مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ به تعالي من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهدِ الله فلا مضل له ومن
يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاتهِ ولا تموتُن إلا وأنتم مسلمون)(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلُون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً *يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) أما بعد:
الغضب : ذمة ومدحه وأسبابه وعلاجه وخطورته
أولاً : كلمة عامة عن الأخلاق :
الأخلاق هي الصفات الراسخة في الإنسان التي يتعامل بها مع غيره ولا تزال تظهر آثارها بحسب الظروف والوقائع المختلفة ؛ كالشجاعة والتهور والجبن والحِلم والطيش والأناة والعَجَلَة والجود والإسراف . . . إلخ .
فكأن هذه الصفات مخلوقة مع الإنسان لا تفارقه، ومن ثم أُطِلقَ على الصفة : كلمة خُلُق حيث بينها وبين كلمة خَلق اشتقاق أصغر.
(نفس الأحرف والترتيب مع اختلاف الضبط.خُلُقٌ ـ خَلْقٌ) وكما أن الإنسان يستطيع أن يكتسب بالتدريبات الرياضية عضلات مفتولة مخلوقة، فكذلك يستطيع الإنسان أن يكتسب بالتخلق والتكلف أخلاقاً حتى تصير له سجية ومَلَكَة .
وفى الحديث الصحيح قَالَ أَشَجُّ بْنُ عَصَرٍ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلْتُ مَا هُمَا قَالَ الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ قُلْتُ أَقَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَمْ حَدِيثًا قَالَ بَلْ قَدِيمًا قُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا {. أخرجه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح مروى في مسلم فدل ذلك على أن من الخلق ما هو طبيعة وجبلَه، وما هو مكتسب بفعل العبد بالاستعانة أيضاً بالله ثم بالهمة العالية وتكلف الُخُلق المطلوب . كما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ} وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ {رواة البخاري. فمثلاً من لم يرزق خلق الصبر المحمود (بلا قسوة قلب ولا هلع) فإنه عليه أن يدرب نفسه على الصبر في المواقف المختلفة، ويتكلف ذلك مراراً، ويستعد نفسياً لمواجهة أنواع البلاء ويوطن نفسه على ذلك مستعيناً بالله (وما صبرك إلا بالله) لأنه بغير الاستعانة بالله لن يستطيع شيئا (لأن الله تعالى إن لم ييسره لم يتيسر) ومتوسلا بالعمل الصالح عموماً وبالصبر والصلاة خصوصاً، فليحاول بلا ملل أن يكون صابراً، فإن أخفق مرة فليحاول مرة ومرة بلا يأس وليجاهد نفسه على ذلك مستعيناً بطلب العلم عن عاقبة الصبر في الدنيا والآخرة ومغبة صدره، وعن السيرة النبوية والصحابة في ذلك، فهذا هو التصبر الذي يرزق به الصبر (ومن يتصبر يصبره الله) قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين). . . وهكذا في جميع الأخلاق من العفة والاستغناء والجود والحلم والتواضع وغير ذلك . . . وكان رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في استفتاح الصلاة قائلاً (وَاهْدِنِي لأحْسَنِ الأَخْلاقِ لا يَهْدِي لأحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ)رواة مسلم.
وهنا ثلاثة أسئلة على هذا الحديث :ـ
1- ما هو أحسن الأخلاق
؟ 2ـ ما هو سيئها ؟
3- لماذا التنبيه والتوكيد على أنه لا يهدى لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا الله ؟ . . . وأرجو من القارئ أن يحاول الإجابة بنفسه عليها قبل أن يقرأ الإجابة هنا حتى يعلم كم بعد المسلمون في زماننا عن فهم حقائق الإسلام ومعاينة . وإليك الإجابة مأخوذة أساساً من كلام بن القيم في المدارج ( منزلة الخلق وغيرها) والفوائد (حدود الأخلاق) .
لكل خُلُقٍ محمود حد وهو وسط بين خلقين ذميمين كالجود الذي يكتنفه خُلُقا البخل والتبذير، والتواضع الذي يكتنفه خلقا : الذل والمهانة، والكبر والعلو . وهكذا ...
فإن النفس متى أنحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد ولنأخذ مثالاً للتوضيح : للشجاعة حد متى جاوزته صار تهورا، ومتى نقصت عنه صار جبنا وخورا. أما حدها فهو الإقدام في مواضع الإقدام والإحجام في مواضع الإحجام . ويلزم أن يكون الشجاع عالما بمواضع الإقدام والإحجام، فيعلم أين يضع الشجاعة وأين يحسن استعمالها . وكثيراً ما تتشابه وتتشابك هذه المواضع حيث يتحير الشجاع أيُقدم أم يُحجم، مثل رجل اجتمع عليه أعداء لا طاقة له بهم وهم جيرانه أو لقيهم مفاجأة في طريق مقطوع، أيقدم على المواجهة معهم فيُقتل أو يغلب، أم يحجم ويظهر أمامهم بمظهر الجبان الذليل المستسلم، أم يحتال ريثما يستعد ويستعين بغيره . . . ومواقف الحياة كثيرة ومتنوعة لا يحصيها إلا الله سبحانه كما أن بين الشجاعة والتهور درجات كثيرة، فيكون انحراف النفس عن الحد المحمود على درجات كثيرة أيضاً، وكذلك بين الشجاعة والجبن . . . والمسلم قد لا يدرى على أية مرتبه يقف وهو مطالب بالشجاعة فأنى له ذلك؟ وكذلك مواضع الإقدام والإحجام والتي قد يحتار فيها الأكابر . كما قال معاوية لعمرو بن العاص رضى الله عنهما : أعياني أن أعرف أشجاعُُ أنت أم جبانُُ !! تقدم حتى أقول : من أشجع الناس، وتجبن حتى أقول : من أجبن الناس .
فقال عمرو : شجاعٌ إذا أمكنتنــــــى فرص فإن لم تكن فرصـــــــــة فجبانفهذا خلق واحد يحتاج إلي علم صحيح بحده كما سبق، ويحتاج إلى معرفة وتقدير صحيح لمواضع الخير والشر ووضع الخُلُق موضعه الصحيح (وذلك من أحسن الأخلاق) كما يحتاج لصرف الطرفين السيئين (التهور والجبن) وما بينهما من مراتب كثيرة (وذلك من أسوأ الأخلاق) . . . ويتبقى خُلُق الشجاعة لا يهدى إليه علما وعملا إلا : الله سبحانه، كما لا يصرف التهور والجبن علما وعملا إلا الله سبحانه، لا سيما و4 النفس أمارة بالسوء والإنسان ظلوم جهول، فيجهل حدود الأخلاق، وإن عرفها وضعها في غير مواضعها، فيضع الغضب موضع الحلم وبالعكس، ويضع الإمساك موضع البذل وبالعكس . . . فالهداية لأحسن الأخلاق، وصرف سيئها لا يعتمد عليه إلا الله عز وجل . وعلم الحدود هو من أشرف العلوم وأنفعها، حدود الأخلاق والأعمال والمشروعات (أمرا ونهيا) . . . فأعلم الناس هو أعلمهم بتلك الحدود فلا يُدخل فيها ما ليس منها ولا يُخرج منها ما هو داخلٌ فيها . قال تعالى : (الأعراب أشد كفراً ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) فإذا أمر الله بالعدل والإحسان، وجب أن نعلم حد العدل المأمور به وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط حتى في الأمور الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك .إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا . . وكذلك في الإحسان وفى الفحشاء والمنكر والبغي وفي كل ما أمر به الله أو نهى عنه . وينبغي أن يعلم أن حسن الخلق هو الدين كله وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وما قابل ذلك هو الإثم . وفى صحيح مسلم عن النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ) وبمعنى آخر : فإن حسن الخلق هو معاملة الله بالتقوى، ومعاملة الناس بالإحسان .وبالتالي فحسن الخلق طمأنينة النفس والقلب (كما في الحديث الآخر : الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ )رواة أحمد وفي صحيح الجامع برقم2880.وذلك هو الحياة الطيبة التي أخبر الله عنها في كتابة (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة . . . الآية) ويقابل ذلك الإثم وهو حواك الصدور، وما حال فيها واسترابت به . . . وذلك هو المعيشة الضنك وهو سيئ الأخلاق .
ويتضح من ذلك أن حسن الخلق وسوءه في الإسلام غير حسنه وسوءه في عرف كثير من الناس الآن في زمن البعد عن حقائق الإسلام علماً وعملاً . قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم . . .) أي بالحياة الطيبة بأحسن الأخلاق وقال : (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا . . . الآية) وهذا الفرقان هو الذي يُفرق به المؤمن بين أحسن الأخلاق وسيئها وفى أعظم وأوجز دعاء في كتاب الله في قوله (اهدنا الصراط المستقيم) إنما يطلب أساساً دوام الهداية لأحسن الأخلاق علماً وعملاً بلا انحراف كانحراف اليهود (في العمل) والنصارى( في العلم). ومن المعلوم أن الإنسان إنما يعمل على طريقته وعاداته التي ألفها وجُبل عليها، وهى التي تناسب أخلاقه وطبيعته كما قال تعالى (قل كل يعمل على شاكلته) .
وقال تعالى (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) قد أفلح من نماها ووسعها وكبرها بطاعة الله بأحسن الأخلاق، وقد خاب من دساها وحقرها وقمعها بمعصية الله بسيئ الأخلاق. وهنا سؤال هام : كيف نزكى أنفسنا ونجتنب تدسيتها ؟ وهل يعمد أحدنا إلى نفسه فينقب عن خباياها السيئة، ويلبسن في أعماقها بحثاً عما جلبت عليه من سيئ الأخلاق فيحاول قمعها أو انتزاعها كخلق الغضب على سبيل المثال ؟
أم لابد من تسليم ذلك إلى الطبيب المختص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والإجابة قطعاً بتسليم ذلك للرسالة . قال تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .. الآية) وتكرر هذا المعنى كثيراً في كتاب الله . والطريقة هي الطاعات المختلفة والعمل الصالح الذي تتوظف فيه الصفات المذمومة فتصير عبوديات عظيمة، وذلك بدون الدخول في أصعب شئ على الطبيعة الإنسانية وهو تغير الأخلاق التي طُبعت النفوس عليها أو علاجها وإنالتها . لقد سأل بن القيم شيخه بن تيميه عن ذلك
فقال له : (النفس مثل الباطوس ـ وهو حب القذر(مقلب زبالة) ـ كلما نبشته ظهر وخرج . ولكن إذا أمكنك أن تُسقف عليه وتعبره وتجوزه فأفعل، ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئاً ظهر غيره) .
نأخذ مثالاً بخلق سيئ كالكبر، فهو يغذى أخلاقاً مذمومة كالعلو والفخر، والبطر والظلم والعدوان، لكنه أيضاً يغذى أخلاقاً حميدة كعلو الهمة، والآنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم، فلماذا لا تبقيه على حاله في النفس لكن نستعمله حيث يكون استعماله أنفع . . . مثال آخر بالخيلاء وهو خلق سيئ يبغضه الله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبو دجانه يتبخر بين الصفين فقال (أنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع )فصارت الصفة المذمومة عبودية، وجعل هذا الخلق يجرى في أحسن مواضعه . وكذلك خلق الغضب الذي يحمل على الكبر والحسد والحقد والعدوان والسفه، فيمكن استعماله في الغصب لله وذلك يعين على ترك الغضب للنفس . وسيأتي تفصيل ذلك .
تولد الأخلاق السيئة :ـ
الله سبحانه قد اقتضت حكمته أن ركب الإنسان ـ بل وسائر الحيوان ـ على طبيعة محمولة على قوتين : غضبية وشهوانية إرادية . وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها . فبقوة الشهوة والإرادة : يجذب المنافع إلى نفسه . وبقوة الغضب: يدفع المضار عن نفسه . فإذا استعمل الشهوة في طلب ما يحتاج إليه تولد منها الحرص وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والغيرة فإذا عجز عن دفع ذلك الضار أورثه قوة الحقد . وإن عجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدا به أورثه الحسد . فإن ظفر به أورثته شدة شهوته وإرادته خلق البخل والشح وعدم العفة، والنهمة والجشع والذل والدناءات وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه : أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبر والفخر والخيلاء . فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب وتزوج أحدهما بصاحبه . ويتولد من بين كل خلقين من هذه الأخلاق أخلاق مذمومة، لا سيما مع الجهل الذي يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والكمال نقصا والنقص كمالاً . ثم الظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه . فيغصب في موضوع الرضى ويرضى في موضع الغضب، ويعجل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع المنع ، ويلين في موضع الشدة ، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع، ويحجم في موضع الإقدام ويقدم في موضع الإحجام .
أ-الشهوة والإرادة (في جلب المنفعة) (يتولد)الحرص :
-مع عجز (يتولد)الحسد.
2-مع الظفر (شدة الشهوة والإرادة)(يتولد ) خلق البخل والشح.
3-باستعمال القوة الغضبية (يتولد) أخلاق العدوان والبغي والظلم.
ب-القوة الغضبية :
فيدفع المضرة(تتولد)القوة والغيرة(مع العجز)يتولد الحقد . وكذلك الأخلاق المحمودة تتولد أساسا من أربعة أركان : الصبر والعدل والشجاعة والعفة والنفس في النهاية لها ميادين وشوارع وطرقات وسراديب وأنفاق ودروب ومنعطفات ولا طاقة للإنسان بسبر أغوارها والإحاطة بها، ومن ثم لا يصح إلا نسلم تزكيتها للرسول صلى الله عليه وسلم . بالاشتغال بتحصين القلب تحصيناُ جيداً بتلاوة القرآن حق تلاوته بالإيمان به والعمل والطاعات الواجبة والمستحبة على السنة الصحيحة، فيقوى عمران القلب، فتتكسر الموجات الآتية من النفس الأمارة بالسوء، وتنبعث موجات قوية من القلب على النفس حتى تصير نفساً لوامة، ومع الاستمرار تصير نفساً مطمئنة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن، وهو الخلق العظيم
وهو التأدب بآداب القرآن وهو الصراط المستقيم وهو السير والاستقامة في حدود الأخلاق المحمودة دون انحراف إلى أي من الطرفين المذمومين كما سنبين أمثلة لذلك بهذا الجدول .
إذا كانت كلمة (الحدود) قد تبين معناها في الأخلاق، فيحسن أن نبين معناها في الأوامر والنواهي والأحكام الشرعية ببعض التفاصيل :ـ
قال تعالى : (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) وذلك في ذكر أحكام الطلاق، وتعدد ذكر كلمة الحدود كما سنذكره، ولكن هنا نجد أن امالها . وكثيرالعلم بهذا البيان فحدود الأحكام الشرعية لا يعرفها حق المعرفة إلا فقيه راسخ في العلم . وأعلم الناس بحدود الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة "رضي الله عنها" في كتاب الصيام في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وَاللَّهِ إِنِّي لأرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي ) . وكلما قلت درجة العلم والتقوى قل العلم بهذه الحدود، حتى نصل إلى من لا يعلم شيئا عن هذه الحدود كما يقول تعالى (الأعراب أشد كفراً ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله . . ) ويقول (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم) ويقول النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ) رواه البخاري .وذلك هو علم حدود الأحكام الشرعية .
وجاءت كلمة الحدود في الكتاب والسنة واصطلاح الفقهاء على ثلاثة معان كما في كتاب جامع العلوم في الحديث رقم 30.
1) حدود نهينا عن اعتدائها وهى جملة ما أذن الله في فعله، سواء كان على طريق الوجوب أو الندب أو الإباحة . واعتداؤها هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه . كما قال تعالى في سورة الطلاق (وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) والمراد من طلق على غير ما أمر الله به وأذن فيه .
وكما قال تعالى في سورة البقرة عن الطلاق والخلع (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) والمراد من أمسك بعد أن طلق بغير معروف، أو سرح بغير إحسان أو أخذ مما أعطى المرآة شيئا على غير وجه الفدية التي أذن الله فيها كما بينها رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقال تعالى في المواريث الشرعية في سورة النساء (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات . . .) إلى قوله تعالى (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا . . .) والمراد من تجاوز ما فرضه الله للورثه ففضل وارثاً، وزاد على حقه، أو نقص منه . وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى عن الحدود أوضح بيان في حديث النواس بن سمعان عند أحمد والنسائى في التفسير والترمذى وحسنه. قال صلى الله عليه وسلم ــ ضرب الله تعالى مثلا صراطا مستقيما و على جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة و على الأبواب ستور مرخاة و على باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ! ادخلوا الصراط جميعا و لا تتعوجوا و داع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام و السوران حدود الله تعالى و الأبواب المفتحة محارم الله تعالى و ذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله و الداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم .
تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 3887 في صحيح الجامع.
(فكما أن السور يمنع من كان داخله من تعديه ومجاوزته، فكذلك الإسلام يمنع من دخله من الخروج عن حدوده ومجاوزتها، وليس وراء ما حد الله من المأذون فيه إلا ما نهى عنه . ولهذه مدح الله الحافظين لحدوده، وذم من لا يعرف حد الحلال من الحرام . والقرآن يقول لمن عمل به : حفظ حدودي، ولمن لم يعمل به : تعدى حدودي (وذلك في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند بن أبى شبة، والخطيب البغدادي والبزار . والهيثمى في المجمع) والمراد أن من لم يجاوز ما أذن له فيه إلى ما نهى عنه، فقد حفظ حدود الله، ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله . وفى حديث أبى ثعلبة (حد حدودا فلا تعتدوها)
2) وقد تطلق الحدود ويراد بها نفس المحارم .
قال تعالى في سورة البقرة عقب أحكام الصيام وبيان محظوراته ومحظورات الاعتكاف في المساجد، وذلك من حدود الحلال والحرام :
(وتلك حدود الله فلا تقربوها) والمواد النهى عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من المحظورات . وكذلك بنفس المعنى قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم (إنى أصبت حداً فأقمه على) وكذلك في الحديث (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ. . . الحديث)رواة البخاري وأراد بالقائم على حدود الله : المنكر للمحرمات والناهي عنها .
3) أما المعروف من أسم الحدود في اصطلاح الفقهاء : فهي العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة، كما يقال : حد الزنا، وحد السرقة وحد شرب الخمر، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة (أتشفع في حد من حدود الله)
أما شرح حديث النواس بن سمعان فيحتاج للبسط في موضع آخر، ولكن يكفى التنبيه على الصراط : الإسلام، والإسلام هو مجموع جزئيات، وكل جزئية لها حدود لحلالها وحرامها، والمأذون له فيها والمنهي عنه، والمسلم السائر في هذا الصراط قد يصادف في يوم واحد ألف جزئية أو أكثر من جزيئات الدين وهو مطالب بمعرفة هذه الحدود أولاً، وحفظها ثانياً، يعنى عدم تعديها ومجاوزتها، فلا يُفرط ولا يُفَرط . . . والرسول صلى الله عليه وسلم قد ربط بين خشية الله وعلمه بحدوده وقال تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله)
ثانياً : خطورة اللسان :
قال تعالى (إذ يتلقى الملتقيان عن اليمن وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) من تدبر هذه الآية وعلم أن الملائكة معه تسمع منه وتكتب ما يقول، وهم الحافظون الكرام الكاتبون، فلا يغادرونه لحظة إلى أن يموت، من تذكر ذلك وتيقن كيف يطلق لسانه إلا من خير . ولعل ما يأتي من الأحاديث والآثار تكون أشد تأثيراً وأبلغ بيانا من كلامنا ، وإن كانت للأسف الشديد هذه النصوص معلومة عند الكثير ولا تزال ألسنتهم بلا حاكم ولا ضابط تعيث فساداً في دينهم ودنياهم، وتجلب لهم المعيشة الضنك دنيا وآخرة، وذلك من ضعف الإيمان مع الغفلة الشديدة وقسوة القلب من طول الأمد فأصبحت لا تتأثر بالنصوص، أو وقعت تحت العقوبة على التفريط في هذه النصوص بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) يعنى يحول الله بينه وبين قلبه أن يفهم ويقبل ويعمل والعياذ بالله من هذه العقوبة . لكننا لا نيأس من روح الله، ولا نقنط من رحمته، فالقلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، وهذه بعض النصوص :ـ
من حديث معاذ بن جبل : في الترمذى والمسند ( أَلا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ قُلْتُ بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 5136 في صحيح الجامع.
} لقد سأل معاذ "رضي الله عنه" عما يدخله الجنة ويباعده من النار فوصف له الرسول التوحيد وأركان الإسلام ثم دله على أبواب الخير من الصوم والصدقة وقيام الليل ثم دله على رأس الأمر وعموده وذروه سنامه عن الإسلام والصلاة والجهاد ثم دله على كيف يحكم أمره ويملكه ويضبطه ويستقيم في كل ما سبق ذكره، ألا وهو أن يملك لسانه ويضبطه ويحبسه فذلك أصل الخير كله . وإلا تأكد ما يدخل الناس النار هو النطق بألسنتهم ومن ذلك (الشرك ـ القول على الله بغير علم ـ شهادة الزور ـ الغيبة ـ النميمة ـ الكذب ـ السحر ـ وسائر المعاصي الفعلية لا يخلوا غالباً من قول يقترن بها يكون معينا عليها، لا سيما مع الغضب حيث يظهر السب والفحش والقذف واللعن والدعاء بالشر، والإيمان التي لا يجوز الالتزام بها شرعاً (كاليمين بقطع الرحم) ، وطلاق الزوجة وغير ذلك مما يتزلزل به حياة الإنسان دنيا وآخره)
أخرج أحمد والنسائى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي فِي الإِسْلَامِ بِأَمْرٍ لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ قَالَ( قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ قَالَ قُلْتُ فَمَا أَتَّقِي فَأَوْمَأَ إِلَى لِسَانِهِ) أما يكفى هذا الحديث ليسجن الإنسان لسانه !! وحديث أبى هريرة في الصحيحين (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) وحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }مَنْ صَمَتَ نَجَا {رواة الترمذي وأحمد والدارمي تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 6367 في صحيح الجامع. فالنجاة في الصمت، والهلاك في الكلام إلا أن يكون خيراً في دين أو دنيا . ومن ينظر في كلام الناس اليوم سيعلم أنهم في غفلة كاملة وإعراض عما ينتظرهم يوم الحساب .
في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ } إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ {ومن حديثه في المسند والترمذى } إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ {تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 1618 في صحيح الجامع.
وفي المسند والترمذى والنسائي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة و إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة ) . تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 1619 في صحيح الجامع.
أما ما يؤثر من كلام السلف فهو كثير، وكانوا يجاهدون ويعالجون أنفسهم على السكوت عما لا يعنيهم . دخل عمر على أبى بكر "رضي الله عنه" فوجده يأخذ بلسانه فقال (مه !! غفر الله لك . قال : هذا أوردني الموارد) الصديق وهو أعلى الأمة إيماناً وقدرا ، كيف يقول هذا ؟! لأنه يأخذ كلام الرسول حق الأخذ . أما بن مسعود فيقول : (والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان)
وهب بن منبه (أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت)
الفضيل بن عياض (ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت بهمك لسانك أصبحت في هم شديد) فيا أيها القارئ الناصح لنفسه : تب إلى الله وأملك عليك لسانك وأحبسه فلا ينطق إلا بعد مراجعة ما سينطق به والذي سيسجل عليك فورا . . . وقد تكون كلمة تشقى بها ولا تشعر، ونحن نعلم أنه تغيير العادة وإلالف صعب صعب . ولكن استعن بالله ولا تعجز وحاول المرة بعد المرة إلى أن تلقى الله فلسانك فهو جنبك وتارك .
الغضب
إذا عرف هذا عن اللسان، فالذي يطلق بعيداً عن تحكم العقل والدين هو الغضب، وصدق بن القيم حيث يقول (الغضب سبع إن فككته بدأ بأكلك) ، لأنه يبعد العقل والدين عن سياستها للإنسان، فلا يبقى له معه نظر ولا فكر ولا اختيار، بل يعمى صاحبه ويصمه عن كل موعظة أو تذكرة، وتخرج أفعاله عن الترتيب، ويتعاطى فعل المجانين، ويكون شكله وصورته ساعة الغضب لا تعجبه لو رأى نفسه، ويصدر منه من الأقوال المحرمة والأفعال المحرمة ما لا يستطيع الاعتذار عنها بعد ذهاب الغضب، بل قد تكون أوبقت دنياه وآخرته، كسبع أكل صاحبه .
وفي صحيح الجامع رقم: 2075.إن رجلا قال : و الله لا يغفر الله لفلان قال الله : من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ؟ ! فإني قد غفرت لفلان و أحبطت عملك . تحقيق الألباني (صحيح)
فهذا الرجل غضب لله، وتكلم في هذه الحال وهو غاضب لله ولكن بما لا يجوز، حيث حتم على الله بما لا يجوز فأحبط الله عمله (لأن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء . ومن يغفر الذنوب إلا الله) والعجب أنه غضب لله ولكنها كلمة باللسان . فكان أبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا مثل هذه الكلمة في غضب فكيف بمن يغضب لنفسه ثم يتكلم بما لا يجوز .
وفى صحيح مسلم( عن عمران بن حصين أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنْ الأنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ )
} وفى صحيح مسلم : أن (رَجُلٍ مِنْ الأنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ فَقَالَ لَهُ شَأْ لَعَنَكَ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذَا اللاعِنُ بَعِيرَهُ قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ انْزِلْ عَنْهُ فَلا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ)
المرأة فقدت ناقتها بكلمة في غضب، وكذلك الرجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتهاون في ذلك ويخشي شرا على القافلة إن كان فيها بهيمة ملعونة (بكلمة) ثم يحذر الأمة كلها أن يدعو الإنسان على نفسه أو على ولده وأهله أو على ماله، لأن ذلك قد يوافق ساعة إجابة فيستجاب فتكون الكارثة (بكلمة) . فأنظر إلى كلام الناس في زماننا عند الغضب والانفعال (يقطعنى ـ ربنا ياخدنى ـ أعمى وأنشل ـ ما أوعى أشوف عيالي ـ ربنا يلعنك ـ ربنا يا خدك ـ شقة ملعونة ـ سنة سوده ـ يخرب بيتك ـ سيارة ملعونة ـ وشك نحس) وهكذا ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وسبق أن ذكرنا ما يجرى على اللسان ساعة الغضب من السب والفحش وألفاظ الطلاق، وأيمان لا يجوز الالتزام بها كمن يحلف ألا يدخل بيت أمه، أو أن يقطع رحمه وما شابه . . فاتق الله أيها القارئ واجتهد في حبس لسانك عن مثل هذا خاصة ساعة الغضب، وأعلم أنك إن استطعت ذلك فمنعت لسانك ويدك وملكت نفسك عند الغضب فقد صرت قوياً شديداً بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ففي الصحيحين من حديثْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ )
وفى صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(000 فما تعدون الصُّرَعَةَ فِيكُمْ قَالَ قُلْنَا الَّذِي لا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ قَالَ لَيْسَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) ( وقد قال عكرمة في قوله تعالى (وسيدا وحصورا):السيد الذي يملك نفسه عند الغضب ولا يغلبه غضبه )
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الغضب :
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْصِنِي قَالَ لا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ لا تَغْضَبْ ) } وفى روايات أخرى كما ذكرها بن رجب في جامع العلوم والحكم أن السائل قال : دلنى على عمل يدخلنى الجنة ولا تكثر على . قل لي قولاً وأقلل على لعلى أعقله. علمنى شيئا ولا تكثر على لعلى أعيه . ماذا يباعدنى من غضب الله عز وجل . والإجابة المشتركة هي : لا تغضب . . فدل ذلك على أن الغضب هو جماع الشر وأن التحرز منه هو جماع الخير . . فإذا ذكرنا أن النبى صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، أخذنا كلامه هذا بجد وبقوة، حتى يصبح أحدنا وهو يحمل هما شديداً من لسانه ومن أن يغضب ذلك اليوم، ويكرر ذلك كل صباح .
إن الأئمة : أحمد ـ إسحاق بن راهوية ـ بن المبارك وغيرهم فسروا حسن الخلق بترك الغضب وفى حديث مرسل خرجه محمد بن نصر المروزى في كتاب الصلاة :(أفضل الأعمال حسن الخلق و أن لا تغضب إن استطعت ) . تحقيق الألباني (ضعيف) انظر حديث رقم: 1000 في ضعيف الجامع.
(حسن الخلق هو أن لا نغضب إن استطعت) وهنا كلام حق، لأننا رأينا كيف تتولد الأخلاق السيئة من الكبر والفخر والخيلاء والعدوان والبغي والظلم والحقد وغير ذلك كلها من قوة من الغضب، فلو ترك الغضب لم يتبق إلا الخلق الحسن . ويوضح ذلك الوصية الجامعة : لا تغضب وسيتضح معناها تماماً فيما يلي :ـ
الأسباب التى تتخذ للوقاية من وقوع الغضب :ـ
(1) لا تغضب : بالمعنى الأول : جاهد نفسك على التخلق بالأخلاق الحسنة من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى والصفح والعفو وكظم الغيظ والطلاقة والبشر ونحو ذلك . فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه . وذلك يتفق مع القاعدة التى سبق تقريرها في المقدمة من أن الطاعات تقوى القلب فتتشتت على حصونه الموجات الآتية من النفس الغضبية الأمارة بالسوء، بل يرسل القلب موجاته القوية على النفس حتى تصير لوامة ثم مع الوقت والصبر تصير مطمئنة .
(2) أن يكون غضب المسلم لله دفعا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاماً ممن عصى الله ورسوله، وهذه كانت حال النبى صلى الله عليه وسلم، فإنه كان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شئ . فإذا رأى أو سمع ما يكرهه الله غضب وقال فيه ولم يسكت . وقد دخل يوما بيت عائشة "رضي الله عنها" فرأى سترا فيه تصاوير ، فتلون وجهه وهتكه وقال : إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورن هذه الصور . والحديث في الصحيحين . ولما شُكى إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه، غضب وأشتد غضبه ووعظ الناس وأمر بالتخفيف .
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ وحكها وقال : (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاةِ)رواة البخاري, وهكذا غضبه لله .
أما لنفسه : فقد خدمه أنس عشر سنين فما قال له أف قط ولا قال له لشيء فعله لم فعلت كذا، ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا . بل إذا لامه بعض أهله قال صلى الله عليه وسلم (دعوه فلو قُضى شئ كان) يعنى لو كُسر منه إناء مثلا، احتج النبى صلى الله عليه وسلم بالقدر اعتذارا عن خادمة أنس "رضي الله عنه" ولما بلغه بن مسعود "رضي الله عنه" قول القائل (هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله شق عليه صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه وغضب ولم يزد على أن قال (لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر) فأنظر كيف دفع عن نفسه الغضب، لقد ذكر نفسه بصبر موسى "عليه السلام" على ما هو أكثر، ومن المعلوم سرعة وشدة غضب موسى عليه السلام لله، فعندما رجع غضبان أسفا وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح وهى من الله وفيها كلامه سبحانه، كل هذا من شدة غضبه لله حيث كان غضبا كالآمر الناهي ، لذلك قال تعالى (ولما سكت عن موسى الغضب) وهذا دأب الرسل : غضبهم لله شديد فاستعملوا فيه القوة العصبية على هذا النحو، فسهل عليهم أن لا يغضبوا لأنفسهم . وما أكثر ما يُغضب الله اليوم في حياة الناس في البيوت وفي الشارع وفي العمل وفي السفر وغير ذلك، فاستعن بالله وأغضب لله بالضوابط الشرعية، وأعلم أن الجزاء من جنس العمل، فالله سبحانه شاكر عليم وسوف يصرف عنك غضبك لنفسك بإذنه والله المستعان .
(3) معرفة النفس وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها، فإن ذلك إيثار لها بالرضا والغضب على خالقها وفاطرها، فلو عودها أن تغضب له وترضى لوجد أنه يندفع عنه الغضب والرضا لنفسه .
أن يعلم أن الرضا والغضب لله هما من أوليات تحقيق لا إله إلا الله، وأن الأجر عليها عند الله العظيم . قال تعالى (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) قال السعدي (أي إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم وهو امتلاء قلوبهم من الحنق الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعلمون بمقتضى الطباع البشرية بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم . ويدخل في العفو عن الناس والعفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء ، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله وعفا عن عباد الله رحمة بهم وإحسانا إليهم وكرامة لحصول الشر عليهم وليعفو الله عنهم وليكون أجرة على ربه الكريم لا على العبد الفقير كما قال تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) ثم ختم الآية بالإحسان وهو أعلى الدرجات، فأنظر كيف جعل الله كظم الغيظ مقدمة للعفو وسببا له، وجعل العفو مقدمه للإحسان وسببا له، فتبين أن ترك الغضب هو جماع الخير كما سبق، فإن قلت فما المقدمة والسبب لكظم الغيظ، فاقرأ أول الآية : (الذين ينفقون . . ) فيكون الإنفاق في السراء والضراء من أعظم الطاعات التي تثمر كظم غيظ القلب .
وقال تعالى (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) والمغفرة هي قطع العقوبة ووقاية الإنسان من شر إساءته، فيكون المعنى : والذين إذا أهاجهم الغضب ملكوا أنفسهم فلم يعاقبوا بقول أو فعل . قال السعدي (أي تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقالة أو فعالة كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه ولم يقابلوا لمسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح، فترتب على هذا العفو والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير كما قال تعالى (أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فلا يقدر على مقابلة الإساءة بالإحسان إلا بالصبر لأن الخفيف الطائش لا يصبر على ذلك، إن تدور المعركة بين النفس الغضبية وبين القلب، والغضب مركب الشيطان فتصبح النفس الغضبية والشيطان في تعاون ضد القلب العامر بالإيمان والتوكل، فلا سلطان للشيطان عليه (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) ثم يأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه، فيفوز الإنسان بالحظ العظيم : إذا ينال ذلك كف شر عدوة وانقلابه صديقا، ومحبة الناس له، وثناءهم عليه، وقهر هواه، وسلامة قلبه من الغل والحقد، وطمأنينة الناس ـ حتى عدوه ـ إليه، هذا غير ما يناله من كرامة الله وحسن ثوابه ورضاه عنه، وهذا غاية الحظ عاجلاً وآجلاً . وحسبنا ما علمنا من إكرام الله لموسى عليه السلام لشدة غضبه في الله وتركه الغضب لنفسه حيث اصطفاه على الناس برسالاته وبكلامه، وتجاوز له مالا يتجاوز لغيره لما ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه بجرة إليه، ولما قَتل الذي من عدوه، ولما اعترض على تجاوز النبى له ليلة المعراج، ولما علم أن تابِعَه أكثر من تَاِبعَه، وغير ذلك من المواقف . وأخيراً يرغبنا الرسول صلى الله عليه وسلم في كظم الغيظ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى)رواه أحمد .
(4) الدعاء : أخرج أحمد والنسائى وبن حبان من حديث عمار بن ياسر (أسألك0000 وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا. . .)تحقيق الألباني(صحيح) أنظر صحيح الجامع رقم1301. لأن كثيرا من الناس بدخله رضاه في باطل، ويخرجه غضبه عن الحق وكذلك يدخله في باطل، فلذلك نسأل الله دائماً كلمة الحق في الغضب والرضا . ومن دعائه أيضاً من حديث زيد بن أرقم ( اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا )رواه مسلم . و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ قَالَ قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ ) رواه الترمذى وأبي داود وصححه الألباني ,أنظر حديث رقم4402 في صحيح الجامع . صباحاً ومساءاً وعند النوم نتوجه إلى الله عز وجل بهذا الدعاء للتعوذ من شر الشيطان وشر النفس، وأشد ذلك عند الغضب كما سبق والدعاء المتكرر عشرات المرات في اليوم الواحد (اهدنا الصراط المستقيم) بشرط حضور القلب لأن الله تعالى لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاهٍ .
(5) لا تغضب بالمعنى الثاني : يعنى بعد وقوع الغضب : ـ
أما إذا حصل الغضب فلا تعمل بمقتضاه بل جاهد نفسك على نزل تنفيذه والعمل بما يأمر به فيندفع عنك شر الغضب، وربما سكن غضبك وذهب عاجلاً وكأنك حينئذ لم تغضب، ولقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب وتسكنه، وتمنع شره، ومن ذلك
أ - تغيير الهيئة من القيام إلى الجلوس، وإلا فمن الجلوس إلى الاضطجاع . خرج الأمام أحمد وأبو داود من حديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ )صححه الألباني أنظر صحيح الجامع رقم694.فذلك تباعد عن حالة الانتقام وذلك فضلا عن بركة اتباع النبى صلى الله عليه وسلم والائتمار بأمره . أخرج الإمام أحمد الترمذى ضمن حديث طويل وقال هذا حديث حسن صحيح، من حديث أبى سعيد الخدري أن النبى صلى الله عليه وسلم قال في خطبة أَلا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ أَلا تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالأَرْضَ الأَرْضَ ضعيف الجامع برقم 1420.
والمراد من ذلك أنه يحبسه في نفسه ولا يعزيه إلى غيره بالأذى والفعل . وكل ذلك سبيل إلى كظم الغيظ .
ب- السكوت : خرج الأمام أحمد بن حديث بن عباس، وصحح أحد شاكر إسناده عن النبى صلى الله عليه وسلم (إذا غضب أحدكم فليسكت )صحيح الجامع برقم 693. وهذا دواء عظيم للغضب، أن يحبس الإنسان لسانه ويجتهد في ذلك كما سبق في المقدمة في الكلام عن اللسان . لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبة من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرا من السباب وغيره مما يعظم ضرره ، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنه وما أحسن قول مروق العجلى رحمة الله (ما امتلأت غضبا قط، ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت ).
جـ – الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم : (بمعنى
اللجوء إلى الله والاعتصام والامتناع به من الشيطان :ـ في الصحيحين من حديث
سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلانِ يَسْتَبَّانِ فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ
وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ فَقَالُوا لَهُ
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ
مِنْ الشَّيْطَانِ فَقَالَ وَهَلْ بِي جُنُونٌا). ويلاحظ أن أكثر الناس اليوم إذا
غضبوا ثم استعاذوا لا نجد أثراً يُذكر في غضبهم بمعنى أن استعاذتهم كعدمها فما
تفسير ذلك ؟ والجواب أن الاستعاذة مشروطة بالفهم مع
الشروع فورا في اللجوء إلى الله مع النطق بها، أما مجرد النطق بكلمات دون عمل
القلب فإن ذلك لا يجدي على القائل شيئا يذكر . وهذا الأمر مذكور في كتاب الله
بوضوح في سور الأعراف، والمؤمنون، وفُصلت كما يلي :
الأعراف : قال تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم *إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون)
لما كان لا بد من أذية الجاهل وسفاهته، أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابليتهِ بجهلهِ . فمن آذاك بقوله أو بفعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فصله ومن ظلمك فاعدل فيه . . فالأمر هو الإعراض عن الجاهل مع إقامة حق الله عليه وعدم الانتقام لنفسه . ولما كان الإنسان لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان الذي لا يزال مرابطا ينظر غرته وغفلته ليستعمل أسلحته في إهاجة الغضب أكثر ليركبه كيف يشاء، فيوسوس له أن سكوتك عجز منك ومهانة وذلة، ولو تركته لتجرأ عليك وتعود على إهانتك، فلا بد أن تؤدبة، وتوقفه عند حده، وتعرفه قدره . . . إلخ من أجل هذا، أمر الله بالاستعاذة منه في هذا الموطن، والعلم بأن الله يسمع ما قيل لك وما ستقوله، ويعلم ما فُعل بك وما ستفعله، ويعلم نيتك وضعفك وقوة التجائك له، فسيحميك من فتنته ويقيك من وسوسته،وحينئذ يتذكر المؤمن التقى أن ما يدور في نفسه من شر، ما هو إلا طائف من الشيطان ومن ثم يستغفر وستعيذ ويرى الأمر على حقيقته وأنه كان على وشك السقوط في شرك الشيطان، وهذا بخلاف الغاوين الذين تتلاعب بهم الشياطين ولا يدخرون وسعا في إغوائهم ولا يقفون معهم عند حد، ففي حالة الغضب حدث ولا حرج عما يصدر منهم من الأقوال والأفعال .
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يسلك سبيل المتقين وإلا وقع في سبيل الغاوين (وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون) مزيد بيان في الصفحة الأخيرة .
المؤمنون (أدفع بالتى هي أحسن السيئة نحن اعلم بما يصفون *وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون)
فالمسيء من الإنس يقابل الإحسان كما سبق، ولكن الشياطين تتربص حتى لا ينال المؤمن هذه الدرجة، لذلك بعد الأمر بمقابلة الإساءة بالإحسان جاء الأمر بالتعوذ من همزات الشياطين . والهمز دفع بنخز (بنخس) وغمزٍ يشبه الطعن، فالهمزات هي دفع الوساوس والإغواء إلى القلب بشكل مفاجئ . وإذا حضرت الشياطين واقتربت، لم تكتفِ بالهمز للمؤمن وإنما استفزت المسيء وأجلبت عليه من كل طريق حتى يتطور الغضب إلى جميع الشر من السب واللعن والقذف والفحش والقتال وما شابه . وكذلك حضور الشياطين عند قراءة القرآن ، وساعة الموت وغير ذلك في جميع الأمور، والشيطان يَعِزُ للحشرات والهَوَام ليشغل بها المؤمن ويؤذيه إن استطاع، ويغرى السفهاء والفجرة والظلمة بالمؤمنين، وهكذا يستعيذ المؤمن من شر همزاته، ومن شر حضوره واقترابه .
فصلت : (. . أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم)
ونجد نفس الشيء في هذا السياق : استعاذة من الشيطان بعد إحسان معاملة المسيء .
د) أن يذكر أن الجزاء من جنس العمل كما يقول تعالى (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم }إنما يرحم الله من عباده الرحماء{ تحقيق الألباني : حسن , أنظر 2381 صحيح الجامع. فكذلك إذا لم يُنفذ غضبه، وليذكر أنه إذا أمضى غضبه لم يأمن أن يمضى الله فيه غضبه يوم القيامة حين يكون في أشد الإحنياج إلى العفو . وليذكر رد فعل الخصم وعداوته، وتشميره في هدم أعراضه والشماتة بمصائبه وغير ذلك كثير .
و) أن يذكر أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان إعتراض الشيطان له أكثر، وإن كظم الغيظ وترك الغضب هو جماع الخير وترك الشر، وبالتالي فإن الشيطان سيجلب بخيله ورجله، وسيدفع بكل ما في جعبته لإفشال الخطة وتوهين العزيمة، والتيئيس من مقاومة الغضب والحدة والإنفعال والطيش يقول هذه طبيعتك فلا تحاول وتتعب نفسك فلا فائدة، وهكذا ينبغي للمؤمن الذي يريد أن لا يغضب، ينبغي أن يكون عالماً بمثل هذه المداخل الشيطانية ليقمع شيطانه ويُرغمه مستعينا بالله كما مضى .
و- وهذه فكرة عن أثر الغضب في الجسم حتى يَحذره المؤمن :ـ
عندما تحدث الإثارة العصبية نتيجة للغضب يفرز هورمون (رسول) الأدرينالين (هورمون الطوارئ) وذلك من لب الغدة الكظرية أعلا الكلى، وهمة هذا الهرمون تكييف الجسم وإعداده للإستجابة للمؤثرات العصبية ومنها الغضب حيث يتجه إلى البنكرياس ليوقف إفراز الأنسولين ليزداد السكر في الدم، علاوة على تأثيره في زيادة تصنيع السكر من مصادر دهنية وبروتينية، ومن تكسير النشا الحيواني . ثم يؤثر في القلب تأثيراً شديداً قد يؤدى إلى سكته قلبية وتحدث الوفاة في بعض الحالات، حيث تنقبض عضلة القلب وتزداد قوتها وتزداد دقات القلب وضخ الدم وانتفاخ العروق والأوداج ويرتفع ضغط الدم، وذلك الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بجمرة في القلب، فيكفى هذا التحذير من البنكرياس (خصوصا لمرض السكر) ومن القلب (خصوصاً لمرضى القلب والضغط)، لكى يجتهد المؤمن في تلافى الغضب أو تقليله ما استطاع ولينظر في المصالح والمفاسد من جراء الغضب .
ز- وأخيراً أُذكر بتحذير الله تعالى للمؤمنين إن لم يستجيبوا لله ولرسوله فإنه قد يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع أن يفهم ، وإن فهم لا يستطيع أن يستجيب، فسارع أيها القارئ الكريم إلى الاستفادة وبذل الجهد بلا يأس حتى تفوز بالخير كله .
* الشهوة نار أن اخترقتها احرقتك، والغضب سبع أن فككته أكلك .
وإن المؤمن التقى عندما يمسه طائف من الشيطان بشهوة أو بغضب، فإن واعظ الله في قلبه يحذره من الولوج في طريق الحرائق التى ستحرقه وهو طريق الشهوة، ومن الولوج في طريق السباع المفترسة والتى سيفترسه وهو طريق الغضب، وعندئذ يتذكر المؤمن التقى ذلك فكأنه يرى الشيطان وهو يحاول إهلاكه بالحرث أو بافتراس السباع، ومن ثم يرجع يتعوذ، كالذى يرى النار فكيف يقتحمها، والذي يرى السبع فكيف يُقبل عليه، أما الغاوون فلا يرون نارا ولا يرون سباعا، بل يرونها شهوات ولذات وأهواء، فلا يمسكون عما هم فيه، ولا الشياطين تقصر عن إغوائهم .
أما واعظ الله في قلب كل مسلم فهو منصوص عليه في حديث النواس بن سمعان الذي سبق في المقدمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق