عقابه للثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك؛ حيث أَمَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته ألاَّ يكلِّموهم، فجرت المقاطعة بين المسلمين وبين هؤلاء الثلاثة؛ حتى ضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت[11]؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 117 - 118].
وهذا يدل على أن مؤدب الناشِئِين يحق له - بل يجب عليه أحيانًا - أن يَحرم المخطئين من مُعاشَرة زملائهم فترة من الزَّمَن؛ عقوبة وردعًا لهم، حتى يشعر بندمهم وتوبتهم ورجوعهم إلى الصواب، أو يأخذ عليهم العهْد بذلك، شريطة أن يعرفوا أخطاءهم، وسبب إنزال هذه العقوبة بهم، وأن يتوسَّم فيهم الاستفادة من هذه العقوبة[12].
4- العقاب البدني:
أقرَّت السنة النبوية العقاب البَدَني كوسيلة من وسائل مُعالجة الأخطاء، إذا توقَّف العلاج على ذلك؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر))[13].
لكن لا بد منَ الحَذَر من المبالغة في العقاب البدني؛ بل لا بد أن يقتصرَ المربِّي منه على أقلِّ ما يؤدِّي الغرض؛ ومن ثم ينبغي أن يراعي المربي عند إقدامه على العقاب البدني ما يلي:
أولاً: الاكتفاء بإظهار أداة العقاب إن تم الزجْر بذلك؛ لأن كثيرًا من الصغار والأطفال يرتدعون وينزجرون بمجرَّد رؤيتهم للعصا أو السوط، ونحو ذلك من أدوات العقاب البَدَني، فإذا ارتدعوا وانزجروا، فقد حصل المقصود؛ فلا داعي إلى الإيقاع الفعلي للضَّرْب.
وقد أرشدت السنة النبوية إلى مجرَّد إظهار أداة العقاب، وهو في حدِّ ذاته وسيلة من وسائل التأديب؛ حيث يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا: ((علِّقوا السوط حيث يراه أهل البيت؛ فإنه أدب لهم))[14].
ثانيًا: الاقتصار على شدِّ الأذن ونحو ذلك، دون لجوء إلى الضرب، حيث كان ذلك مجديًا؛ لأن الصغير يتعرَّف بذلك على ألم المخالفة، وعذاب الفعل الشنيع الذي ارتكبه، واستحقَّ عليه شدَّ أذنه؛ فقد قال النووي في "الأذكار": روِّينا في كتاب ابن السني عن عبدالله بن بسر المازني الصحابي - رضي الله عنه - قال: بعثتني أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقِطْف من عنب، فأكلْتُ منه قبل أن أبلغه إياه، فلما جئت أخذ بأذني وقال: ((يا غُدَر))[15].
ثالثًا: عند اللجوء إلى الضرْب ينبغي ألاَّ تقلَّ سنُّ المضروب عن عشر سنين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في أمر الصلاة: ((واضربوهم عليها وهم أبناء عشر))[16]، فإذا كانت الصلاة - وهي عماد الدين - لا يجوز الضرب عليها قبل سن العاشرة، فما عداها من الأمور أهون وأيسر؛ فلا يعاقب عليه الطفل بالضرب قبل العاشرة أيضًا.
كما ينبغي أن يتراوح عدد الضربات بين واحدة وثلاث فقط؛ فقد كان عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - يكتب إلى الأمصار: "لا يَقْرِن المعلم فوق ثلاث؛ فإنها مخافة للغلام".
وعن الضَّحَّاك قال: "ما ضرب المعلِّم غلامًا فوق ثلاث، فهو قصاص"[17].
ولا بد من العدل في الضرْب بين الصبيان؛ فعن الحسن قال: "إذا لم يعدل المعلم بين الصبيان كُتِب من الظَّلَمة"[18].
ولا بدَّ - أيضًا - أن تكونَ أداة الضرب أداة مناسبة لسنِّ الصغير؛ فلا يضرب بأداة تؤلِمه إيلامًا شديدًا، أو تُحدث له كسورًا، أو جروحًا، أو عاهاتٍ؛ لأن الغرضَ - أولاً وأخيرًا - من هذا الضرْب هو التأديب، وليس التشفِّي والانتقام.
ويجتنب المربِّي عند الضرب الوجْه والرأس بما حوى، والمناطق الحسَّاسة من الجسم؛ لأن الضرب في هذه المواضع قد يؤدِّي إلى حدوث عاهات للصغير، وقد نَبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: ((إذا ضرب أحدكم فليتَّقِ الوجه))[19].
ومِن حُسْن الأَدَب مع الله - عزَّ وجَلَّ - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن يرفع المؤدِّب يده عن الصغير إذا ذكر اسم الله - تعالى - أو النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو عادة كثير من الصغار عند تعرُّضهم للعقاب؛ يدل لذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: ((إذا ضرَب أحدكم خادِمه فذكَر الله، فارفعوا أيديكم))[20].
وقد يقول قائل: إن الطفل إذا علم بهذا قد يتخذها وسيلة للتهرُّب من العقوبة، والعَوْد إلى الخطأ، أو يتخذها حيلة للتخلُّص من الضرب، ويعاود فِعْلَه.
فالجواب عن ذلك: أنه يجب الاقتداء بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من تعظيم الله - تعالى - في نفس الطفل، وهو كذلك علاج للضارب من أن حالته الغضبية كبيرة جدًّا؛ مما استدعى من الطفل ذكر الله تعالى والاستغاثة به.
ولن نتكلم مع ضعاف الإيمان الذين إذا سمعوا مثل هذه الاستغاثات، ازدادوا حمقًا وتعسُّفًا وضرْبًا، فهؤلاء بحاجة أن يذكروا ذنوبهم، وتقصيرهم مع ربهم، وحِلم الله - تعالى - عليهم، مع قدرته عليهم في كل آنٍ[21].
وهذا يقودنا إلى أمر مهم، وهو أنه يجب على المربِّي ألاَّ يُقْدمَ على عملية الضرب والتأديب وهو في حال غضب شديد؛ فقد كتب عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - إلى أحد عماله: "لا تعاقب رجلاً عند غضبك عليه؛ بل احبسه حتى يسكن غضبك، فإن سكن فأخرجه، فعاقبه على قدر ذنبه".
هذه قاعدة تربوية يجب ألاَّ يحيد عنها المربُّون، ولا ينساها الآباء والأمهات: "لا تؤدِّب وأنت غضبان"؛ لأن الغضب يفقد صاحبه الحكمة والبصيرة والروِيَّة في الحكم، والأناة في بحْث الأمور بحثًا عقليًّا من جميع جوانبها، وحينئذ يأتي الخطأ، ويحدث الظُّلم، ويعيش صاحبه في حالة غضبية، لا يفرق بين الانتقام والتأديب، فالانتقام يصدر عن مبغض كاره، والتأديب يصدر عن قلب رحيم[22].
5- التشهير:
مع أن الإسلام يؤكِّد على أهمية ستْر العيوب، والستر على المسلمين وعدم التشهير بهم، فإنه في بعض الأحيان يوجد مَن يصرُّون على ارتكاب الأخطاء، ولا يرتدعون إلا بفضْح أمْرهم والتشهير بهم؛ فحينئذ يجوز ذلك؛ لأن الضرورة قد دعت إليه؛ وقد لَجَأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الأسلوب من العقاب، فيما يروى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله، إن لي جارًا يؤذيني، فقال: ((انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق))، فانطلق فأخرج متاعه، فاجتمع الناس عليه فقالوا: ما شأنك؟ قال: لي جار يؤذيني، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق))، فجعلوا يقولون: "اللهم العنه، اللهم أخْزِه"، فبلغه فأتاه، فقال: ((ارجع إلى منزلك، فوالله لا أؤذيك))[23].
وفي هذا دليل على أن النقد الاجتماعي اللاذع من أساليب التربية الاجتماعية في الإسلام؛ ولكن لا يُلجَأ إليه إلا عند الضرورة القصوى[24].تربية الأولاد بين الحكمة والرحمة (1 /3)
الحمد لله، الحمد لله العليِّ الحليم، الغفور الرحيم، الذي أظهر خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعَلَه في قرارٍ مكين، ثم خلق النطفة عَلَقَةً، ثم خلق العَلَقَة مُضْغَة، ثم خلق المُضْغَة عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلقًا آخر، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
سبحان مَن شمِلتْ قدرتُه كلَّ مقدور، وجرتْ مشيئتُه في خلْقه بتصريف الأمور، وتفرَّد بملكوت السموات والأرض! يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور، أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن المثيل والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسوله، وخيرتُه من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، فهَدَى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلفًا، فبلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وكشف الغمَّة، حتى وضحتْ شرائعُ الأحكام، وظهرتْ شرائع الإسلام، وعزَّ حزبُ الرحمن، وذلَّ حزبُ الشيطان، واهتدى كلُّ حيران، فصلَّى الله وملائكتُه وأنبياؤه ورسلُه وعبادُه المؤمنون عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها الناس:
لا ريب أن الإنسان مجبولٌ على حبِّ البقاء، إلا أنه يعلم أنه لا محالة هالكٌ، وأنه لا بد لوجوده من أجَلٍ، هكذا اقتضتْ إرادة الله - عزَّتْ قدرتُه، وجلَّتْ حكمتُه - أن يجعل في نفس الإنسان بعضَ العوض عن ذلك، فإنه يرى بقاءه مستمرًّا، وذِكره لم ينقطع بذرِّيَّته، فلا يندم على جهاده في معترك الحياة، ولا يأسَف على مفارقة ما جَمَع من مالٍ وعقار؛ لعلمه أنه ترَكَه لخلَفِه الذي هو جزء منه، فكأنه هو الذي يستمتع به، وكأنه باقٍ لم يلحقه فناءٌ، وهذا كلُّه مسلَّم لدى جميع العقلاء.
فالكلُّ يحب الولد؛ لأنه يرى فيه بقاءً لذِكرِه، ويوقن أنه خليفته في هذه الحياة، كما أن كل إنسان يشعر بالحاجة إلى مُعِينٍ مخْلص، ومساعد أمين، يحمل عنه بعضَ متاعب الحياة، ويكون عُدَّتَه عند النوائب، وإذ إنه في الشدائد، ولا أحد أجدر من الولد في ثقة الوالدين في هذا المعنى؛ لذا كان حبُّ الذرية غريزةً قوية في الإنسان؛ كما قال - تعالى -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، فقلْبُ الأبوين مفطور على محبَّة الولد، والرحمةِ به، والشفقةِ عليه، والاهتمامِ بأمره، ولولا ذلك لانقرض النوعُ الإنساني من الأرض، ولما صبر الأبوان على رعاية أولادهما.
ولا عجب أن يصوِّر القرآنُ العظيم هذه المشاعرَ الأبوية أجملَ تصويرٍ، فيجعل من الأولاد تارةً زينةً؛ كما قال - تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]، ويعتبره تارة نعمةً عظيمة تستحق شكرَ الواهب المنعم، فيقول - تعالى: ﴿ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ [الإسراء: 6]، وتارة يعتبرهم قرةَ أَعْيُن إن كانوا سالكين سبيلاً مستقيمًا؛ كما قال - تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب ذات يوم، فجاء الحسن والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصانِ أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: ((صدق اللهُ ورسوله؛ إنما أموالكم وأولادكم فتنة، رأيت هذين يمشيان ويعثران في قميصيهما، فلم أصبر حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما))، ثم أخذ في خطبته - صلى الله عليه وسلم.
فمحبةُ الذريَّة - كغيرها من المشتهيات - تارة تكون ممدوحةً، وتارة تكون مذمومة، والأشياءُ بمآلها وآثارها؛ فالممدوحةُ ما تؤول إلى خير، وتفضي إلى نفع، والمذمومةُ ما تؤول إلى شر، وتفضي إلى ضرر، فمحبةُ الذرية، والرحمةُ بهم، والشفقةُ عليهم مطلوبةٌ؛ لكن ليس على حساب الدِّين، وإن محبتهم لا تقتضي إهمالَ تربيتهم، وإغفالَ شؤونهم، والسُّنةُ مليئة بما يحثُّ على حبِّ الذرية ورحمتهم، كما أنها مليئة بما يجب به إحسان تربيتهم، وتقويم خُلُقهم.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه النسائي والحاكم عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتي العشي - الظهر أو العصر - وهو حاملٌ حسنًا أو حسينًا، فتقدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فوضعه عند قدمه اليمنى، ثم كبَّر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدةً أطالها، فرفعتُ رأسي من بين الناس، فإذا الصبي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعتُ إلى السجود، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدتَ بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتَها، حتى ظننا أنه قد حدث أمرٌ، وأنه قد يوحى إليك، قال: ((كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني - أي: اتَّخذني راحلةً بالركوب على ظهري - فكرهتُ أن أعجله حتى يقضي حاجته)).
وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قبَّل رسولُ الله الحسنَ بن علي - رضي الله عنهما - وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، ثم قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم))، وفي رواية في "الأدب المفرد" عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتقبِّلون صبيانكم فما نقبِّلهم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَوَأملِكُ أنْ نَزَعَ اللهُ من قلبك الرحمةَ؟!)).
وفي الصحيحين عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قدم على الرسول - صلى الله غلبه وسلم - بسبْيٍ، فإذا امرأةٌ من السبي تسعى، إذ وجدتْ صبيًّا في السبي، فأخذتْه فألصقتْه ببطنها فأرضعتْه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أترَوْن هذه المرأةَ طارحةً ولدَها في النار؟))، فقلنا: لا والله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لَلهُ أرحمُ بعباده من هذه المرأة بولدها)).
وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاءتِ امرأةٌ إلى عائشةَ - رضي الله عنها - ومعها صبيَّانِ، فأعطتْها عائشةُ - رضي الله عنها - ثلاثَ تمرات، فأعطتْ كلَّ صبي لها تمرةً، وأمسكتْ لنفسها تمرة، فأكَلَ الصبيَّان التمرتين، ونظرا إلى أمِّهما، فعمدتِ الأمُّ إلى التمرة فشقَّتْها، فأعطتْ كلَّ صبي نصفَ تمرة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتْه عائشةُ - رضي الله عنها - فقال: ((وما يعجبك في ذلك؟ لقد رحمها الله برحمتها صبيَّيْها)).
وكلنا يرى ما أودعه الله في قلوب الأبوين من الرحمة للولد، حتى في البهائم، وهذا ليس بمستغرَبٍ؛ إنما الذي يستغرب أن يفرط زمامُ هذه المحبة لدى الوالدين حتى يعود بالضرر على الولد، وفي هذه الأيام يستقبل أبناؤنا الامتحان في المدارس، ونجد كلا الأبوين من أب وأم مشفقين على أبنائهما من الفشل في هذا الامتحان، فنجدهما يحرصان على ألاَّ يكثروا من اللعب، وألاَّ يضيعوا شيئًا من الأوقات، فليت الوالدين أشفقا على أولادهما من الامتحان الأكبر، مثلَ شفقتِهما عليهم من هذا الامتحان في هذه الحياة، فكيف والواجب عليهم أن يشفقوا عليهم من ذاك الامتحان أشدَّ من شفقتهما عليهم من هذا الامتحان في هذه الحياة الدنيا؟!
أيها الإخوة:
إننا في هذه الأيام يجب علينا أن نحاسب أنفسنا، وأن نراجع إيمانَنا، لننظر هل محبَّتُنا لأولادنا أشدُّ وأعظم من محبتنا لله ولرسوله؟ إننا إذا كنا نتأثَّر بمحبتنا لأولادنا، ونترك لهم الحبل على الغارب، فلا نأمرهم بطاعة الله، ولا ننهاهم عن معصية الله، نكون بعملنا هذا قد آثرْنا محبةَ أولادنا على محبة ربِّنا ومحبة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمران به وينهيان عنه، فعليك - يا أخي - أن تحاسب نفسك، وأن تراجع إيمانك، واعلم بأنك الآن مُقدِم على إجازة صيفية، يقدم عليها أبناؤك، فعليك أن تتقي الله - جل وعلا - في هؤلاء الأبناء، الذين لهم أمانة في عنقك؛ ((كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته))، فما الذي قمتَ به تجاه هؤلاء الرعية؟
عليك أن تتقي الله - جل وعلا - وأن تحرص على استثمار أوقاتهم، فلا تتركهم يذهبون يمينًا وشمالاً، ويتسكعون في الطرقات، ويتلقَّفون ما يتلقفون من الأخلاق السيئة من هذا وذاك، إنها أمانة تبرَّأتْ منها الجبال، وحملْتَها أنت أيها المسكين، إنك كنتَ ظلومًا جهولاً، فاللهم اجعل حبَّك أحبَّ إلينا من أنفسنا وأموالنا وأولادنا، وأحبَّ إلينا من الماء البارد على الظمأ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وعن شريعته ضلَّ الضالون، أحمده - سبحانه - حمْدَ عبدٍ نزَّه ربَّه عما يقول الضالون، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق المأمون، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، الذين هم بهديه متمسكون، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها الناس:
ينبغي ألاَّ يغيب عن البال أن ظاهرة الرحمة إن حلَّتْ في قلب الأبوين، وترسَّختْ في نفسيهما، قاما بما يترتَّب عليهما من واجب، وأدَّيَا ما أوجب عليهما من حق رعايتهما الأولاد، تلك الرحمة - أيها الإخوة - كانت تملأ قلبَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فتفيض عيناه بما تكنُّه جوارحه.
ففي الصحيحين من حديت أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أنه قال: أَرسلتْ إحدى بنات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدعوه وتخبره أن صبيًّا لها في الموت - يعني: في مقدمات الموت - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ارجع إليها وأخبرها أن لله - تعالى - ما أخد، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل مسمًّى، فَمُرْها فلْتصبرْ ولْتحتسبْ))، فأرسلتْ إليه تُقسم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه سعدُ بن عبادة، ومعاذُ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابث ورجال - رضي الله عنهم - فرُفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيُّ، فأقعده في حجره ونفسُه تَقَعْقَعُ - أي: تتحرَّك وتضطرب - ففاضتْ عينَا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: ((هذه رحمةٌ جعلها الله - تعالى - في قلوب عباده، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرحماءَ)).
وفي الصحيحين أيضًا من حديت أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على ابنِه إبراهيمَ - رضي الله عنه - وهو يجود بنفسه، فجعلتْ عينَا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله؟! فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربَّنا، وإن بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)).
إلا أن هذه الرحمة التي استكنتْ في قلبه - صلى الله عليه وسلم - لم تُخرِجْه عن حد الاعتدال، فقد كان يوجِّههم إلى ما فيه نفعُهم وصلاحهم، وإن كان فيه قسوة عليهم، فهذا مقتضى الرحمة؛ ففي الصحيحين من حديت أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: أخذ الحسن بن علي - رضي الله عنه تمرةً من تمر الصدقة، فجعلها في فِيهِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كِخْ كِخْ ارمِ بها، أمَا علمتَ أنَّا لا نأكل الصدقة؟!)).
وحينما أتتْه ابنتُه فاطمةُ - رضي الله عنها - تشتكي مما تلاقيه من عمل المنزل، وتطلب منه خادمًا يخدمها، أرشدها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى التسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، والتكبير أربعًا وثلاثين، تم قال لها ولعليٍّ - رضي الله عنهما -: ((هو خيرٌ لكما من خادم))؛ وهذا مروي في "صحيح مسلم".
فلم تدفعْه - صلى الله عليه وسلم - عاطفةُ الأبوة إلى تلبية طلب ابنته؛ بل أرشدها إلى ما فيه صلاحها دنيا وأخرى، وهذا منتهى الرحمة عند مَن يؤمن بالله واليوم الآخر، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو يعلى وغيره، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الولد ثمرة القلب، وإنه مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ)).
فالصبي أمانة في عنق والديه يُسألان عنه في عرصات القيامة، وقلبُه الطاهر جوهرةٌ نقية، خاليةٌ من كل نقش وصورة، فهو قابل لكل ما ينقش فيه ويغرس، ومستعدٌّ للتوجُّه به إلى أي جهة؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجِّسانه، أو ينصِّرانه)).
فهل يرعى الأبوان، وهل يرعى المربُّون هذه الفطرةَ؟ وهل يوجِّهانِها نحو الكمال؟ نسأل الله - سبحانه - أن يوفِّق إخواننا المسلمين للقيام بذلك على أكمل وجه، وأن نرى شباب الإسلام وقد استقامتْ أخلاقُهم، وتوجهوا نحو المعالي، ليس لهم هدف سوى رفع راية لا إله إلا الله عالية فوق كل راية.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين في برِّك وبحرك أجمعين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل اللهم الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.التربية عن طريق الالتزام بالعادات الإيجابية
العادة تعني: "تكْرير فعل الشَّيء الواحد مرارًا كثيرة، زمنًا طويلاً، في أوْقات متقاربة"[1]؛ ولهذا قيل: "العادة طبع ثانٍ"؛ وذلك لأنَّها تشبه الطَّبع الأوَّل - وهو الخُلُق الطَّبيعي - في شدَّة ثباتِها ورسوخها في النَّفس[2].
والإنسان عبارةٌ عن مجموعة من العادات، تكيِّف سلوكَه تجاه الحوادث والوقائع، وتساعده على مواجهة متطلَّبات الحياة، وسدِّ حاجاته، وتعزيز فطرتِه[3]، وهو ما يدل على الدَّور الهامِّ الذي تلعبه العادة في حياة الإنسان، فحين ينشأ الإنسانُ على العادات الحسَنة يدل ذلك على تكيُّفه وصحَّته النفسيَّة، ويؤهِّله ذلك للحصول على مكانة اجتماعيَّة راقية في المجتمَع، تُشْعِره باحتِرام ذاته داخل الهيْئة الاجتماعيَّة الَّتي ينتسب إليْها؛ ومن هنا تَظْهر أهمِّيَّة تربية العادات الحسنة لدى النَّاشئة في مرحلَتَي الطُّفولة والصبا؛ ليكون ذلك عونًا لهم بعد ذلك في مسيرة حياتِهم[4].
لهذا نجِد الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يَحرص على استِخْدام أسلوب التَّربية عن طريق العادات الصَّالِحة منذ الصِّغر؛ حتَّى ينشأ النَّشْء عليْها، وتلازمهم عند شبابِهم وشيخوختِهم، وفي نفْس الأمر لا تكلِّف شيئًا إلاَّ التَّوجيه السليم؛ فمَن شبَّ على شيءٍ شاب عليْه، ويدلُّ على ذلك ما رواه عمر بن أبي سلمة - رضِي الله عنْهما - قال: كنت غلامًا في حِجْر رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكانت يدِي تَطيش في الصَّحْفَة، فقال لي رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينِك، وكل ممَّا يليك))[5].
فالرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - هنا قد عمَد إلى تغْيير العادة السَّيئة الَّتي اتَّبعها هذا الطِّفْل في الأكل، وأحلَّ محلَّها عادة إيجابيَّة، وهذا هو منهج الإسْلام في التَّربية بالعادة، حيث يستبدل العاداتِ الحسنةَ بالسيِّئة.
ولهذا الاستِبدال طريقان:
أحدهما: طريق الحَسْم والإزالة، إذا كانت العادة تتَّصل بأصل التصوُّر والعقيدة والارتِباط المباشر، فإنَّ الإسلام يقطع هذه العادة قطعًا مباشرًا؛ لأنَّها كالورم الخبيث، لا بدَّ من أن يُجتثَّ ويُسْتأصل من جذوره؛ لأنَّه يتعارض مع الحياة النفسيَّة، ومثال ذلك: موقف الإسلام من عبادة الأوْثان، والكذب، والكِبْر... إلخ.
ثانيًا: التدرُّج البطيء، وذلك في العادات الاجتماعيَّة الَّتي لا تقوم على مشاعِر الفرد وحدها، بل ترتبِط بأحوال اجتماعيَّة واقتصاديَّة متشابكة، ومثال ذلك: موقف الإسْلام من الخمر، والربا، والرق ... إلخ.
وتغْيير العادات السلبيَّة يحتاج من المرْء إلى عزيمة ماضية قويَّة، لا تسمح بأي استثناءات أو عوارض، تتخلَّل ما عزم عليه الإنسان من ترْك العادة السيئة، وإحلال العادة الحسنة محلَّها، فمثلاً إذا عزم المرء على ترْك عادة التَّدخين، فيجِب عليْه ألاَّ يسمح لنفسِه ألبتَّة بتناوُل - ولو نفَسًا واحدًا - من الدخان، وكذلك إذا كان متواكِلاً أو متكاسِلاً، فلا يسمح لنفسِه بتأْجيل عملِه عن وقْتِه مهْما كانت الظُّروف؛ لأنَّه لو سمح لنفسِه بشيء من هذه الاستِثناءات، كان ذلك بمثابة الصَّدع في البنيان، فإنه لا يلبث بعده أن ينهدِم[6].
وحتى تتمَّ التربية بالعادة - أيضًا - فإنَّه لا بدَّ من تعاوُن جميع الأجهزة في ذلك، صغيرها وكبيرها: من الأسرة، والمؤسَّسات التعليميَّة، والثَّقافة الجماهيريَّة بأنواعها، وأنظِمة الحكم؛ وذلك بتهْيئة الظروف للعادات الحسنة لتحلَّ محلَّ العادات السيِّئة؛ لأنَّ كثيرًا من النَّاشئة والشباب يعترف بخطئِه، وبارتِكابه للعادات السيِّئة؛ إلاَّ أنَّ وجود المناخ السيِّئ وإتاحة الفرصة لها يجذبه نحوها، ويجعلها تُلازِمُه وتعترض تفكيرَه[7].قواعد في تربية الأولاد
قواعد في تربية الأولاد
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 17].
أمَّا بَعْدُ:
فإنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وخَيْر الهدي هدي مُحَمَّدٍ، وشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وكُلّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
عباد الله:
الأولاد من أعظم نعم الله التي يمنُّ بها على مَن يشاء مِن عباده، ومَن له أولاد قد لا يقدِّر هذه النِّعمة حقَّ قدْرِها، فلذا مَن لَم يرزَق بذرِّيَّة يبذل الغالي والرَّخيص وينتقل بين المستشفيات لطلب تحصيل الولد.
والولد - ذكرًا كان أو أُنْثى - إذا نشأ على طاعة الله، انتفع به أبواهُ أحياءً وأمواتًا؛ لذا حينما ذكر النَّبيُّ ما ينتفع به ابنُ آدم بعد مَماتِه، ذكر منهم الولَد وقيَّده بالصَّالح.
كلُّ والدينِ يتمنَّيان أن يكون أولادُهما من خير النَّاس في دينهم ودنياهم؛ لكن ليست المسألة مسألةَ تمنٍّ فقط، فلا بدَّ من بذْل الوسْع في تحرِّي أسباب فوزهم الدِّيني والدنيوي.
وليس هذا أمرًا نتطوَّع به، بل هو أمر افترضه الله علينا؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
ومَن فرَّط في ذلك، فقد ورد في ذلك الوعيد الشَّديد؛ فعن معقل بن يسار قال: سمِعْت النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((ما مِنْ عبدٍ استرْعاه الله رعيَّة فلم يَحُطْها بنصيحة، إلاَّ لَم يجد رائحة الجنة))؛ رواه البخاري (7150) ومسلم (142).
ومَن تأمَّل النُّصوص الشرعيَّة، وجد أنَّ الشَّارع وضَعَ من الاحتِرازات والضَّوابط ما يكفُل حِفْظ الأوْلاد وعدم جنوحِهم.
ومن ذلك الحِرْص على أن ينشأ الولد لا يغار من أحدِ إخوته، بحيث لا يشعر أنَّ لأحدٍ من إخوته حظوةً عند أبويه أكثر منه، في حبٍّ أو غيره من الأشياء المعنويَّة والحسيَّة؛ فلذا وجب العدْل بين الأولاد وعدم تفْضيل أحدِهم بِهبة ونَحوها من غير سبب؛ لأنَّ تفضيل بعضِهم على بعض يُوغر صدورَهم على أبوَيْهِم وعلى المفضَّل من إخوتهم، ويَمنعهم من الانتفاع بتوجيه أبويهم وتربيتهم، فقد كاد إخْوة يوسف الصِّدِّيق لأخيهم ما كادوا حينما وقَعَ في أنفُسِهم أنَّ أباهُم يُحبُّ يوسف وأخاه، ويفضِّلهما عليهم.
ومن ذلك أهميَّة القُدْوة الحسنة وموافقة القول العمل؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3].
فحِينما يقع خطأٌ من أحد الأوْلاد ليقِف الأبُ مع نفسِه وقفةَ مُحاسبة: هل له دوْر في هذا الخطأ؟ فهل هذا الخطأ يمارسه الأب؟ هل قصر في واجبه الذي افترضه الله عليه من حسن التربية والتوجيه والمتابعة، وتوفير ما يجب عليه توفيره؟ فإن كان للأب دوْر، فالواجب على الأب علاج أسباب الخطأ وتدارُك التَّقصير الذي حصل منْه، فمثلاً لا ينبغي أن يُكْثِر الأب من لوْم ابنِه على حصول خطأٍ في سلوكِه، من نظَرٍ محرَّم، أو سماع محرَّم، أو كذِب، وغير ذلك من المخالفات، إذا كان الأب نفسُه يقع في هذه الأشياء المحرَّمة، فالواجب على الأب أوَّلاً أن يقوم هو بتعْديل سلوكه وترْك ما يعيبه على ابنه، فهذا مظنَّة استِجابة الابن لتوجيه أبيه، فالأولاد يتربَّون بالاقتِداء بأبيهم في حَسَنِ الأعمال وقبيحها.
وحينما يُخالِط الابن مَن لا يرضى خُلقه مِمَّن هُم من أتْرابه، فعلى الأب أن ينظُر في السَّبب، فربَّما خالطَهم ابنُه تحت ضغْط الحاجة لأجل الذَّهاب معهم بالسيَّارة مثلاً؛ لأنَّ أباه لم يوفِّر له سيَّارة، فليقِف الأب مع نفسه، ولينظر في مصالح ومفاسد إعْطاء الابن سيَّارة، إذا كان لديْه مقدِرة مالية على ذلك.
وحينما يحصل من الابن تفريطٌ في الصَّلاة، وخصوصًا الفجْرَ، ليقف الأب مع نفسه: هل درَّبه على الصَّلاة في المسجد؟ أم تركه حتَّى كبر فشقَّت عليه صلاة الجماعة؟ فإن كان الأمر كذلك، فعلى الأب تدارُك الأمر في أوْلادِه الصِّغار؛ حتَّى لا يحصُل منهم ما حصل من أخيهِم الأكبر.
حين التعامل مع أخطاء الأولاد، يجب ألاَّ نعزِلَها عن أعمارهم، فالصِّغار تصدر منهم أخطاء ربَّما كانوا أوَّل من يتضرَّر بها؛ لعدم تقْديرهم للعواقب، ومعرفة ما يؤول إليْه الأمر، فينبغي أن يُتَغاضى عن بعض الأخطاء، وكأنَّ الأب لَم يطَّلع عليها، إذا كانت مما يسوغ التغاضي عنها؛ فليس حسنًا كثرة التَّأنيب والتَّوبيخ عند أدْنى خطأٍ؛ لأن الولد لا يتأثَّر بالتوبيخ مع كثرته، وربَّما تبلَّد حسُّه، فسيَّانِ عنده من يشكره ومن يوبِّخه؛ لذا كان النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يتحمَّل هفوات الصِّغار ولا يعاتبهم؛ فعن أنس قال: لما قدم رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم – المدينة، أخذ أبو طلحة بيَدي فانطلق بي إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، إنَّ أنسًا غلامٌ كيِّس فليخْدمك، قال: فخدمتُه في السَّفر والحضَر، والله ما قال لي لشيءٍ صنعتُه: لمَ صنعتَ هذا هكذا؟ ولا لشيءٍ لَم أصنعه: لِم لَم تصنع هذا هكذا؟"؛ رواه البخاري (2768) ومسلم (2309).
وكان أنس صغيرًا ويبدر منه ما يبدر من الصِّغار، فكان النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يغضُّ الطَّرف عن هفواتِه ولا يعاتبه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد:
ليكن التَّوجيه برِفْق مع تجنُّب الغلظة والألفاظ الجارحة حين العتب، فما كان الرِّفق في شيءٍ إلاَّ زانه، وما نزع من شيء إلاَّ شانه، ومن الخطأ التصرُّف أثناء الغضب، فالغضبان في حال غير طبعي، فلن يكون تصرُّفه مسدَّدًا غالبًا، فرغبته في تسْكين غضبِه تَحجُب عنه القرار الصَّائب؛ لذا كان من حِكْمة الشَّارع أنَّه نَهى أن يحكم الشَّخص في حال الغضب؛ فعن أبي بَكْرَة قال: سمعْتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((لا يحكُم أحدٌ بين اثْنَين وهو غضبان))؛ رواه البخاري (7158) ومسلم (1717).
وحين التَّوجيه تعدد فضائل الولد، وأنَّ فيه من صفات الكمال كذا وكذا، فيثنَى عليْه بما فيه من خير، ويوجَّه بأنَّه قريب من صفات الكمال لو فعل كذا وكذا، ولو ترك كذا وكذا.
فحينما أراد رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يوجِّه عبدالله بن عمر إلى قيام الليل قال: ((نِعْم الرجُل عبدالله، لو كان يصلِّي من الليل))، فكان بعدُ لا ينام من الليل إلاَّ قليلا؛ رواه البخاري (1112) ومسلم (2479).
من أهم أسباب التَّأثير على الأوْلاد وانتفاعهم بتوجيه أبيهم: وجودُ الاحترام المتبادل بين الأب وأولادِه، فإذا كان الأب يُظْهِر لهم المحبَّة والاحتِرام ويُناديهم بأحبِّ الأسماء والكُنَى إليْهِم، فحينما يشعُر الولد أنَّ له قدْرًا وأنَّه محلُّ احتِرام أهله وتقْديرهم، يَحرص على المحافظة على هذا القدْر، وألا يعمل ما يحطُّ من قدْرِه، لكن إذا أُشْعِر بأنَّه لا قدر له، وأنه وعاء لكل نقيصة وخلل، لم يكُن لديْه شيء يخشى عليه.
وليحرصِ الأب على أن يوفِّر لهم ما يستطيع توفيرَه ممَّا لا يضرُّهم، فهذا من أسباب نَجاح الأب في التَّربية والتَّوجيه، أمَّا إذا وجدت فجْوة بين الأب وبين أولادِه، ويَمتنع عن توفير ما يستطيع من طلباتِهم، ففي الغالب المراهق لا يَمتَثِل لأبيه أمرًا وربَّما أضرَّ بنفسه فأهمل دراسته، أو ترك الحلقة أو خالط مَن لا يرضاهم أبوه؛ لأجل أن يغيظ أباه، وبزعم أنَّه يعامل أباه بالمثل، فهو لا يعي الحقوق الشرعيَّة لأبيه؛ إنَّما يعامله غالبًا وفْق معايير دنيويَّة.
العقاب البدني يَنبغي ألا يستخْدِمَه الأب والمربِّي إلاَّ بعد استِنفاذ كلِّ طرق التَّقويم وتَهذيب السُّلوك، من التَّرغيب والتَّرهيب، فيمكن أن يعاقِب الولد عقابًا معنويًّا؛ كمنعِه ممَّا اعتاده، فربَّما كان ذلك أشدَّ عليه من العقاب البدني.
وعند الحاجة للعقاب البدني لا يُكْثِر منه؛ لأنَّ الإكثار منه يفقِدُه أثرَه، فيعتاد الولد الضَّرب، فلا يكون زاجرًا له، فيوطِّن نفسه على تحمُّل ألَم ثوانٍ وينتهي الأمرُ عند ذلك.
وليعلم مَن يرى أنَّ التربية هي بخوف الولد من أبيه، واستعمال العقاب البدني، أنَّه مخطئ في فِعْله، فبعْدَ حين سيصِل الولد لسنٍّ لا يستطيع أبوه عقابه، ويزول خوف الولَد من أبيه، فهنا لا تسأل ما حال الولد، وليُجِل الواحد منا فكْرَه بمن حوله من جيران وأقارب وأصدقاء، فسيرى أولادًا ضحايا لهذا النَّوع من التَّربية، فلم ينفعوا أنفُسَهم، ولم ينتفِع بهم أهلوهم.
قد يقول قائل: تربَّى بعضُنا على الضَّرب وما ضرَّه، وهذا صحيح كواقع؛ لكِن فيه خطأ من وجهين:
الأوَّل: أنَّ هذه التربية خلاف تربية النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهدي النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكْمل هديٍ، ونلتمس العُذْر لمن مضى؛ لجهلِهِم بِهدي النبي في تربية الأوْلاد.
الثَّاني: أنَّ الواقع الذي نعيشه ليْس الواقع الذي كان يُعاش قبل عشرات السنين، فالولد في السَّابق لا يَجد من يتلقَّفه ويؤْوِيه ويوفِّر له ما يُريده، بِخلاف هذا الزَّمن.
اعلموا أنَّ أكمل النَّاس أقلُّهم استخدامًا للضَّرب، فلديْه من أساليب التَّربية التي تُغْنِيه في أغْلب أحوالِه عن العقاب البدني؛ فعن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: ما ضرب رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - شيئًا قطُّ بيدِه، ولا امرأةً ولا خادمًا إلاَّ أن يُجاهد في سبيل الله"؛ رواه مسلم (2328).
معاشرَ الإخوة، أكثر الأوْلاد إنَّما جاء انحِرافهم عن الصِّراط المستقيم من قِبل آبائهم وإهمالهم لهم، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفِعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، وهذا في الغالب؛ لكن لا يلزم من انحِراف بعْض الأولاد أن يكون ذلك بسببِ تفْريط الأبوَيْن في التَّربية، فقد يبذل الأبَوَان وسْعَهما في التَّربية من الصِّغَر، ثمَّ يحصُل من بعض الأولاد جنوحٌ عن الصِّراط المستقيم، فالأنبياء هم سادة المربِّين، ومع ذلك لم يستطيعوا هداية أشدِّ النَّاس لهم قربًا، فمثلاً نوح بذل وُسْعَه في سبيل استِصْلاح ابنه، ولَم يفتُر في دعوته وبيان مغبَّة الطَّريق الَّذي سلكه حتَّى آخر لحظة، ولَم تثمِر دعوته في هداية ابنه؛ لحكمة أرادها الله؛ ﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ ﴾ [هود: 42، 43].
ففي هذا عزاءٌ لكلِّ أبٍ بذَل وُسْعَه في تربية أوْلاده من الصِّغَر، ولَم يحصل ما كان يؤمِّله في بعضهم.
أصول تربية الأبناء في السنة النبوية
تربيةُ الأبناء في كلِّ زمنٍ مهمَّةٌ صعبة لا شكَّ، وأصعبُ منها اليومَ استِفادتُها من بلورة العقل المُعاصِر لها؛ إذ تأثَّر كثيرٌ من أصحاب التوجُّهات التربوية - حتى الإسلاميين - بكِتابات الغرب المعنيَّة بالتفاصيل المُمِلَّة للقارئ، المُشَتِّتة له ولأَثَرِه التربوي، مع غِياب أخْذ يد المربِّي المفترض صناعته من هذا البحث إلى أصول التربية الواجِبَة فيه وفي مناخ التربية الصحيح.
ولك أن تتخيَّل أن بعض الباحثين الإسلاميين المَعنِيِّين بأمر التربية، أخرج بحثًا فيما يَزِيد على سبعمائة ورقة، يَقُول في مقدمته: إنَّه يَشعُر بأرق فكري؛ لأنه لم يستَطِع أن يُحِيط بما أراد؛ بل الأمر يحتاج إلى مَزِيد من البحث والدِّراسة!
وهذا الكلام عند النظر الصحيح قمَّةٌ في الخطورة، وقمَّة الأرق الحقيقي؛ إذ تربية الأبناء عمل يمتدُّ إلى كلِّ أحد في المجتمع المسلم القائم بأمر الله - تعالى - مع اختِلاف طبقات هذا المجتمع، ومع تفاوت ثقافات أبنائه، وتَبايُن قدراتهم الاستيعابية، وفارق سَعَة اطِّلاعهم.
كما أنَّ لازِم هذا الكلام اختِصاص فِئة مُعَيَّنة من التربويين فقط بتَطبِيق وتَفعِيل تِلكُم الأجِندة التربويَّة، أمَّا غير التربوي من جَماهِير الناس فلا حاجَةَ له أن يَتعلَّم كيف يُرَبِّي أبناءه؛ لأنه - وبكلِّ سهولة - لن يستطيع ذلك إلا بعد قِراءة طويلة لتفاصيل ودقائق مَواقِف التربية من يوم أن يُولَد الطفل حتى بلوغه مَبْلَغَ الرجال! وهذا ما لا يستطيعه - لضيق الوقت والانشغالات الأخرى - حتى حمَلَة هذا الدين؛ من دعاةٍ إلى الله، وطُلاَّب علم، إلى مجاهدين وعلماء، فضلاً عن العاميِّ المسلم الذي أراد تَنشِئَة ابنه أو ابنته على الإسلام.
إنَّنا لا نُنكِر بأيِّ حال أهميَّة الاستِفادة من التجرِبَة التربوية في الكتاب والبحث والمَقال، أو حتى في الواقع الذي نَعِيشه جميعًا، سواء في أنفُسِنا أو في الآخَرين، ولا نُنكِر كذلك أنَّ في بطون هذه الكتب والبحوث فوائدَ يستَفِيدها المربِّي ويعتبر بها، لكنَّنا نرى أنَّ تَسلِيط الضوء على تلك التفاصيل والمواقِف العابرة في رحلة تربية الأبناء، مع إهمال الأصول التي تُكسِب المربِّي آلة التربية، وتُغنِيه عن التبعيَّة في فهْم كلِّ موقف وواجب التصرُّف معه، نرى كلَّ هذا استبدالاً للذي هو أدنى بالذي هو خير.
على أنَّنا لو رأينا في هذه الكتب والبحوث جمعًا للأمرَيْن معًا؛ أي: وضْع الأصول التربوية في مكانها الأولي، ثم تحشيتها بالتفاصيل المُنبَثِقَة منها أو المناسبة لها، لكان الأمرُ أقربَ بكثيرٍ ممَّا نراه في كثيرٍ من تلك البحوث اليوم، من اهتِمام بالغٍ بتَفاصِيل وجُزئيَّات يُغنِي عن ذكرها أصلاً فَهْمُ وتطبيق الأصول والكليَّات، أو تجعلُ تلك التفاصيل والجزئيَّات أمثلة حيَّة لأصول التربية الصحيحة في حياة المربِّي أو المربَّى.
كما أنَّنا نَلحَظُ أنَّ غالبيَّة هذه البحوث تَعتَنِي بتصرُّفات وأفعال الأولاد أكثر من مَردُودات المربِّين أنفسهم، وهذا ممَّا يكثر الكلام والصفحات بلا فائدة، ونحن إذا أردنا حَصْرَ أقوال وأفعال طفل واحد في يوم واحد؛ سواء أكانت أقواله إيجابيَّة فتُحمَد، أو سلبيَّة فتُقَوَّم، لكتبْنا في هذا الكثير والكثير، فما الظنُّ لو كانت أقوالاً وأفعالاً لأنواعٍ من الأطفال تمتدُّ لسنوات طوال؟!
نعم، من التربية قراءةُ عقليَّةِ الابن وفهمها، مع معرفة دَوافِع أفعاله الإيجابيَّة والسلبيَّة، لكن هذا لا يَعنِي الترسُّل في ذلك، حتى يَتَشعَّب بنا الكلام ويَتخلَّل الملل إلى القارئ، ويَضِيق به المقام، وينسى عمله الذي له ابتدأ الخطاب التربوي.
وثَمَّ تنبيهٌ آخر هو الأهمُّ، وهو أنَّ مُنطَلَقات وغايات وأصول تربيتنا كمسلمين، تختَلِف اختلافًا أساسيًّا عن مُنطَلَقات وغايات وأصول الغربيين، وبناءً على هذا فإنَّه لا يَصِحُّ أن نستَقِي منهم حتى جزئيَّات وتَفاصِيل التربية؛ إذ إنَّ لهذه المواقف خلفيَّاتٍ أصوليَّةً قد لا تَتوافَق أبدًا مع أصولنا التربوية.
ومثال هذا غرْس المربِّي الغربيِّ مبدأَ الحريَّة المطلقة عند الطفل الغربي، وحكْمه على مَواقِف الطفل وتَصَوُّراته من خِلال ذلك المبدأ، ونحن وإنْ كنَّا نُعطِي للطفل مساحة من الحرية، إلا أننا نُقَيِّدها، ونجعل العبوديَّة أصْلَنا في هذا بدل الحرية، ثم تأتي الحرية مُوافِقة للعبودية.
إذًا نحن بحاجةٍ لمعرفة أن التطبيقات فرعٌ عن الأصول، وليس كما يَظُنُّ بعضنا من مُفارَقة في الأمرين.
وبعض الباحثين يُسَوِّغ هذا بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الكلمة الحكمة ضالَّة المؤمِن، حيث وجدها فهو أحقُّ بها))؛ (رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الألباني: ضعيف جدًّا)، وغاية ما في هذا الحديث البحث عن الحكمة في مَظانِّها، والغرب في مجال التربية بالأخصِّ ليس من مَظَانِّ وجود الحكمة.
ولا شكَّ أنَّ الاستِفادة من كتب غير الإسلاميين في التربية مُمكِنة، لكن فقط بحيطة وحذَر؛ حتى لا يُدَسَّ لنا السمُّ في العسل، ومع التنبيه على أنَّ في تراثنا ما يُغنِي، إذا أطال الباحث نفَسه وأحسَن النظر والتدبُّر، وقبلَ كلِّ هذا استعان بالله مولاه.
وقد حَوَتِ السنَّة النبويَّة المنقولة إلينا كثيرًا، إن لم نقل: كلَّ الأصول التربوية التي تُؤَهِّل المربِّي في عملية التربية الصعْبة، تارَةً تصريحًا وأخرى تَلمِيحًا، وذلك بالإضافة للأصول العامَّة في الشخصية المسلِمة الناجِحة؛ كالحكمة والحلم والرحمة... وغير ذلك.
وواجِبُ الباحث هو إعمال وتفعيل تلك الصفات في أمر التربية، وضرْب الأمثلة لها بالمواقف النبوية، والآثار السلفيَّة، وصحيح التجارِب الحيَّة.
ولأنَّ مقالي ليس بحثًا تربويًّا كامِلاً؛ فسأُشِير فقط لبعض ما ورد عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا الباب، مع استِنباط الأصول أو الأصل المُستَفاد من هذا الموقف، وتفعيله بتَوَسُّع في بابه؛ عسى أن يكون في ذلك دليل عملي رشيد.
• عن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: جاء أعرابي إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: تُقَبِّلون الصِّبيان؟ فما نقبِّلهم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوَأملك لك أن نَزَعَ الله من قلبك الرحمة؟))؛ (رواه البخاري ومسلم).
ففي هذا الحديث أصلٌ كبيرٌ من أصول التربية الصحيحة المُفتَرَضة في المربِّي، وهو ضرورة الرحمة والشَّفَقة في العمل التربوي، ويُمكِن إدراج آلاف المَسائِل والمواقف التربوية تحت هذا الأصل؛ كتَقبِيل الأبناء ومُعانَقتهم، وحملهم والجلوس واللَّعِب معهم... وهكذا كلُّ ما كان من صُوَرِ الرحمة والشَّفَقَة.
• وعن ابن عباس - رضِي الله عنهما - قال: "بِتُّ عند خالتي (ميمونة) فقام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُصَلِّي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمتُ عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه"؛ (رواه البخاري).
وفي هذا الحديث أصلٌ آخر من أصول التربية العظيمة، وهو القدوة؛ فابن عباسٍ قام يُصلِّي لأنه رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام يُصلِّي، وهكذا كلُّ ابن يَتَأسَّى بقدوته في الخير أو غير ذلك؛ وعليه يجب تنبيهُ المربِّي على ضرورة القدوة الحسنة وخطر القدوة السيِّئة، وهذا يشمل العبادات والمعاملات والأخلاق.
• وعن عمر بن أبي سلمى قال: "كنت غُلاَمًا في حجر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانت يدي تَطِيش في الصحفة، فقال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ ممَّا يَلِيك))، فما زالت تلك طعمتي بعدُ"؛ (رواه البخاري ومسلم).
وفي هذا الحديث أصلٌ آخر مهم، وهو ضَرُورة التوجيه التربويِّ في المَواقِف والأحداث؛ ذلك أنه أثبت في ذهن المربَّى، وأوضح له من التوجيهات التربوية العامَّة؛ لذا قال عمر في هذا الحديث: فما زالت تلك طعمتي بعد.
وبعد:
فهذه - كما سبق - مجرَّد إشارات وأمثلة من هَدْيِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أمر التربية الصعْبة، نستَقِي منها أصولاً وكليَّات تربويَّة، تجعل المربِّي أكثر عمقًا ووَعْيًا ودِراية بحاله وحال المُرَبَّى، كما تُرَسِّخ عنده مَفاهِيم وتَصَوُّرات يستطيع بها قِيادَة هذه العمليَّة التربوية دون تَعقِيد لها، أو تَشتِيت لذهنه، أو تفريط في حقِّها.
وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
والحمد لله ربِّ العالمين.
أساليب تربوية فاشلة (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الولدَ أمانة قلَّ مَن يُقَدِّر قِيمَتَها ويحفظها، وتربيته مسؤوليَّة قلَّ مَن يُحْسِن التعاملَ معها.
وفي نظرِ بعضِ الآباء، فإنَّ تربيةَ الولدِ لا تختلف عن تربية الدجاجِ أو الغَنَم؛ حيث إنَّ تقديمَ الطعام والشراب والكِساء والدواء هو كلُّ شيءٍ، بانتظار أنْ يكبرَ الولدُ ويعملَ ويصبحَ مصَدرًا للدَّخْل والمال، ويتجاهل هؤلاء كلَّ ما له علاقة بالتربية الدينيَّة والسلوكيَّة والأخلاقيَّة للولدِ باعتباره مصْدرًا للأجْر والثواب والسمعة الحَسَنة كما يؤْمِنُ العُقَلاء.
ولا أزالُ أتعجَّبُ من هذه النظرة البهيميَّة لتربية الأبناء وشُبَهها بتربية الحيوانات، لكنَّ عجبي يزيدُ عندما أرى وأسمعُ عن أساليبَ (تربويَّة) في قِمَّة الغباء والتخلُّف، لكنَّها ما زالتْ سائدة إلى يومِنا هذا، ومن يعشْ يرَ ويسمعْ عجَبًا!
ولعلِّي أسردُ - في مقالي المتواضِع هذا - بعضًا من هذه الأساليب من باب النصيحة لأولياء الأمور، آملاً أن يبتعدوا عنها، ويعتمدوا على البديل التربوي الآمِن والصحيح.
ومن هذه الأساليب:
• أسلوب الدَّلال الزائد، وإهمال التربية في الصِّغَر، قد يُرْزَقُ شخصٌ ما الولدَ بعد طول انتظار، أو يُرْزقُ بذَكَرٍ بعد مجيء عددٍ من الإناث.
في هذه الحالة قد ينبهرُ الوالدُ ويصابُ بالجنون والهستيريا من الفرحِ في البداية، ويصابُ تفكيره بالشلل ويعطِّلُ كافَّة أعماله وأشْغاله من أجْلِ الاهتمام بهذا الولد.
غير أنَّ هذه العاصفة من الفرحِ قد تدفعُ الأبَ إلى إهمال التربية الأخلاقيَّة والتعليميَّة للطفل بحجَّة الحرْص على راحته؛ كما يبتعدُ أحيانًا عن الضرْب غيرِ المؤْذي أو نُصْحِ الطفل؛ بحجَّة الحرْص على مشاعر الطفل الرقيقة.
هذا الخطأُ شائعٌ جدًّا ومُكَرَّرٌ جدًّا، لكنَّ نتيجتَه وخِيمة جدًّا؛ حيث يكبرُ الولدُ ويدخلُ في مرحلة المراهقة دون أن يقيمَ وزنًا لاحترام أَبَوَيه؛ فيصعب توجيهُه وتقويمُه مُسْتقبلاً، ويستحيل نَهْيُه عن عادة قبيحة اعتادَ عليها، أو أَمْرُه بفِعْل حميدٍ لم يكنْ قد تعوَّد عليه في صِغَرِه.
ولا ندعو إلى ضرْبِ الولد والصراخ في وجهِه ليلاً ونهارًا، لكنَّ الإمْعان في تدليل الولد وتلبية طلباته سيجعلُ منه مراهقًا عنيدًا، صعبَ التقويم والتوجيه، وغيرَ قابلٍ للنصيحة.
أسلوب المحاضرات، وهو أسلوبٌ قديم جدًّا ومُكرَّر ومُمِلٌّ، يقوم على إلقاء محاضرة كاملة أمامَ الطفلِ عن موضوعٍ مُعَيَّن أو فِكرة قد تكونُ صحيحة غالبًا، لكنَّ أسلوبَ إلقائها الفاشلَ يجعلُ الطفلَ يَمَلُّ من تَكرارِها وقد لا يفهمُ منها شيئًا.
أمَّا الأسلوب البديلُ والصحيح فهو النصيحة الهادئة، والموعظة المختصِرة بما يتناسب مع عُمر الطفلِ وتفكيره وشخصيَّته، بدلاً من إضاعة الوقْت في كلام كثيرٍ قد يكونُ ضررُه أكبرَ من فائدته.
أسلوب الأوركسترا، هذا الأسْلوب القبيح يُسْتخدمُ عند ارتكابِ الطفلِ لخطأٍ ما؛ كسر صحن، تأخُّر دراسي ... إلخ، ويقوم على الصراخ والعويل، وإلقاء سيْلٍ من الشتائم والألفاظ على الطفل بطريقة تُشْبِه الأوركسترا التي تعزفُ خليطًا من النشاز المزْعِج غير القابل للإيقاف.
والبديل الصحيح لهذا الأسلوب هو كظْمُ الغيظ، ومحاولة التفاهُم مع الطفل بهدوءٍ، وتصحيح خطئه إنْ كان قابلاً للتصحيح، وغضِّ النظر عن الخطأ إنْ كانَ غيرَ مقصود من الطفل.
أسلوب الدعاء بالإثْم وقطيعة الرَّحِم:
وهو أسلوبٌ شائعٌ لدَى بعض الأمَّهات للأسف الشديد، ويقومُ على الدعاء على الطفل المخْطِئ بالشلل والعَمى والبَرَص والجُذام وإنفلونزا القرود وسائر الأمراض، ناهِيكَ عن كَسْر الأيدي، وتقطيع الأَرْجُل، وتحطيم الرؤوس، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
وعجبًا لِمَن يدعو على ولدِه لسببٍ تافهٍ، مثل: سَكْب الماء أو تلويث الملابس وغيره، وطالَمَا حذَّرَ العلماءُ من الدعاء على الولد مَهْمَا فَعَلَ، والبديل هو الدعاء له بالهداية والصلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، ويحتاج هذا إلى تعقُّلٍ وصبرٍ لا يتوفَّر عند كثيرٍ من الآباء والأُمَّهات.
أسلوب اللطم وشق الجيوب:
لدى ارتكابِ الطفل لخطأٍ ما يبادر بعضُ الآباء والأُمَّهات باللَّطم وشقِّ الجيوب، وندبِ الحظِّ؛ لأنَّ اللهَ رَزَقَهم هذا الولد، وغالبًا ما يصلُ الأمرُ إلى درجة الكفر - عياذًا بالله - والاعْتراضِ على أحْكَامه وقضائه وقَدَره، ومن الألفاظ التي يتفوَّه بها بعضُ الآباء والأُمَّهات:
• ماذا فعلتْ لله حتى يبعثَ لي بهؤلاء الأولاد؟!
• إنَّ الله ظَلَمَنِي حين رَزَقَني بأولادي الأشْقِياء.
• إنَّ الله ابتلاني بهؤلاء الأولاد ظلمًا، وإنني أستحقُّ أفضلَ منهم.
إلى غير ذلك من الألفاظ القبيحة التي أستحيي من ذِكْرها عَلنًا.
وكمْ نتمنَّى أن يتمتَّعَ الآباءُ بقدرٍ من الإيمان والرزَانة والحِكْمة قبلَ التفكير بإنْجاب الأطْفال وتكوين الأُسَر؛ لأنها أمانة ومسؤوليَّة، وليست تجربة سهلة أبدًا.
أسلوب المقارنة:
وهو أسلوب شاذٌّ لا يَمُتُّ إلى التربية والتوجيه بأيّة صلةٍ، ويقوم على مَبْدأ مقارنة الولد بإخوته مثلاً أو بأبْناء الجِيران، أو بأحد الأقارب بطريقة فيها الكثيرُ من الاستفزاز للطفل:
• انظرْ إلى ابن عمِّك، هو مُتفوِّق أكثر منك.
• انظرْ إلى ابن الجيران، هو مُرتَّب أكثر منك.
• ليْتَكَ تكونُ مثلَ ابن خالة جدة عمِّك؛ إنَّه نشيطٌ ومهذَّبٌ.
هذا الأسلوب لا علاقةَ له بالتربية والتوجيه والإرشاد، بل سيكونُ له نتائجُ عكسيَّة تدفعُ الولدُ إلى سلوك اتِّجاه سلبي مُعاكِس لما يريده الآباءُ كنوعٍ من ردِّ الفعْلِ ضدَّ السلوك الإيجابي الذي يقومُ به ابنُ العمِّ أو ابن الجيران.
وعمومًا فإن لكلِّ طفل قدراتٍ ومميزاتٍ مختلفة عن غيره، ويجبُ على الآباء تقديرُ ومعرفة إمكانيَّات أولادِهم بشكلٍ صحيحٍ، ولا يقارنوهم بغيرهم.
نصائح تساعد على التربية
نصائح تساعد على التربية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونثني عليه الخير كله، ونُصلي ونُسلِّم على خير خلقه وآله وصحبه.
أمَّا بعدُ:
فمرحبًا بكم إخوتي الأكارم، وحيَّاكم الله مع موضوع يتعلق بالتوجيهات الأسرية التي تساعد على التربية.
إن نعمة الأولاد نعمة عظيمة؛ إذ إنه يُرجى أن يكون لوالديهم مثل ما تعمل هذه الذرية من الخير، ويرجى برُّهم ودعاؤهم وعطاؤهم، ولكن ربما أن هذه المنافع وأمثالها تحتاج إلى رصيد من التربية عليها، حتى يتسلسل هؤلاء الأولاد بهذا البر والعطاء والنفع الدنيوي والأخروي بإذن الله تعالى، وقد ورد في الحديث: (رحِم الله والدًا أعان ولدَه على برِّه)، فعند حرصك على ذلك تشملك تلك الدعوة النبوية العظيمة، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: (إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه أحفِظ أم ضيَّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)، ويختلف هؤلاء الأبناء في أخلاقهم وسلوكهم حسنًا وسوءًا، ولكن على الآباء والأمهات ملاحظة ذلك وتصحيح السلبيات، وتنمية الإيجابيات؛ حتى تكون تلك الذرية نشأت على أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وسأذكر في هذه الحلقة خمسًا وعشرين نصيحة تساعد على تربية أبنائنا وبناتنا، لعلها تسهم في تصحيح المسار السلبي وتنمية المسار الإيجابي، وهي على النحو التالي:
الأولى من النصائح: عليك بإحياء القيم الإيجابية لديهم؛ كتوقير الكبير واحترام الصغير، ومحبة الداعين إلى الخير، وسلامة الألفاظ ونحوها، مما يكون سببًا في وجود الصيغة الإيجابية الطيبة لديهم، وهذا قد يتكامل مع ملاحظة مواقفنا معهم في الذهاب والإياب، فكل موقف لهم معنا هو درسٌ لهم في إحياء هذه القيم، فاستثمار هذه المواقف معهم بالتوجيه هو من أضرُبِ التربية المهمة.
الثانية من النصائح: اصطحب أولادَك معك إلى مجالس الرجال المناسبة لهم؛ ليتعلموا أحاديثهم وآدابهم، فإن الكبار هم القدوة لهؤلاء الصغار، مع تصحيح ما قد يقعون فيه من ملاحظات، فإن هذا بمثابة الدروس لهم في تربيتهم.
الثالثة: حاوِل أن تجعل كثيرًا من جهدك في الابن الأكبر؛ لأنه سيشاطرك المسؤولية والتربية على إخوانه وأخواته، فله نصيبٌ من التربية؛ مما يجعله هو المربي الثاني.
الرابعة: لا تجعل أولادك يعاملونك بسياسة التستر عنك؛ لأنك بذلك تَخفى عليك عِللُهم وأخطاؤهم؛ مما يجعل تصحيحك لها أمرًا صعبًا، ولكنك في المقابل تتغافل عما يمكن التغافل عنه.
الخامسة: أنت أيها الأب وأنت أيتها الأم كلاكما قدوة فاحذَرا أن يشاهد أو يسمع الولد منكما ما يسوء، فإن ذلك سلبية عظيمة في مسار التربية.
السادسة: لا تجعل أولادك يعتادون الترف وكثرة الزينة في غير محلِّها، فالأيام حبالى والأوقات تتغيَّر، فقد تتغير أحوالهم بسبب تغيُّر طبيعتهم المترفة، فاسلُك طريق الوسط، فإنه صالح لكل زمان ومكان.
السابعة: إذا خالف ابنك وابنتك بشيء فلا تَنزعج وتغضب، ولكن انظر بعين الحكمة، فالحوار حل ناجح وناجع؛ لأن المقصود تصحيح المسار وليس عقوبة المخالف، فإذا صُحِّح المسار لم تتكرر المخالفة، وأما مع الانزعاج وربما التأديب بالضرب والغضب ونحوهما، فإن الخصام مشقة والقسوة نفور.
الثامنة: إذا كان ابنك في بلد آخر، فحاول مراسلته وديًّا ودوريًّا بالوصايا النافعة، فإنه سيتلقاها مستبشرًا بها وحريصًا عليها.
التاسعة: لا تسأَم في العمل مع تربيتهم، فهم غرسك الذي سيبقى لك، وهم جزء منك، وإن نزلوا فكن بعيد النظر في تربيتك.
العاشرة: أطِب مطعمك ومطعم أولادك، فهو سبيل قويم ومعين كبير على حُسن أحوالهم وصلاحهم وإصلاحهم، واجعَل طيب المطعم سجيَّة لهم يستحضرونها في كل حين، فكل جسم نبت من سُحت فالنار أولى به.
الحادية عشرة: حاول قدر الإمكان ألا تُطيل المكث والغياب عن البيت والأسرة لتتواصل التربية، فهم بحاجتك لأنك قدوتهم والتربية تحتاج إلى اللقاءات المتقاربة.
الثانية عشرة: الالتجاء إلى الله تعالى أن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وتشجيعهم أيضًا على الدعاء لأنفسهم، وبيان أهمية ذلك لهم، ولهذا كان إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول في دعائه: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، فكم دعونا بهذا الدعاء وأمثاله لأولادنا! وقد قابلت رجلًا رزقه الله صلاحًا وإصلاحاً في نفسه وزوجته وذريته، فتحاورنا عن الأسباب بعد توفيق الله تعالى، فقال أعظم سبب عندي بعد التوفيق أنني لا أغفل عن الدعاء لهم في كل ساعة إجابة، وقد رأيت آثارَ ذلك ولله الحمد.
الثالثة عشرة: كن رفيقًا معهم في معاملتك قولًا وعملًا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (فمن يُحرَم الرفق، يُحرَم الخيرَ كلَّه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).
إن هذه الأحاديث الثلاثة عظيمة في تقعيد تلك القاعدة التربوية، وهي الرفق وعدم الغضب والعجلة في التوجيه، فإنك ترى من المراهق تصرفات تعجبك وأخرى تغضبك، فشجِّعه في الأولى ووجِّهه في الثانية.
الرابعة عشرة: ابذل جهدك المبارك في سبيل تثقيفهم في أمور دينهم وأخلاقهم من الناحيتين النظرية والعملية، فالأولى من خلال محادثتك معهم، وبيان ما تحمله من علمٍ وثقافة، أعطِهم مما أعطاك الله شيئًا فشيئًا، حتى تستقيم أمورهم، وأما الناحية العملية فحاول متابعتهم في دراستهم وتحصيلهم العلمي، وابحَثْ عن واقعهم التربوي، وحاول جاهدًا تسجيلهم في حلقات تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة ولله الحمد، وحبِّب إليهم الاطلاع والقراءة، وجميل أن تجعل في متناولهم كتيبات ولو كانت صغيرة، وتسميها كتاب الأسبوع، ففي كل أسبوع كتيب ولو كان صغيرًا، فهم سيقرؤون في السنة على تلك الطريقة قرابة خمسين كتابًا، فمن خلالها بإذن الله تعالى سيتحسن سلوكهم، وتترقَّى ثقافتهم، فإنك في هذين الأمرين النظري والعملي ستحصد نتاج عملك صلاحًا وإصلاحًا في قلوبهم وأحوالهم بإذن الله تعالى.
الخامسة عشرة: لا تُضق ذرعًا بالأخطاء إذا حصلت منهم، فهي وإن كانت سلبية في ذاتها إلا أنها فرصة للتصحيح والتسديد، فغضبك خلال خطئهم - وهو مجرد عن التوجيه - هو ضرب من أضرب السلبية، لكن امزج هذا ببيان السلوك الصحيح، فهو ينتظر منك التوجيه، ولا تسأم ولا تَمَل، فهؤلاء أبناؤك وقُرة عينك، فكل كثير تبذله تجاههم لا تَستكثره، فهو سينعكس إيجابًا عليهم.
السادسة عشرة: لا تكن معهم جادًّا في جميع أحوالك، ولكن ساعة وساعة، فوجِّه بجدية وامرَح مرحًا في مكانه، وابتسِم وتصابى أحيانًا للطفل، وأظهِر لهم هذا جميعًا؛ حتى يفهموا منك جميع أوجه التربية؛ لتستقر محبتك في قلوبهم، وليقبلوا توجيهاتك.
السابعة عشرة: استعمل معهم ثقافة الشكر عند الإنجاز مهما قل، فإن هذا الشكر يولد إنجازًا آخرً، ويعتادون معك ومع غيرك ثقافة الشكر، ويكون سجية لك ولهم.
الثامنة عشرة: لا تعاتبهم أمام الآخرين أو تحتقرهم أمامهم، فإن هذه بصمة سلبية لا ينساها أبدًا، وتنقش في قلبه بُغضَ توجيهك أحيانًا، ولكن اجعل هذا العتاب في موطن آخر بينك وبينهم.
التاسعة عشرة: هل الضرب هو حل للمشكلات والأخطاء؟ الجواب لا، ولكن إن قلنا بوجوده، فهو في آخر الحلول وعلى أقل الدرجات؛ لأن المقصود التأديب وليس التعذيب، فعليك بتفاديه ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
العشرون: كلفهم بالمسؤوليات؛ حتى ينشؤوا على مستوى تلك المسؤولية، ويعرفوا المداخل والمخارج، ولا يكون أحدهم أخرقَ لا يعرف كيف يتصرف في المواقف.
الحادية والعشرون: لا تفضِّل بعضهم على بعض، فإنهم إن يشعروا بذلك تحصل في قلوبهم الحزازات عليك وفيما بينهم، ولكن إن كنت مفضلًا أحدًا على أحد، فلا بد من مبرر للتفضيل، والأصل في هذا العدل بينهم في كل شيء.
الثانية والعشرون: استشِرهم في كثير من الأمور، حتى لو كنت تملك رأيًا سديدًا، فإن هذا ينمي عندهم حسَّ المسؤولية والقوامة والرجولة، وربما استفدت منهم رأيًا آخرَ يناسبك.
الثالثة والعشرون: إن في السنة النبوية من المواقف التربوية ما لا يحصى كثرةً، فاحرص على الاطلاع عليها، محاولًا تطبيقها على ذريَّتك، فهي أسلمُ وأحكمُ النظريات على الإطلاق لتجمع العلم والعمل جميعًا.
الرابعة والعشرون: تذكَّر يوم أن كنت شابَّا صغيرًا: ما واقعك؟ وما أخطاؤك؟ وكيف كنتَ؟ فخُذ من تلك الحال درسًا لهذه الحالة الراهنة مصححًا ومتمِّمًا ومسددًا، فهذه أخي الكريم مجموعة نصائح لعلها تكون من الزاد التربوي لي ولك أيها الأب ولك أيتها الأم في تربيتنا لأولادنا، أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا صلاح النية والذرية، وأن يجعلهم قرة عينٍ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تربية الأبناء على احترام الذات
احترم نفسك يا ولد..!
صيحةٌ يطلقها الآباء والأمهات كثيرًا عندما يصدر من الأولاد تصرفًا يشينهم، أو يتعدون فيه حدود الأدب أو اللياقة، فهل تقتصر هذه الصيحة على تلك المعاني فقط؟
عزيزي المربي، هل تعمدت تنشئة أبنائك على المعنى الحقيقي لقيمة احترام النفس وتقدير الذات؟؟ وهل ندرك نحن المربون والمربيات أهمية هذه القيمة في تربية الأبناء؟
أهلًا بكم أعزائي، ولنبحر معًا مع هذه القيمة الجميلة والتي تغيب عن أذهان الكثيرين أثناء رحلتهم التربوية مع الأبناء.
أعزائي..المربين والمربيات:
إن تربية الطفل على احترام ذاته يعني: الصورة الذهنية التي يحتفظ بها الطفل في نفسه عن ذاته، وعن مواهبه، وعن قدراته، وعن مدى استقامته، وعن مدى حب أهله له..إن هذه الصورة الذهنية، وهذه الانطباعات، وهذه العقائد الشخصية لدى الطفل هي التي تشكل احترامه لذاته. [الاحترام معالمه وتربية الناشئة عليه، د.عبد الكريم بكار ص(14)].
لماذا يحتاج أبناؤنا إلى احترام الذات؟
إن تنشئة الأبناء على احترام الذات تجعلهم أبعد ما يكونون عن السلوك السيء والتصرفات المعيبة، لأنهم - إذ ذاك- معتدون بأنفسهم كثيرًا بدرجة كافية لترفعهم عما يشينهم.
ويمكّنهم هذا الخلق من استكشاف قدراتهم الخلاقة، ومواهبهم، ومهاراتهم.
ويعلمهم المثابرة، فيستطيعون استعادة توازنهم مرة أخرى بعد مواقف الإخفاق أو الفشل.
كما يكسبهم القوة التي يواجهون بها مصاعب الحياة، وتحديات المستقبل.
ويكسبهم اتجاهات إيجابية نحو أنفسهم وحياتهم.
[حتى لا يتحول طفلك من إمبراطور إلى ضفدعة، عمرو أبو ليلة، نسيبة أحمد ص(32)].
ومن باب قول الشاعر: (وبضدها تتميز الأشياءُ) نحاول أولًا أن نتبين سمات الطفل الذي يفتقر إلى قيمة احترام النفس.
أهم سمات الطفل الذي لا يشعر باحترام الذات:
• الخجل:
الطفل الذي لا يحترم ذاته خجول، يتهيب الدخول أمام الضيوف، ويرفض تقديم التحية لهم، ويرفض الدخول على الناس المجتمعين في المناسبات إذا طلب منه أن يسلم عليهم.
• التردد:
يتردد كثيرًا حين يطلب منه اتباع أسلوب جديد، أو القيام بعمل لم يألفه من قبل، فأي تغيير يطلب منه يرتبك منه ويتردد ويخاف، والسبب أن الثقة بالنفس هي جزء من احترام الإنسان لنفسه، وهذا الطفل مفتقر لها.
• الاعتماد على الآخرين:
والطفل الاعتمادي يفتقد روح المبادرة، وتراه يعتمد على أبويه في أبسط القرارات، ويسألهما في أمور هي من صميم مسئولياته: هل أختار لون الدفتر كذا أو كذا؟، هل أذاكر الآن أو أنام؟
إن اعتماده في كل شيء على أهله، وكأنه لا رأي له في شيء من الأشياء دليل على أنه لا يحترم نفسه بالقدر الكافي، ولسنا ضد مشاورة الأبوين، ولكننا ضد انسحاق الشخصية والاعتماد على الآخرين في كل شيء.
• كراهية النقد:
من سمات هذا النوع من الأبناء كراهية النقد، فحين يوجه إليه أحد والديه أو أساتذته أو أقربائه يشعر بالخزي والعار، وينتابه شعور بالانهيار ويتمنى انتهاء الموقف بأقصى سرعة، فهو حساس جدًا للنقد، بينما الطفل الذي يثق بنفسه يتقبل النقد، وبالاعتراف بالتقصير إذا كان الناقد محقًا أو الدفاع عن النفس وشرح موقفه إن كان الناقد غير محق في انتقاده له.
• الخوف من الإخفاق:
يخاف دائمًا من الإخفاق والفشل، وهذا الخوف يدفعه للانطواء، ويدفعه إلى عدم المبادرة، أو المحاولة، فهو يفضل أن يبقى في الظل في الصفوف الخلفية..!
ولذلك نجد كثيرًا من الأولاد غير المهتمين بدراستهم لا يفضلون أبدأ أن يجلسوا في مواجهة الأساتذة، أو في الصفوف الأمامية، بل يختارون دائمًا الزوايا والصفوف الخلفية، ولا يحبون أن يوجه إليهم أي سؤال..!
وحين يخفق الطفل الذي لا يحترم ذاته فإن هذا الإخفاق يسحقه، وبعضهم قد يترك الدراسة بسبب توبيخ أو تعليق سلبي من بعض أساتذته، نعم ليس لديهم قدرة على مواجهة الصعاب، أو الأزمات، ويتوجسون من الصعاب بشيء من التهويل، وكأن كل مصيبة هي القاصمة التي ستقصمهم، وتقضي عليهم..!
• المبالغة في التفوق على الأقران:
هذا الطفل يكون اهتمامه بأقرانه مبالغ فيه، بحيث يصير أقرانه هم شغله الشاغل، وإذا نقصت درجاته في إحدى المواد درجة أو درجتين بكى وغضب وشعر بأنه محطم، حتى لو كان ترتيبه الأول أو الثاني على صفه الدراسي..!
وربما كانت معاناته الشديدة تلك بسبب شعوره بالنقص والذي دفعه لأن يتخذ التفوق الدراسي أداة للتعويض، وليس من أجل مميزات التفوق الدراسي الأخرى.
• الحاجة إلى الدعم:
لأن هذا الطفل ضعيف الثقة بالنفس، فهو يشعر دائمًا بالحاجة الماسة إلى الدعم، وإلى المساندة، كما يكره المغامرة ويطلب المساعدة ممن حوله في كل ما يهمّ للقيام به من شئونه، وفي أسهل الأمور وأبسطها، خاصةً من والديه أو إخوته الكبار.
• القلق من آراء الآخرين:
هؤلاء الأطفال لديهم قلق دائمًا بشأن الصورة الذهنية التي رسمها عنهم الآخرون، وأحدهم قد يسأل نفسه: يا ترى إذا رآني الناس في المكان الفلاني ماذا يظنون بي؟ يا ترى إذا لبست هذا الثوب فماذا سيقولون عني؟
بينما الذي يحترم نفسه ويقدرها لا يهتم كثيرًا بآراء الناس؛ لأن له معاييره الشخصية، وله قيمه، وله رؤيته، فهو يأخذ آراء الناس فيه بعين الاعتبار دون أن تكون هي الموجّه والمحرّك لتصرفاته.
عزيزي المربي..
إنّ الطفل يشعر غريزيًا بأن له قيمة وكرامة، وعلى المربي أن يراعي أهمية هذا الشعور الفطري وينمّيه، لأنه ينأى بالطفل عن القبائح، ويحمله على أن ينزّه نفسه عنها، ويجعله يقبل على الفضائل ويرضاها لنفسه، ويعيش حياته متمسكًا بقيمه فخورًا بها، لا يتنازل عنها ولا يزايد عليها.
ومن أهم جوانب تنشئة الأبناء على احترام الذات والتي يوصي بها خبراء التربية:
• تنمية ثقة الطفل بنفسه:
الثقة تولد لدى الطفل شعورًا بعزته وافتخارًا بتربيته وقيم أسرته، ومن ثم احترامًا لنفسه ولأسرته ولقيمه التي تربى عليها، وتلك المشاعر من شأنها أن تجعل الطفل داعية لمبادئه، مدافعًا عنها بكل قوة وعزة وافتخار، مما يقوي ثباته على المبادئ، ومناعته ضد الاستسلام لإغراءات الفساد والانحراف والجريمة. [التربية الإيجابية للطفل، د.مصطفى أبو سعد، ص(90)].
• توجيهه لأن يعرف أهدافه ويسعى لتحقيقها:
الطفل الذي يحترم ذاته صاحب هدف وغاية واضحة في ذهنه، فهو يعرف لماذا خلق؟ ولماذا جاء إلى هذه الحياة الدنيا؟ وما هي غايته التي يسعى إليها؟ بدايةً من الهدف الأسمى الكبير وهو عبادة الله تعالى، وانتهاءًا بكل ما يعرض له من أعمال مثل: لماذا يذهب إلى المدرسة؟ ولماذا يقوم بدور معيّن في الأسرة؟ لماذا عليه أن يجتهد ويتفوق؟
وتمثل الهدفية نوع من العزم والتصميم وتقييم الجهد المبذول، وبفقدان الطفل لمعرفة الأهداف الطويلة والقصيرة المدى، يصاب بالحيرة واللامبالاة ومن ثمّ الشعور بالخوار، وتدني احترام الذات.
• توجيهه إلى اكتشاف مواهبه وقدراته:
ويسعى الوالدان لملاحظة واكتشاف تلك المواهب مبكرًا وتنميتها، وإشعار الطفل بقيمة تلك المواهب، وأن الله تعالى يمنح كل إنسان قسط من المواهب والقدرات التي تميزه عن غيره، وأنه يمتلك بالفعل من المواهب والقدرات ما لا يمتلكها غيره، وأن عليه أن ينميها ويحافظ عليها. [كيف تقوي إرادة طفلك؟ عاطف أبو العيد، ص(35)].
• لا تسمح له بتقمص الآخرين:
على المربي ألا يسمح لطفله بالاسترسال في مقارنة نفسه بالآخرين بشكل سلبي،بأن يقول(فلان أفضل منّي، أو أنا فاشل!، أو أنا غبي لا أفهم هذه المادة).
أو أن يغرق في تقليدهم وتقمص أدوارهم، فضلًا عن أن يقوم المربي نفسه بوضع الطفل في تلك المقارنات السلبية التي تحطم تقديره الشخصي لذاته يقول (د.سبوك) في كتابه: (حديث إلى الأمهات): إن الطفل يكره أن يوضع على نفس المستوى مع أحد غيره؛ لأن المقارنة تضعه في حالة تنافس مليئة بالقلق، وتجعله حساسًا للغاية.
أعزائي المربين والمربيات:
إن إخفاقنا في جعل أبنائنا يحترمون أنفسهم ويقدرون ذواتهم هو أمر سيء جدًا، لكن الأسوأ منه هو أن نسهم نحن وبغير قصد في تدمير احترام الطفل لذاته وفي تقديره لها، فالطفل الذي يرى لنفسه قيمة وأهمية وشرفًا لا تتحطم شخصيته، ولا يندفع للإنحراف الذي يريق ماء وجهه، ويحط من قدره أمام نفسه وأمام المحيطين به، وهذا الاحترام لذاته يعتبر الطاقة التي تدفعه للإنجاز والاستغناء عن الغير بالاستقلال والاعتماد على النفس، والقدرة على اتخاذ القرار والإقدام والشجاعة. [هداية الله أحمد شاش، موسوعة التربية العملية للطفل، ص(237)].
وأخيرًا..
إنّ أمتنا ..أمة الإسلام في أمسّ الحاجة إلى أن يكون لدى صغارها الطموح والمبادرة والاستقلال والاعتماد على النفس..فنحن لن نستطيع أن نبني أمة قوية إلا من خلال أفراد أقوياء.
وإن احترام النفس، وتقدير الذات من أهم مقومات القوة لدى أحبابنا الصغار.
الأم وتربية الأبناء
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه ومن ولاه؛ أما بعد:
الأم هي ذلكم الحِضن الكبير، والدفء الوتيد، ومنطلق الشفقة والتربية الواسعة، وهي المغذية والمعالجة والمسلية، وهي المربية والحاضنة، وهي الوالدة والمستشارة الناصحة، وهي المعلمة والراعية، وهي أوسط أبواب الجنة، وهي الحانية والمشفقة، وهي السعيدة إذا سعِد أولادها، وهي المريضة إذا مرِض أبناؤها.
هذه هي الأم، فما مكانتها التربوية لأولادها؟ هذا ما سنعرفه بإذن الله تبارك وتعالى من خلال عشرين وقفة، أرجو من الأمهات الكريمات وضع النقاط على الحروف من خلال تلك الوقفات عمليًّا، وأن تكون تلك الأم المباركة تسلسلًا للصحابيات ونساء المؤمنين الأُوليات، فاعلمي أن عليكِ أمانةً عظيمة، فاستعيني بالله تبارك وتعالى على تأديتها.
الوقفة الأولى: الأم في حياة الأولاد وتوجيههم من أهم المحاضن التربوية؛ لأنها تخالطهم أكثر من غيرها، وتزول الكلفة بينهم وبينها؛ ما يجعل التوجيهات التربوية بأنواعها لا يحول دونها حائل، فمن هنا كان الحديث عن الأم أولًا؛ لتكون هي القاعدة التربوية لهم والمشرفة عليهم، والموجهة الناصحة لهم.
الوقفة الثانية: أيتها الأم الكريمة، يلزمكِ معرفةُ الرعاية اللازمة للأولاد والمنجية أمام الله تبارك وتعالى عندما يسألكِ عن رعايتكِ لهم، وفَهمُ ذلك حق الفهم، وتنزيله على أرض الواقع كما أراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا حصل هذا بتمامه، تصححت المفاهيم وصلُح الأولاد، وفزتِ ببرهم وفلاحهم.
الوقفة الثالثة: اقرئي عن أمهات المؤمنين والنساء الصالحات ومربيات الأجيال عبر التاريخ؛ حتى تتعرفي على عملكِ الحقيقي الذي أُنيط بكِ، أما اجتهادكِ فتشكرين عليه لكن قد تصيبين وتخطئين، أما الاطلاع على كتيبات من السيرة يعطيكِ تغذية راجعة فيما هو من صميم عملكِ، وهو تربية تلك الناشئة، فإذا تساهلتِ في هذا، فقد تساهلتِ في أبرز أعمالكِ وواجباتكِ.
الوقفة الرابعة: اجعلي أولادكِ مشروعكِ في الحياة، فخططي وفكري وناقشي غيركِ وحاوريه حول التربية الصحيحة؛ لتقومي بعمل اللازم، فإذا أنشأتِ ثلة من الأولاد تربَّوا على يديكِ تلك التربية الصالحة، فقد قمتِ بواجبكِ وهنيئًا لكِ في كونهم الصدقة الجارية لكِ، فاجعلي هذا هو شغلكِ الشاغل؛ فهم من آثاركِ التي يكتبها الله لكِ.
الوقفة الخامسة: أكثري من الدعاء لهم خصوصًا في أوقات الإجابة؛ فلربما فشلت التربية ونجح الدعاء، فلا تسأمي ولا تملي، وكرري وألحي، وأيقني بالإجابة ولو بعد حين، فأنتِ على خير عظيم؛ فدعوتكِ هي إحدى الدعوات المستجابات.
الوقفة السادسة: إن من أهم مسؤولياتكِ تلقين أطفالكِ حال صغرهم العقيدة الصحيحة؛ كقولك: (من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟)، ونحو ذلك من أساسيات الاعتقاد؛ حتى يأخذها صغيركِ ويحفظها ويتربى على معرفتها ويتلفظ بها، ولو لم يفهمها في حينها، فإنه سيفهمها لاحقًا بإذن الله تبارك وتعالى، فأرضعيه تلك العقيدة؛ حتى ينشأ صالحًا مصلحًا بإذن الله عز وجل.
الوقفة السابعة: تأكدي أيتها الأم المباركة أن مرحلة الطفولة هي تكوين لشخصية المستقبل؛ فاهتمي بها كامل الاهتمام، فهي مستودع المستقبل ومخزنه، ومن الخطأ أن نحتقر الطفل ونقول بأنه لا يفهم ما يتم توجيهه به، أو أنه لا يستوعب ذلك، بل هو يسجل ما يحدث سلبًا أو إيجابًا ثم يستعرضه لاحقًا، وحاوريه عما وجَّهتِهِ به فستجدين عند جهينة الخبر اليقين.
الوقفة الثامنة: حاولي أيتها الأم أن تستثمري أولادكِ في تحفيظهم الأذكار اليومية في الدخول والخروج، والمأكل والمشرب، والنوم والصباح والمساء، إضافة إلى الأعمال الفاضلة اليسيرة؛ كصلاة الضحى والوتر، ونحوهما؛ فهذا كله صدقة جارية لكِ، وربما تسلسل إلى أولادهم في الزمن القادم، فبرمجي تلك النصوص النبوية، في كل أسبوع - مثلًا - يحفظ ذكرًا أو يعمل عملًا فاضلًا، وتتابعينه فيه، فهنيئًا لكِ ويا بشراكِ حينها.
الوقفة التاسعة: لا بد للأم الكريمة أن تستثمر المواقف مع أطفالها سلبًا أو إيجابًا بالتوجيه المناسب وبالأسلوب المناسب؛ حتى يتعرف على الصواب من الخطأ، أما العتاب السيئ أو ضياع فرص التوجيه بتركها، فهي خسارة كبيرة على الأم المباركة، فلو تمَّ توجيهه في كثير من المواقف، لصار شخصية كريمة محترمة متربية.
الوقفة العاشرة: لتعلمِ الأم وكذلك الأب أن صلاحهما هو من أوسع الطرق لصلاح الذرية والعكس بالعكس، إلا أن يشاء الله تعالى، فاحرصا جُزيتما الجنة على أن تكونا قدوة صالحة لهم؛ فهم من آثاركم المكتوبة لكم عند الله عز وجل.
الوقفة الحادية عشرة: على الأمهات الكريمات تشجيع وتحفيز الأولاد على إيجابياتهم القولية والفعلية؛ لأن كل تشجيع يُولِّد إيجابية أخرى، وهكذا تتوالى الإيجابيات، فلا بد أن يكون التشجيع منهجًا ثابتًا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه؛ حيث قال لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ((نِعم الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل))، فاستذكري ذلك دائمًا مع أولادكِ، وفقكِ الله.
الوقفة الثانية عشرة: على الأم الفاضلة تعليم بناتها الأحكام الشرعية للدورة الشهرية، وتبدأ في وقت مبكر بمقدمات واضحة من حيث التعامل الشرعي مع ذلك الحدث؛ لأن بعض البنات قد يحصل معها هذا ولا تتحدث به وقتًا قد يطول، فكان لزامًا على الأم المباركة أن تتقدم هي بهذا.
الوقفة الثالثة عشرة: يجب على الأم أن تحذر الكذب عمومًا ومع الصغار خصوصًا؛ لأنهم سيقتدون، وإذا سمعوا ذلك الكذب، فقد يكون سجية لهم ويصعب تعديلهم، بل إذا سمعت منهم كذبًا، وجهتهم وأرشدتهم.
الوقفة الرابعة عشرة: يكثر أحيانًا الخلاف مع الأولاد عامة ومع الصغار خاصة، فلتحذر الأم الكريمة لكثرة احتكاكها بهم أن تدعوَ عليهم؛ فإن هذا الدعاء هو إحدى الدعوات المستجابات ثم يحصل ما لا تُحمد عقباه، والشواهد على هذا كثيرة ومتوفرة، وذلك بسبب موجة غضب سريعة، فالتعامل مع الغضب ليس بالدعاء، وعلى الأم أن تدرك العواقب قبل أن يحلَّ ما لا تُحمد عقباه.
الوقفة الخامسة عشرة: من الآداب التي ينبغي للأم تعويد أطفالها عليه الأخذ والعطاء والأكل باليمين، والتسمية والحمد عند الطعام، والحمد والتشميت عند العطاس، والشكر عند الإنجاز، والسلام عند الدخول، واجتناب الملابس المصاحبة للصور ذوات الأرواح أو الكتابات السيئة، ونحو ذلك من الآداب؛ حتى ينشأ الطفل متأدبًا بآداب الإسلام ومتمسكًا بها.
الوقفة السادسة عشرة: إن حديث الأمهات لأولادهن عن مستقبلهم الاجتماعي والوظيفي ونحو ذلك مهم جدًّا؛ لأن هذا مما يرسخ في ذهن الطفل الإعداد والاستعداد؛ لذلك فليُكرَّر مرارًا.
الوقفة السابعة عشرة: على الأم المباركة ترسيخ المفاهيم التربوية عند الأطفال، وذلك بالأسلوب المناسب لهم، وهذا مما يدعم القيم الإيجابية لديهم، ويجعلهم محصنين من السلبيات بإذن الله تعالى، شريطة ألا يرَوا من أمِّهم ما يخالف تلك المفاهيم، فالاحترام والأدب والطاعة وضبط الألفاظ والحفاظ على الممتلكات ونحو ذلك - هي مفاهيم تربوية تُغرس هي وأمثالها في نفوس الأولاد.
الوقفة الثامنة عشرة: من المهم على الأم والأب أن يجعلوا عمل الخير أحيانًا أمام أولادهم ليقتدوا بهم؛ فالقدوة هي باب كبير في التربية ومن أيسر السبل إليها؛ فهي الدعوة الصامتة، فلنتعمد أحيانًا ذلك؛ حتى يتربى أولادنا بأكثر من أسلوب على الخير، وليجعلوه شعارًا لهم، فكم تربى الناس بعضهم على أيدي البعض الآخر من خلال الاقتداء!
الوقفة التاسعة عشرة: تأكدي أيتها الأم المباركة أن توجيهاتكِ لأولادكِ لم تذهب أدراج الرياح، حتى ولو لم يُلقوا لها بالًا، بل حتى ولو سخروا منها، حتى قالت إحدى الأمهات: كنت حريصة على توجيه ابنتي، وهي تسخر مني أحيانًا، لكنها لما كبرت، قالت بأن توجيهاتكِ لي لا ألقي لها بالًا، لكن إذا حصل الموقف تذكرتها وطبقتها، وهذه البنت الآن هي داعية وحافظة لكتاب الله تعالى.
الوقفة العشرون: أيتها الأم الكريمة لا تنشغلي بزخارف الحياة وبهرجتها عن العمل الذي أُنيط بكِ، فستكونين مضيعة لما كُلِّفت به، مقابل المحافظة على ما لم تكلَّفي به؛ فإن هذه الذرية هم رعيتكِ، وستُسألين عنهم، والسؤال عظيم في وقت جسيم لا تنفع فيه الحجج الواهية، ولا يمكن فيه الرجوع لتصحيح المسار، فتفقَّدي ما كُلِّفت به الآن؛ ليسهل عليك الجواب غدًا، وما قيل عن الأم في كثير من هذه الوقفات هو منطبق على الأب المبارك الكريم، فليعمل الجميع على نجاة نفسه بصلاحه وصلاح من تحت يده، فالأمر جِدُّ خطير، والتسويف هو رأس أموال المفاليس، فاستيقظوا ما دمتم في زمن الإمكان.
أسأل الله تبارك وتعالى للجميع صلاح النية والذرية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق