الأربعاء، 12 يناير 2022

اصلاح ذات البين

 اهمية الاصلاح بين الناس

من أفضل السلوكيات الراقية التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإصلاح بين الناس» فهو سلوك أصحاب النفوس العالية الذين يحبون للآخرين ما يحبون لأنفسهم، ويعملون على تحقيق أمن واستقرار مجتمعاتهم، لأن التخاصم والتنازع بين أفراد المجتمع يؤدي حتما إلى انتشار العداوات والمفاسد بين الناس، والله سبحانه وتعالى يقول: «إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون». ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فلقد كان عليه الصلاة والسلام يسعى بنفسه للصلح بين المتشاحنين مؤكدا بذلك أهمية الإصلاح بين الإخوة المؤمنين، فعن سهل بن سعد رضى الله عنه أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي في أناس من أصحابه يصلح بينهم. وفي رواية قال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم».
تقول أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً» وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها».
كما قال صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين».. ففي وصايا الرسول وسلوكه العملي دعوة نبوية كريمة إلى «الإصلاح بين الناس» حتى يعيشوا في أمان واطمئنان.

يقول د. أحمد عجيبة الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر: من أبرز مظاهر الأخوة الإسلامية الإصلاح بين الناس، ومن هنا فإن من واجب كل مسلم العمل على ترسيخ هذه المظاهر، وقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا السلوك الإنساني وحرص على نشره بين المسلمين وحثهم على ذلك.. فقد أرسله الله رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء، ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء، ليكونوا إخوانا متحابين، فإذا وجد بين بعضهم خصومة وشحناء ونزاع وبغضاء أمروا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم.

واقع مؤسف

ويضيف: كثير من المسلمين للأسف نسوا أو تجاهلوا وصايا رسولهم الكريم التي تجسد على أرض الواقع رباط الأخوة الإسلامية، ولم يدرك الكثيرون أن الإصلاح بين كل مسلمين متخاصمين أو طائفتين متشاجرتين واجب تمليه أخوة الإيمان.

من الطبيعي أن تكون بين الناس منازعات وخصومات، وذلك نتيجة لاختلاف الأهواء والرغبات والاتجاهات، وتضارب المصالح، وهذا ما يسبب البغضاء والعداوات، ويفرق بين المسلمين ويبث الشقاق بين أهل القرابات.. لكن غير الطبيعي أن يقف المسلم متفرجاً على يرى من منازعات ومشاجرات تؤدي في الغالب إلى ما لا تحمد عقباه، حيث انتشرت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية جرائم القتل والعنف الدامي بين الناس لأسباب تافهة ولو عمل كل مسلم بتوجيهات رسوله الكريم وسعى إلى الإصلاح بين المتخاصمين والمتشاجرين بكل ما يستطيع من وسائل مشروعة لمنع الكثير من هذه المصائب.
لذلك يدعو د. عجيبة المسلمين في كل مكان إلى السعي في الإصلاح بين الناس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا قبل أن تتطور المشاجرات والمنازعات وتصل إلى أجهزة التحقيق وتشغل القضاء الذي ينبغي أن يتفرغ القضاة لتحقيق العدالة في قضايا مهمة، وهذا ما تنبه له الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كتب إلى أبي موسى الأشعري يطلب منه التدخل لإنهاء المنازعات قبل أن تصل إلى ساحة القضاء وقال له: (رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن).

ويطالب د. عجيبة كل مسلم بأن يضع قول الحق سبحانه: «وأصلحوا ذات بينكم» نصب عينيه دائماً، وأن يتخلى عن السلبية والأنانية ويبادر بتطبيق النداء الإلهي فيما يراه حوله من أحوال الشقاق والافتراق سواء في محيطه الأسرى بين الأهل والأقارب، أو في محيط العمل بين الزملاء، أو في المحيط العام فيما يراه في الطريق العام من خلافات ومشاجرات بين الناس.

وهنا يحث الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية كل المتشاجرين والمتنازعين على الاستجابة الفورية لمحاولات الإصلاح ويذكرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً» وفي رواية: تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثني فيغفر الله عز وجل في ذلك لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: «أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا».
ولذلك يقول العالم الأزهري لكل متشاجر أو متخاصم: كن متسامحا وإذا جاء إليك أخوك معتذرا فأقبل معذرته؛ واسع أنت إلى إنهاء الخصام وإن كان لك الحق، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: (أعقل الناس أعذرهم لهم) وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: (لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر إلى في أذني الأخرى لقبلت عذره).

أجر عظيم

الشيخ جمال قطب الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر يلتقط خيط الحديث من د. عجيبة ويؤكد أن الإصلاح بين الناس فضيلة تحتاج إليها مجتمعاتنا العربية والإسلامية الآن وذلك حفاظا على وحدة المسلمين، وسلامة قلوبهم.

ويضيف: الإصلاح بين الناس من أعظم وأجل الطاعات، وأفضل الصدقات، فالمصلح بين الناس له أجر عظيم، وثواب كريم، إذا كان يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، أن أجره كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفوق كثيراً ما يناله الصائم القائم، المشتغل بأمر نفسه فقط، يقول عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة»، ومعنى الحالقة: أي تحلق الدين.. كما قال صلى الله عليه وسلم: كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم يعدل بين الناس صدقة.. وفي رواية لمسلم قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة. وقوله: تعدل بين الاثنين.. أي: تصلح بينهم بالعدل.
والإصلاح بين الناس كما ينبه الشيخ قطب يحتاج إلى حكمة وصبر وإخلاص، ويفضل أن يتم في السر حتى لا يعاند المتشاجرون والمتنازعون فكلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه، لأن الإنسان يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، فالسعي في الإصلاح يحتاج إلى حكمة، وإلا فإن الساعي أحيانا قد يزيد من حدة الخلاف ويضاعف من المشكلة لو تصرف برعونة، والله سبحانه وتعالى يحدد لنا الأسلوب الأمثل للإصلاح فيقول: «لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً».

سألنا الشيخ قطب: هل يجوز للمسلم أن يكذب لكي يصلح بين الناس؟

- قال: الإصلاح بين الناس أمر مهم للغاية ويفوق نفعه ما يقوم به المصلح من كذب، وقد رخص الله سبحان في الكذب في مواقف معينة من بينها الإصلاح بين الناس، ولذلك لا حرج في أن يكذب المسلم إذا لم يجد طريقة للإصلاح بين المتخاصمين سوى ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في حديث أم كلثوم: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا»، وقوله: (ينمي خيرا) أي: ينقل الحديث على وجه الإصلاح.
والكذب في الإصلاح بين الناس، يكون عن طريق تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقواله بما يحقق التقارب، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله مثل أن يقول: «فلان يسلم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرا» ونحو ذلك.
ويطالب الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر كل إنسان يقوم بالإصلاح بين الناس بالتزام طريق العدل فلا يحابي طرفا على حساب طرف آخر بعضهم، ويقول: لو التزم المصلحون في هذه المهمة الإنسانية بتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصاياه لوفقهم الله إلى تحقيق أهدافهم وحققوا الإصلاح العادل بين الناس، وحموا مجتمعاتنا من مشكلات وأزمات كثيرة

 

منهج الإصلاح في القرآن والسنة

السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً صالحاً يارب العالمين.
عنوان لقائنا اليوم منهج الإصلاح، كلمة الإصلاح راقية يحبها كُلُّ مصلح ويخشى منها كُلُّ مفسد، من لا يحب أن يصلح؟ أن يصلح نفسه وأن يصلح أهل بيته، بل يطمح أحياناً أن يصلح العالم كلَّه، فالأرض خُلِقَت من أجل أن تَصلُح لا من أجل أن يُفسَد فيها

وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ
(سورة البقرة: الآية 205)

تعريف الإصلاح
الفساد هو أن تُخرِج الشيء عن طبيعته
فالإصلاح أن تضع كُلَّ شيءٍ في موضعه، فالمرأة تكون صالحةً حين تكون زوجةً، وتكون صالحةً حين تكون أُمَّاً رؤوماً، وتكون صالحةً حين تكون جدةً مقدرةً في بيتها، أما عندما تخرج المرأة عن الهدف الذي خُلِقَت من أجله تصبح سلعةً ينظر إليها كُلُّ إنسان بعين الشهوة، هذا شأن المفسدين يريدون الإفساد، فالفساد ليس من شأن المؤمن، والإفساد هو أن تضع الشيء في غير موضعه فيفسد، السكر مادة مفيدة ولذيدة والملح مادة مفيدة، لكن الملح يوضع في الطبخ والسكر يوضع مع الحلويات، فمن الفساد أن تضع السكر في الطعام المطبوخ وأن تضع الملح في الحلوى المعدة للضيوف، هذا فساد، فالفساد هو أن تُخرِج الشيء عن طبيعته، الله تعالى خلق المرأة أمَّاً وزوجةً وأختاً وجدةً وامرأةً مصانةً في المجتمع، فلما أُخرِجت عن وظيفتها وأمرت بالتبرج وأمرت بمزاحمة الرجال في أماكنهم أُفسدت، هذا هو الفساد أُخرِجت عن طبيعتها، وليس المرأة فقط كل شيء يَفسُد عندما تستخدمه في غير ما خُلِقَ له، الله تعالى خلق العقل ليصل إلى خالق السماوات والأرض فيسعد في الدنيا والآخرة، لكن عندما نستخدم العقل لغير ما خلق له فنحكِّمه في شرع الله عَزَّ وجَلَّ ونقول: هذا أعجبنا وذاك الحديث لم يُعجبنا وتلك الآية لهذا العصر وتلك الآية لعصرٍ آخرٍ، الآن العقل أُخرِج عن وظيفته، خلقه الله لوظيفة أن يصل إلى الله وأن يفهم الشرع فجعله بعض الناس حكماً على الشرع فأفسدوا العقل!
القلب في أصل خلقه
والقلب يَفسُد؛ القلب في الأصل خلقه الله ليحب الحبَّ الطاهر البريء، ليحب الله، ليحب رسل الله، ليحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليحب الخير، ليحب الزوجة، ليحب الولد، ليحب أهل بيته، ليحب المؤمنين، فلما أُخرج القلب عن طبيعته وجعلوا للحب يوماً ترتكب فيه الموبقات وتنتهك فيه الحرمات باسم عيد الحب فالقلب أُفسِد، لم يُخلَق القلب لذلك ، كل شيء يمكن أن يفسد عندما يخرج عن طبيعته (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) الله يحب الصلاح، يحب الإصلاح، قال تعالى:

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
(سورة الأعراف: الآية 170)
كن مصلحاً والله يتولاك، قال تعالى:

وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
(سورة الأعراف: الآية 142)
قال تعالى:

وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
(سورة القصص: الآية 77)
قال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ
(سورة يونس: الآية 81)
مهما رأيت من المُفسِد أنه انتفش وأخذ قوةً وبدا لك أنه في وضع كبير وفي وضع يهابه ويخشاه الناس مهما بدا لك من فورته قل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا بد أن يُفسِد الله عليه خطته التي يريد بها إفساد الآخرين (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) هذا قانون لا يتخلف ولا يتغير.

أنواع الإصلاح
الإصلاح أيها الأحباب؛ هنا دخلنا في صلب الموضوع بعد هذه المقدمة، الإصلاح نوعان: أن يُصلَح الفرد وأن يُصلَح المجتمع، ما منا واحدٌ إلا ويملك أن يُصلِحَ نفسه وأن يبذل جهده في إصلاح من يعولهم ويقوتهم من أبناء بيته وأهل بيته وأسرته وربما عائلته وربما ينتقل إلى إصلاح المجتمع لكن يجب أن يبدأ الإنسان بإصلاح نفسه فإصلاح الفرد هو الأساس، كيف يصلح الفرد؟
جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال:
"لا يَصْلُحَ آخِرُ هذه الأمة إلاّ بما صَلُحَ به أوّلُها"
{ الإمام مالك }
إصلاح الأمة بالقرآن الكريم
كيف صلح أول هذه الأمة؟ بالقرآن الكريم، بشكل رئيسي صلحت هذه الأمة بالقرآن الكريم، أمة الإسلام أكبر من العروبة، الأمة التي بلغها وحي السماء أمة التبليغ، الأمة نوعان: أُمَّةُ استجابة، وأُمَّةُ تبليغ، نحن إن شاء الله من أمة الاستجابة، بُلِّغنا واستجبنا، أُمرنا فصلينا، نُهينا فاجتنبنا، نحن من أمة الاستجابة، لكن أمة التبليغ اليوم مليار ونصف مليار مسلم على سطح الأرض هذه كلها بُلِّغَت وصلتها دعوة الإسلام، لكن الأمة التي نُعَوِّلُ عليها هي أمة الاستجابة، فكيف صلح أمر هذه الأمة أمة التبليغ؟ كل من بُلِّغَ برسالة الإسلام كيف صلح أمرهم؟ بالقرآن الكريم، العرب كانت قبائل منهم تئد البنات وكانوا يقيمون حروباً تمتد لأربعين سنة من أجل ناقة، وكان عندهم من مساوئ الأخلاق ما عندهم، وعندهم من مكارمها للأمانة، عندهم من مكارم الأخلاق، فقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ }

(أخرجه البخاري)
لأن عندهم بعض الصفات لكن رشَّدها الإسلام، فهذه الأمة كيف صلحت؟ صلحت بالقرآن الكريم، صلحت بسنَّة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أردنا أن نصلح الفرد في آخر الزمان فينبغي أن ننظر في صلاحه في أول الزمن
"لا يَصْلُحَ آخِرُ هذه الأمة إلاّ بما صَلُحَ به أوّلُها"
{ الإمام مالك }

الفرق بين المواطن الصالح والعبد الصالح
القوانين الرَّادعة قد تُصلح بعض الأفراد لكن هذا الصلح ليس صلحاً عاماً وإنما صلح جزئي مادامت القوانين منفذةً وكاميرات المراقبة تعمل فقد تصلح الأفراد بكاميرات المراقبة، لكن هل هذا هو العبد الصالح الذي يسعى الإسلام إليه؟! بعض المفكرين كان يقول: "إنَّ الغرب أنشأ المواطن الصالح لكن الإسلام أراد أن يُنشئ الإنسان الصالح"، كيف؟.
المبادئ لا تتجزأ
المواطن الصالح لا يرمي القمامة في الطريق، والمواطن الصالح في بلده لا يتجاوز إشارة المرور، والمواطن الصالح لا يرفع صوت التلفاز فيؤذي جاره، لكن المواطن الصالح قد يرتكب الزنا، والمواطن الصالح قد يقوم بكل الموبقات في بيته وقد يشرب الخمور ويذهب عقله وقد يؤدي به ذلك إلى أشياء وأشياء لا ترضي الله لكنه مواطن صالح! في المجتمع الغربي هو مواطن ومواطنته صالحة، المواطن الصالح يخشى على قطة من القطط أن يصيبها مكروه لكنه لا يلتفت إذا كانت شعوب في الأرض تُقصف بالقنابل الفسفورية وبالقنابل الفراغية وتنزل البراميل المتفجرة فوق رؤوسها لا يهمه ذلك ولا يعنيه وينتخب من يدعمون ذلك لأنه مواطن صالح! هو داخل وطنه مواطن صالح، لكن الإسلام ما أراد مواطناً صالحاً أراد عبداً صالحاً، الصلاح لا يتجزأ، المبادئ لا تتجزأ، أنت صالح في كل زمان وفي كل مكان، اتَّقِ الله حيثما كنت، الإنسان الصالح لا يسرق ولو كان من غير المسلم

{ مَن غشَّ فليسَ مِنَّا }

(صحيح الترغيب)
النبي صلى الله عليه وسلم يوم هاجر ترك عليَّاً في فراشه كما في الرواية الصحيحة ليؤدي الودائع إلى أهلها لأنه إنسان صالح، فالإنسان الصالح غير المواطن الصالح، نحن نسعى إلى الإنسان الصالح، المسلم يبني الصلاح في الفرد بحيث يلتزم هذا الفرد بالمبادئ ويلتزم بالقيم ويلتزم بالدين في أي مكان وفي أي زمان ولا يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قليل.

إصلاح الفرد في القرآن الكريم
إقامة الصلاة إصلاحٌ للعلاقة مع الله
فإصلاح الفرد في القرآن الكريم ينطلق من مبدئين: قد تنتبهون في القرآن الكريم إلى أنه يتكرر دائماً: (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) تكرر تلازم هذين الفرضين من فروض الإسلام والركنين من أركان الإسلام؛ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بينما الحج مثلاً والصيام وردا في آيات أخرى، لماذا شدد القرآن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ لأن إقامة الصلاة هي تعبيرٌ عن إصلاح الفرد بعلاقته بربه، وإيتاء الزكاة هي تعبيرٌ عن إصلاح الفرد من خلال علاقته مع الآخرين

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
(سورة الكوثر: الآية 2)
الزكاة تعبيرٌ عن العطاء
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ) هذه العلاقة العمودية، (وَانْحَرْ) لإطعام المساكين هذه العلاقة الأفقية مع الآخرين، فتكرر هذان الركنان من أركان الإسلام لأنهما يشكلان علاقة الإصلاح الحقيقة، فيُصلح الإنسان علاقته بربه بالصلاة ويُصلح علاقته بالآخرين بالزكاة، فالزكاة تعبير عن العطاء، والصلاة تعبير عن حسن الصلة بالله، فأنت تقف بين يدي الله فتُصلح نفسك ثم تنطلق إلى الآخرين فتعطيهم وتهبهم فيؤدي ذلك أيضاً إلى صلاح نفسك، فتصلح نفسك من خلال علاقتك بالله وعلاقتك بالناس (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ).
سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إمام المصلحين أصلح الدنيا كلها يوم أن صلحت علاقته بربه.

{ عَن عائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتى تَتَفطَّر قَدَمَاه، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رسُول اللَّهِ وَقد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّم مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ:"أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا }

(متفقٌ عَلَيْهِ)
لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟! نحن نقف بين يدي الله لأن لنا ذنوباً نقول: يارب اغفر لنا، لعل الله يغفر لنا السيئات بالحسنات

إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
(سورة هود: الآية 114)

الإصلاح يكون ببناء علاقة صحيحة مع الله تعالى
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح علاقته بربه ويقف بين يديه الساعات الطِوال وليس له ذنوب فقد قال له الله تعالى:

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا
(سورة الفتح: الآية 1-2-3)
(وَمَا تَأَخَّرَ) يعني وما سيأتي، ماذا كان جواب محمدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم؟ (قَالَ: أَفَلا أُحبُ أن أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
القضية قضية إصلاح نفوس، أنا أحب أن أقف بين يدي الله لأشكره على نعمائه، فالوقوف بين يدي الله ليس دائماً استغفاراً من ذنب وإنما هو بناء علاقة صحيحة مع الله يَصلُح بها الإنسان ويُصلِحُ بها الآخرين، قال تعالى:

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
(سورة النساء: الآية 146)
التوبة تحتاج إلى إصلاح
(تَابُوا وَأَصْلَحُوا) يأتي الإصلاح بعد التوبة، بمعنى أن التوبة أحياناً تحتاج إلى إصلاح، لأن الذنوب نوعان: هناك ذنوب بينك وبين الله تكفيها التوبة، والصلحة بلمحة، وهناك ذنوبٌ بينك وبين عباد الله، (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا)، فلا بد أن تصلح بعد أن تتوب، كأن يكون إنسانٌ قد استغل إنساناً وأخذ منه مالاً بغير وجه حق فيتوب إلى الله ثم يصلح ما بينه وبين عباد الله (تَابُوا وَأَصْلَحُوا).
فالفرد أحبابنا الكرام؛ لا تصلح علاقته بنفسه إلا إذا عرف ربه ووقف بين يديه وأحسن الصلة به، هذا إصلاح الفرد، لا يوجد طريق آخر حتى تصلح النفس إلا بمناجاة الله عَزَّ وجَلَّ، القوانين تُصلحها بشكل جزئي، تضبطها لكن لا تصلحها، النفوس تصلح بالعلاقة مع الخالق جَلَّ جَلالُه، بالمدد من الله عَزَّ وجَلَّ.

إصلاح ذات البين
أما إصلاح الآخرين فهذا يسمى في الدين: إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ.

{ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البيِّن، فإن فساد ذات البيِّن هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدِّين " }

(رواه أبو داود والترمذي وأحمد)
فالإسلام يحض على الإصلاح، أن تصلح كل علاقة بينيَّة بينك وبين الآخرين أو بين اثنين من الآخرين، هذا (ذَاتِ الْبَيْنِ) إما بينك وبين الآخرين أو بين اثنين تُصلِح العلاقة بينهما، هذا دعوة لإصلاح ذَاتِ الْبَيْنِ ألا يكون هناك مشاحنات ولا بغض ولا كره بين خلق الله عَزَّ وجَلَّ، هذا (إصلاح ذات البيِّن، فإن فساد ذات البيِّن هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدِّين) نسأل الله السلامة.
المجتمع لا يَصلُح إلا بالعدل
الآن من بنود الإصلاح أو من منهج الإصلاح القرآني أن المجتمع لا يَصلُح إلا بالعدل؛ قد تقول لي: ما علاقتنا بالمجتمع الكبير! نحن ليس لنا سلطة على المجتمع؟ المجتمع ليس معناه كل المجتمع، إذا كان هناك بلد فيه ستة ملايين فرد فهل نقصد إصلاح ست ملايين! لا، هناك مجتمعات صغيرة، أنت تُصلح علاقتك بمجتمعك مع أبنائك ومع أسرتك ومع عائلتك ومع العاملين في المعمل عندك، فهناك مجتمع صغير ومجتمع كبير، فالإنسان يملك مجتمعات كثيرة لكن قد لا يملك المجتمع الكبير، فنتحدث عن إصلاح المجتمع، من منهج الإصلاح القرآني أنه لا بد في إصلاح المجتمعات من العدل، المجتمعات لا تصلح إلا بالعدل.

عصر المبادئ
إخواننا الكرام: مالك بن نبي رحمه الله فيلسوف ومفكر جزائري إسلامي كبير، له نظرية جميلة جداً؛ يقول مالك بن نبي: إن العصور التي تمر فيها البشرية ثلاثة عصور: عصرٌ يسمى عصر المبادئ والقيم، وعصرٌ يسمى عصر الأشخاص، وعصرٌ يسمى عصر الأشياء.
الصدق هو السمة الرئيسية لعصر المبادئ
في عصر المبادئ يذوب الأشخاص وتصبح القيمة للمبدأ والقيم، عصر المبادئ عصر الصدق، الأمانة، الحب، الخير، السلام، هذا عصر مبادئ، الأشخاص قيمتهم من قيمة المبدأ الذي يحملونه فإذا أعرضوا عن المبدأ نزلت قيمتهم، يعيش الناس في عصر المبادئ، هذا أعظم العصور، هذا كان في عصور الإسلام الراقية وفي عصر الخلافة الراشدة، كانت القيمة للمبدأ.
يوم مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وانتقل إلى الرفيق الأعلى من حب عمر له رضي الله عن عمر قال: "من قال إن محمداً قد مات قطعت رأسه"، لم يستطع أن يتحمل الصدمة، لأن رسول الله يحمل الرسالة صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ووفاته كانت أعظم مصيبة نزلت بالمسلمين إلى يوم القيامة، وما نزلت مصيبة بمسلم فتذكر مصيبة المسلمين برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إلا هانت عليه مصيبته.
فلما قال عمر ذلك قام أبو بكر رضي الله عنه لينتصر للمبدأ فقال؛ كما في صحيح البخاري:

{ أمَّا بَعْدُ فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ }

(صحيح البخاري)
أبو بكر يحب رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كحب عمر لرسول الله أو أشد، لأن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كان يقول عن أبي بكر:

{ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا }

(صحيح البخاري)
وفي مرضه الذي توفي به كان يقول:

{ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا المَسْجِدِ، غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ }

(صحيح البخاري)
كان يحبه حباً يفوق الخيال، وهو صاحبه في الغار

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
(سورة التوبة: الآية 40)
عصر المبادئ عند وفاة النبي الكريم
(وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) ولكن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خليله هو الله، أما أبو بكر فصاحبٌ وأخٌ في الله، كل هذه المحبة التي بينهما يقوم أبو بكر ليقول: (مَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ) هذا عصر مبادئ، وقالها باللفظ المجرد، نحب إذا قلنا: محمد أن نقول: سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَسُولُ اللَّهِ، لكنه اختار في هذه اللحظة أن يقول: مَن كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا، حاشاه أن يكون إقلالاً من شأن رَسُولُ اللَّهِ بأبي هو وأمي وإنما أراد أن يتجرد للمبدأ وأن يوقظ الناس من غفلتهم بصدمة، ثم تلا قوله تعالى:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ
(سورة آل عمران: الآية 114)
فيقول عمر رضي الله عنه: (واللَّهِ ما هو إلَّا أنْ سَمِعْتُ أبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ، حتَّى ما تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وحتَّى أهْوَيْتُ إلى الأرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، عَلِمْتُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ مَاتَ) فهذا عصر اسمه عصر المبادئ كما يذكره ابن نبي رحمه الله، عصر المبادئ.

عصر الأشخاص
ثم تأتي عصور أخرى القيمة فيها للشخص، للخليفة، الناس تتعلق بعدل عمر، أو بصلاح الدين الأيوبي الذي فتح القدس وهذا عصر أشخاص وهو عصر جيد عندما يكون الأشخاص جيدين، نحن جميعاً نحب من أبنائنا أن يتعلقوا بالرموز وبالقدوات، فمجتمع بلا قدوات مجتمع هالك، فما المانع من أن نتعلق بالأشخاص؟! لكن على ألا نقدسهم ولا نعظمهم إلى درجة أن يخطئوا ثم نبقى متعلقين بهم على خطئهم فيكون هذا حباً مع الله لا حباً في الله! فعصر أشخاص، ثم ذهب عصر الأشخاص وجاء عصر الأشياء، وفي عصر الأشياء قيمة المرء متاعه، وقيمة المرء ما يملكه ويستمد قيمته من طراز سيارته، وفي أحدث النظريات يستمدها من رقم سيارته الذي يباع بالملايين، ومن مساحة بيته، ومن، ومن، ومن، فتصبح قيمة الإنسان هي أشياؤه وليست ما يحمله من قيم، ويتعامل الناس بهذا المنطق مع الآخرين وهذه المصيبة الكبرى في أن يصبح تعامل المجتمع مع الآخرين هو تعامل بقيمة الأشياء وليس بقيمة المبادئ فينظرون إلى من يملك الأكثر نظرة التعظيم الأكبر وهذا خطأٌ كبيرٌ، وقد ورد في التوراة:
(وَمَنْ جَالَسَ غَنِيًّا فَتَضَعْضَعَ لَهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ)
{ شعب الإيمان }

قصة سيدنا عمر مع جبلة بن الأيهم
تمسك سيدنا عمر بالمبادئ
سيدنا عمر رضي الله عنه، والقصة تعرفونها، لما جاءه جَبَلة بنُ الأيهَمِ ملك الغَسَاسِنة، والغَسَاسِنة كانت تحت سلطة الروم من بلاد الشام، فجاءه مسلماً وكان عمر رضي الله عنه في مكة في موسم الحج، أسلم جَبَلة وإسلامه كان خيراً كبيراً في نظر كل المسلمين، أن يسلم ملك من الملوك ويدخل في دين الله، فأكرمه عمر رضي الله عنه وأدنى مجلسه وحببه في الدين، وهذا مطلوب أن تكرم القدوات وأن تكرم عزيز قوم جاءك طائعاً، تكرمه، وأن تحفظ للناس منازلهم وأن تنزلهم منازلهم هذا مطلوب، فأكرمه أيما إكرام ثم إن جَبَلة أراد أن يطوف بالبيت فبينما هو يطوف بالبيت إذا بدويٌّ من فزارة يدوس على طرف ردائه فيسقطه عن كتفه خطأً فيعظم في نفسه ذلك وهو الملك فيلتفت غاضباً إلى هذا البدوي فيضربه ضربةً تهشم أنفه، فيذهب هذا البدوي من فزارة إلى عمر رضي الله عنه ليشكو له ما فعل هذا الملك، فيستدعي عمر رضي الله عنه ملك الغَسَاسِنة ويجلسه بين يديه أمام رجلٍ من عامة الناس ويسأله أَصحيحٌ مـا ادَّعَى هـذا الفَزَارِيُّ الجَريـحْ؟ فيجيب: نعم، لا أنكر ذلك أنا أدبته لأنه أسقط الرداء عن كتفي، فيقول له: لا بد أن ترضيه أوْ يُهشَمَنَّ الآن أنفُـكْ وتنالَ ما فعَلتَهُ كَفُّـكْ، إما أن ترضيه وإما أن يصنع بك ما صنعت به؟ يستعظم ذلك جَبَلة، يقول له: كيف ذاك؟ هوَ رجلٌ سُوقَهْ وأنا عَرْشٌ وتاجْ، أنا ملك وهو سُوقَهْ، قال له: الإسلام سوى بينكما، هذا عصر المبادئ، الإسلام سوى بينكما، أنت الآن وهو في منزلة واحدة، فيغضب جَبَلة ويقول: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، كنت متوهماً أنني بمكانةٍ كبيرةٍ عندك! أهكذا يهون عليك الأمر؟ أنا مرتدٌ إذا أكرهتني، سأرتد عن الدين، فيقول له عمر:

عُنُـقُ المُرتـَدِّ بالسَّيـفِ تُحَزُّ عالَم نَبنيهْ كُلُّ صَدعٍ فيهْ يُداوَى وأَعَزُّ الناسِ بالعَبدِ بالصُّعلوكِ تسَاوَى
{ سيدنا عمر رضي الله عنه }
قال: أنظرني حتى الصباح، سآخذ قراري على مهلي، وأراد شيئاً وأضمره في داخله فارتحل ليلاً مع أصحابه ورجع إلى مملكته في الروم وارتد عن دين الله تعالى، وخسر عمر جَبَلة لكنه ربح المبدأ، ولم يقل: لنراضِ الأعرابي بشيءٍ من المال ليسامح ثم نبقيه في الإسلام، المبدأ فوق الشخص، هذا عصر المبادئ، المبادئ فوق الأشخاص، وللفائدة هذا الرجل ذهب وتَنَصَّر وعاد إلى هرقل، وهرقل أدنى مجلسه وجعل له قصراً عظيماً؛ فرح به لأنه عاد إليه، ثم إن عمر رضي الله عنه أرسل رسولاً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام فلما عاد من عنده سأله عمر: ألقيت هرقل؟ قال: نعم، قال: وقدمت له الرسالة؟ قال: قدمت الرسالة، هرقل اعتنى بالرسالة وما أجاب إلى الإسلام لكنه احترم أن عمر رضي الله عنه يرسل له رسالة في عصر عظمة الفتوحات الإسلامية، فاحترم الرسالة ولكن لم يجب لا بنفيٍ ولا بإثباتٍ، انظروا عمر، عمر لم ينسى جَبَلة، قال له: ولقيت جَبَلة؟ قال: لقيته، قال: وماذا كان يصنع؟ قال: كان يشرب الخمر، فقال عمر: "أبعده الله، تعجل فانيةً بباقيةً"، أخذ الدنيا وترك الآخرة، قال عمر: فماذا قال لك؟ قال: سمعته ينشد
تَنَصَّرَتْ الْأَشْرَاف مِنْ عَار لَطْمَــة وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرْت لَهَا ضَــرَرْ تَـكَـنَّـفَـنِـي مِـنْهَـا لَـجَـاج وَنَــخْـــــــــوَة وَبِعْت لَهَا الْعَيْن الصَّحِيـحَة بِالْـعَــوَرْ فَيَا ليتَ أمّي لمْ تَلدنِــــي، وَلـيتَنِـي رَجعتُ إلى القَــولِ الذي قالهُ عُمـــر ويا ليتَنِي أرْعَى المَـخاضَ بقَفـــــرةٍ وكنتُ أسيراً في ربيعة أو مُـضَـــــــــر ويا ليتَ لي بالشَّامِ أدنى مَعيشــــةٍ أُجَالِسُ قَومي ذَاهبَ السَّمعِ والبَصـر
{ جَبَلة بنُ الأيهَمِ }
المبادئ فوق الأشخاص
تمنى لو أنه بقي عند عمر رضي الله عنه وقد فقد سمعه وبصره لكنه بقي على الإسلام وما تنصَّر من أجل لطمةٍ، بعد أن فات الأوان ويبدو أنه وجد أن لا رجوع له، إذ تمادى في المعصية والعياذ بالله، فهذا عصر المبادئ، هذا عصر إصلاح لأن المبدأ أساس، المبدأ فوق الشخص ونحن في أمتنا لا بد أن ننتصر للمبادئ على الأشخاص وأن ننتصر للأشخاص المحسنين على الأشياء فنعظِّم صاحب المبدأ والقيمة ولا نعظم صاحب الشيء إلا إن كان على مبدأ وقيمة فلا نعظمه لأشيائه، لا مانع أن تقدره لكن ليس لأشيائه بل لأخلاقه ولقيمه، أما التعظيم للأشياء فالأشياء تفنى وتذهب ولا يبقى منها شيء.

بنود منهج الإصلاح
أيها الكرام: منهج الإصلاح في القرآن ذكرته آيةٌ كريمةٌ واحدةٌ لخَّصت كل المنهج وهذا من إعجاز القرآن الكريم؛ قال شعيب عليه السلام مخاطباً قومه كما في القرآن:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
(سورة هود: الآية 88)
كيف لخَّصت المنهج؟ لخَّصت المنهج بخمسة بنود:
البينة هي الوضوح
1. وضوح المنهج (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) فالإصلاح ينبغي أن يحتاج إلى منهج وهذا المنهج ينبغي أن يكون مستمداً من وحي السماء (إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ) يعني شيء واضح (مِّن رَّبِّي) أما أن يكون الإصلاح على المنهج الغربي فهذا ليس إصلاحاً، أما أن يكون الإصلاح على منهج الإعلام فهذا ليس إصلاحاً، لا أقول: إن كنت على بينةٍ من القنوات الفضائية؛ أنا (عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي)، فالإصلاح ينبغي أن يكون المنهج واضحاً لأن البيِّنة هي الوضوح، شيء بيِّن واضح، ومِمَّن؟ (مِّن رَّبِّي) إذاً الإصلاح ينبغي أن يستند إلى القرآن والسنَّة لا إلى مناهج أهل الأرض، الإصلاح ينبغي أن يستند إلى القرآن والسنَّة فما أحلَّه الشرع حلال وما حرَّمه الشرع حرام، إذاً وضوح المنهج.
القدوة مصلحٌ لمن حوله
2. القدوة: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) فالمُصلِح ينبغي أن يكون قدوةً لمن حوله فيبدأ بنفسه قبل أمر الآخرين بالإصلاح (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) لا أريد أن أترككم وأفعل الشيء الذي نهيتكم عنه فأقول لكم: الربا حرام وأُرابي، وأقول لكم: الزنا حرام وأزني والعياذ بالله، وأقول لكم: السرقة حرام وأسرق والعياذ بالله، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) هذا ليس إصلاحاً لأنه إن لم يرَ الناس في المُصلح سلوكاً يتوافق مع منهجه فإنهم يكفرون به ويكفرون بكلمته ولا يستجيبون له (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ).
3. الإرادة الصادقة في الإصلاح: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ) فمن لم يملك الإرادة في الإصلاح لن يصلح.
أهمية الحوار في الأسرة
4. استنفاد الجهد: (مَا اسْتَطَعْتُ) يعني أن أستنفد الجهد في الإصلاح، أن أبذل كل ما أستطيع سأبذل كلَّ جُهدٍ ممكن في سبيل الإصلاح، الإنسان في تجارته ألا يستنفد جهوده لتحصيل أكبر مبلغ مالي ممكن؟! إذاً في إصلاح المجتمع أو في إصلاح الزوجة والأبناء ينبغي أن تبذل كل جهد ممكن، تحتاج جلسة يومية مع الأولاد مع الزوجة تسمع ما الذي يحدث حولك، لا بد من أن تستنفد الجهد في الإصلاح.
5. وأخيراً التوكل على الله والإنابة إليه: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) إياك أيها المصلح أن تتكل على نفسك تقول: أنا أصلح أولادي، لا، الله يصلحهم ولعله يجعلني سبباً في إصلاحهم، أما المصلح فهو الله جَلَّ جَلالُه هو الذي يصلح أما أنا سبب؛ أبذل جهدي والأمر لله (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

مفهوم الإصلاح في الحديث الشريف
إخواننا الكرام:

{ عَنْ السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ: أتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ؟!، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَأيْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا }

(أخرجه مسلم والنسائي)
الإصلاح يشمل الجميع
تروي السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لما سَرَقَتْ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ فاطمة بنت أسد كانت كما في بعض الروايات تستعير الحلي على أنه استعارة ثم تُنكر على من أخذت منهم الحلي، فكانت تسرق، فوصل أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم وأمر بعقوبتها وإقامة الحد عليها، (قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ أمر المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) نريد واسطة بالعرف الحديث من يتوسَّط؟ (فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ) يحبه حباً جماً فيستطيع أن يكلمه، (فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ) ولربما قال بعدها: ليتني لم أتحدث! وكَلَّم رَسُولَ اللهِ في شأن تلك المرأة فغضب رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ فَقَالَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ خْطَبَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَأيْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) هذا الإصلاح، الإصلاح يشمل الجميع، اليوم يسمونها سيادة القانون، أول من أقرها الإسلام لكن بإصلاح عام وشامل، فقال: (وَأيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) حاشاها أن تسرق لكن يبين للناس عظمة هذا الدين.
وآخر ما أختم به حديث جميل جداً فيه عبرة كبيرة:

{ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ، قَالَ: أَلا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا! فَلَمَّا ارْتَفَعَت الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا، فقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ }

(صحيح ابن ماجه)
الحكمة ضالة المؤمن
(مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ) الذي هاجروا في البحر إلى الحبشة، (أَلا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ)؟ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألهم عما رأوا في الْحَبَشَةِ، من فقه الإنسان أن يتعلم من غيره، أن يسمع، رجعت من سفر أسألك ما الذي رأيته؟ شيء حسن آخذ به، شيء سيء أفهم مساوئه، حدثني، ربما أستفيد حتى لو كان من أشخاص غير مسلمين، الحكمة ضالة المؤمن، إن كان شيئاً حسناً أستفيد منه، (قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ) عن ماذا سيحدثونه! عن الطعام أو عن الفواكه الغريبة أو عن الأرض أو عن الخيام أو عن العمران؟، (عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ) راهبة، (تَحْمِلُ عَلَى رَأسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ) جرة ماء، (فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ) أي يا غادر، (كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ) كيف يُعلي مكان أُمَّة ويطهرها ويجعلها في مقدمة الأمم وهم لا يأخذون لضعيفهم من شديدهم، هذا الإصلاح في القرآن الكريم وفي السنَّة المطهرة.

أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا والحمد لله رب العالمين. 

 فضل الإصلاح بين الناس

 

يعد إصلاح ذات البين من مكارم الأخلاق العظيمة، فقد حث عليها الشرع في أكثر من مناسبة، كما في قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) الأنفال/1. وقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) متفق عليه واللفظ للبخاري.

ولأهمية هذه المكرمة جعل لها الإسلام جزءاً من مصارف الزكاة، تصرف على الغارمين الذين يسعون للإصلاح بين الناس. قال صلى الله عليه وسلم:(أفضلُ الصدقةِ إصلاحُ ذاتِ البينِ) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"

ولم ينس الشعراء فضل إصلاح ذات البين فخلدوه في قصائدهم، ومنه قول الشاعر:

إنّ المكارم كلَّها لو حصلت     رجعت بجملتهـا إلى شيئين

تعظيم أمر الله جلَّ جلالـه      والسعي في إصلاح ذات البين

 

فإصلاح ذات البين شعبة إيمانية، وشرعة إسلامية، تُستل بها الضغائن، وتصفو بها القلوب، وتخمد نيران الفتن، قال عز وجل -منوهاً بتلك الخصلة-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء/114.

والإسلام يحث المؤمن أن يجعل الإصلاح بين الناس أهم أهدافه في الحياة الدنيا؛ إذ بالإصلاح تصبح الأمة وحدة متماسكة، يسعى بعضها في سبيل إصلاح الآخر، وتكون فعلاً كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى، وفي إهمال الإصلاح تفكيك للأمة وتفتيت لروابطها.

ولهذا جعل الإسلام الإصلاح بين الناس أفضل من كثير من العبادات. قال صلى الله عليه وسلم:(أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ)؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ:(إِصْلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والإصلاح يكون برأب الصدع وإزالة الفساد الذي دبَّ بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا.

وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بهذه المذكورات (الصلاة والصيام والصدقة) النوافل دون الفرائض. قال القاري:"والله أعلم بالمراد، إذ قد يتصور أن يكون الإصلاح في فساد يتفرع عليه سفك الدماء ونهب الأموال وهتك الحرم أفضل من فرائض هذه العبادات القاصرة، مع إمكان قضائها على فرض تركها، فهي من حقوق الله التي هي أهون عنده سبحانه من حقوق العباد".

وأما قوله صلى الله عليه وسلم:(وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ) قال في "النهاية": "الحالقة: الخصلة التي من شأنها أن تحلق -أي تهلك- وتستأصل الدين، كما يستأصل الموسى الشعر، وقيل: هي قطيعة الرحم والتظالم". قال الطيبي: "فيه -أي الحديث- حث وترغيب في إصلاح ذات البين واجتناب عن الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه".

ومن مجموع هذه الأحاديث نصل إلى نتيجة مهمة وهي أن ديننا العظيم يتشوّف إلى الصلح ويسعى إليه، وقد أخبر سبحانه أن الصلح خير. قال تعالى:(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) النساء/128.

فالإصلاح بين الناس عبادة عظيمة يحبها الله سبحانه، والمصلـح هو ذلك الإنسان الذي يبذل جهده وماله وجاهه وسلطته ليصلح بين المتخاصمين، وهو شخص يتصف بأن نفسه تحب الخير وتشتاق إليه، فلا يهمه رأي هذا ولا غمز ذاك ما دام يعمل لله وإرضاء له، فيقع في حرج مع هذا وذاك، ويحمل هموم إخوانه؛ ليصلح بين اثنين.

كم بيت كاد أن يتهدَّم، بسبب خلاف بسيط بين زوجين، فإذا بهذا المصلح يتدخل بكلمة طيبة، ونصيحة صادقة، وأحياناً بمال مبذول؛ فيعيد المياه إلى مجاريها، ويصلح الزوجين، وينقذ أسرة من التشرد والضياع.

كم قطيعة كادت أن تكون بين أخوين، أو صديقين، أو قريبين، بسبب زلة أو هفوة، وإذا بهذا المصلح يرقِّع خرق الفتنة ويصلح بينهما.

كم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال وفتن شيطانية، كادت أن تشتعل لولا فضل الله ثم هؤلاء المصلحين الأخيار.

فهنيئاً أيها المسلمون لمـن وفقـه الله للإصلاح بين متخاصمين أو زوجين أو جارين أو صديقين أو شريكين أو طائفتين.

ومما يدل على عظم فضيلة الإصلاح بين الناس أن الإسلام أباح الكذب للإصلاح بين أهل الخصومة، والمقصود بالكذب المبالغة في وصف جانب الخير، والتأكيد على وجوده عند طرفي الخصام تأليفاً للقلوب، وأنّ ما حصل من خلاف ليس مقصوداً. قال صلى الله عليه وسلم:(لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْراً أَوْ يَقُولُ خَيْراً) رواه أحمد، وقال أحد العلماء: (إن الله أحب الكذب في الإصلاح وأبغض الصدق في الإفساد) فتنبهوا لذلك.

إن علينا أن ندرك أننا بشر، فالخلاف بيننا أمر طبيعي، وقلَّ من يسلم منه، فقد يكون بينك وبين أخيك، أو قريبك، أو زوجك، أو صديقك شيء من الخلاف.. هذا أمر كثيراً ما يحصل، وعلينا أن نتحرَّر من ذلك بالصلح، والمصافحة، والمصالحة، والتنازل، والمحبة، والأخوة، حتى تعود المياه إلى مجاريها.

ولنتأمل هذا الحديث عن سيد المصلحين صلى الله عليه وسلم:(تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال:انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.

وقال الأوزاعي:"ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار".

أحبتي في الله.. قد يقول قائل: أريد أن أذهب إلى فلان لأصالحه، ولكني أخشى أن يردني أو لا يستقبلني أو لا يعرف قدر مجيئي إليه!

وأقول لك: تذكر أن نبيك صلى الله عليه وسلم يخبرك: اذهب إليه ولو طردك، ولو تكلم عليك، اذهب إليه المرة الأولى، والثانية، والثالثة، وسارع إليه بالهدية، ابتسم في وجهه، تلطَّف معه.. يقول صلى الله عليه وسلم:(مَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً) رواه الشيخان، فأنت إذا عفوت زادك لله عزاً، وإذا أصلحت زادك الله عزاً، وإن طردك ولم يفتح لك الباب ورجعت، فإن هذه أمنية يتمناها سلف الأمة؛ لأنها دليل على طهارة القلب وزكاته، قال تعالى:(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) النور/28، فتنبّـه أيها المؤمن لذلك، ولا تجعل للشيطان مدخلاً إليك.

جرِّب الصلح هذا اليوم، اتصل بمن بينك وبينه خصومة، وتلطَّف معه، لعل هذا الاتصال أن يكون سبباً بعد رحمة الله لمغفرة ذنوبك:(أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور/22.

اذهب إليه، فإن أناساً ذهبوا لكي يجلسوا مع أولئك الخصوم لمدة ربع ساعة أو نصف ساعة، فجلسوا معهم الساعات الطوال؛ من شــدة الفرح والأنس والألفة والمحبة..

جرِّب أن تكون البادئ بالإصلاح، ولا تجعل للشيطان إليك سبيلاً. قال صلى الله عليه وسلم:(لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) رواه أحمد.

وعلى المُصلح أن يتذكر آداب الإصلاح لكي يكون معه من الله ظهير، ويحصل على ثمرة عمله، ومن أعظم هذه الآداب:

1.أن يخلص النية لله؛ فلا يبتغي بصلحه مالاً أو جاهاً أو رياء أو سمعة، وإنما يقصد بعمله وجه الله:(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء/114 .

2.وعليه أيضاً أن يتحرّى العدل ليحذر كل الحذر من الظلم:(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات/9 .

3.ليكن صلحك مبنياً على علم شرعي، وحبذا أن تشاور العلماء في ذلك، وأن تدرس القضية من جميع جوانبها، وأن تسمع كلام كل واحد منهما.

4.لا تتعجل في حكمك وتريَّث؛ فالعجلة قد يُفسد فيها المصلح أكثر مما أصلح.

 

5.عليك أن تختار الوقت المناسب للصلح بين المتخاصمين؛ بمعنى أنك لا تأتي للإصلاح حتى تبرد القضية ويخف حدة النزاع وينطفئ نار الغضب ثم بعد ذلك تصلح بينهما.

6.والأهم أيضاً التلطُّف في العبارة فتقول: يا أبا فلان أنت معروف بكذا وكذا.. وتذكر محامده ومحاسن أعماله، ويجوز لك التوسع في الكلام ولو كنت كاذباً، ثم تحذِّره من فساد ذات البين.

اللهم طهر قلوبنا من الغل والحسد والغش، اللهم أصلح بيننا وبين أقاربنا، اللهم أصلح بيننا وبين أحبابنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر برحمتك يا أرحم الراحمين

 اصول وضوابط فى الاصلاح بين الناس

 آيات القرآن الكريم, والسنة النبوية المطهرة قد دعت إلي الصلح بين المتخاصمين, فان علماء الدين يؤكدون أن الإسراع بتحقيق المصالحة وإنهاء العنف ووضع حد للدماء التي تسيل في أرجاء مصر, بات ضرورة دينية ووطنية. ولكن ذلك وفق ضوابط وشروط حددتها الشريعة الإسلامية.
وأكد علماء الدين, عدم جواز المصالحة مع من تلوثت ايديهم بالدماء, ومن صدرت ضدهم أحكام قضائية في جرائم القتل والعنف وتخريب الممتلكات العامة والخاصة. وطالبوا جميع التيارات الشعبية والقوي السياسية ومؤسسات الدولة بالإسراع في تحقيق المصالحة الوطنية ولم الشمل لبناء الدولة حتي يتحقق الأمن والأمان والاستقرار للوطن والمواطنين.
يقول الدكتور أحمد محمود كريمة, أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر, إن الإصلاح بين الناس أصل أصيل في الإسلام, لقوله تعالي: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس سورة النساء, وقوله تعالي فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنينس: ز أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون وقال صلي الله عليه وسلم ز.
وأجمع أئمة العلم علي أن إصلاح ذات البين من أعلي الواجبات الشرعية, والإصلاح يكون علي المستويين الفردي والجماعي, ويتأكد في زمن حدوث الفتن لأن الإصلاح في هذه الحالة يحقق الأمن المجتمعي ومعلوم أن المصالح الضرورية الكبري كما قال الإمام الغزالي رحمه الله, واعلم أن مقصود الحق من الخلق أن يحفظ عليهم دينهم ودمهم وعقلهم ونسلهم ومالهم وتأسيسا علي ما ذكر وما يناظره وما يشابهه, فإن المصالحة المجتمعية واجبة في غير حقوق العباد من إراقة دماء وإتلاف الأموال وتخريب المنشآت فمن فعل ذلك كان ضامنا, سواء ارتكب من باب الحرابة أو البغي, ونص أئمة العلم علي أن المحارب يضمن ما أتلفه, فإن قتل أحدا أو نهب مالا فهو ضامن ذلك, فالعفو إنما يكون كما نص القرآن الكريم إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم سورة المائدة, فهؤلاء المحاربون إذا تابوا وأقلعوا قبل المقدرة عليهم فهؤلاء يجوز فيهم العفو, وإذا أبوا واستكبروا وعاندوا وارتكبوا الجرائم المنصوص عليها في الآية الكريمة فلا عفو ولا تسامح.
وأضاف الدكتور أحمد كريمة أنه في جريمة البغي, إن كان البغاة لهم تأويل وخرجوا وأشهروا السلاح بتأويل وكانت لهم منعة, فالمتجه لدي الفقهاء التسامح قال تعالي: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلي أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين سورة الحجرات, وبتنزيل آيات جريمتي الحرابة والبغي, فلا مانع من المصالحة شريطة ضمان البغاة والمحاربين لحقوق العباد, أما من صدر بحقه أمر قضائي لجنايات اقترفها, فإن كان من حقوق الله عز وجل فالعفو, أما إن كانت من حقوق العباد, فلا تملك السلطات المعنية العفو إلا بتنازل من المعتدي عليهم.
وطالب بأن تكون هناك مصالحة شاملة فلا إقصاء لأحد ولا تحامل, لأنهم في الأصل شركاء في الوطن, قال الإمام علي بن أبي طالب, رضي الله عنه: إخواننا بغوا علينا فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فناله فمن وسائل الإصلاح الكف عن التشهير والمعايرة وإطلاق الشائعات وإلصاق الاتهامات.
جائزة بشروط
من جانبه يشير الدكتور سعد الدين الهلالي, أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر, إلي أن المصالحة مشروطة بإعطاء الحقوق لأصحابها, يقول الله تعالي: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلي أمر الله, فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ومن هذه الآية الكريمة يتضح أنه يجب مقاتلة أهل البغي المعتدين, فإن توقفوا عن القتال, وجب فتح باب المصالحة, علي أساس من العدل والقسط, الذي يؤدي إلي القصاص العادل, وهو الذي يطهر المجتمع من العود إلي البغي, لأن القصاص إذا لم يتم فإن الباغي سيكرر بغيه مجددا, ولذلك قال الله تعالي: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون فالقصاص العادل هو أساس الحياة الآمنة, والتمييز بين من يستحقون المصالحة وبين من يستحقون القصاص يحدده القضاء, فمن صدر عليه حكم قضائي بالقصاص أو التعويض يجب إنفاذ الحكم القضائي في حقه, ولا مصالحة معه, أما من لم يثبت عليه ارتكاب جريمة ولم يصدر بشأنه حكم قضائي بعد التهمة فهو ممن يستحق المصالحة, ودمجه في المجتمع.
ويقول الشيخ أحمد ربيعالأزهري, الداعية بوزارة الأوقاف وعضو مكتب رسالة الأزهر, إن المجتمع في أمس الحاجة إلي المصالحة لأن بناء أي أمة يحتاج إلي ثلاثة أمور علم وسلم وحلم, فالعلم أساس البناء والسلم مدعاة لتراكم هذا البناء والحلم مسلكنا الحضاري عند الاختلاف حتي يظل البناء قائما ومستمرا, واختزال المصالحة في المصالحة مع جماعة الإخوان تضييق حقيقي لمفهوم المصالحة الشاملة التي يجب أن ينخرط فيها كل شرفاء الوطن قبل25 يناير وبعد30 يونيو, والمصالحة يجب أن تكون المصالحة الوطنية الشاملة وهي واجب قومي وديني وأخلاقي.
وأضاف: أن المصالحة التي نتمني أن تكون بين جميع الأطراف لا بد أن تكون مبنية علي المصارحة حيث يظهر كل تيار للآخر رأيه واضحا جليا دون لبس أو غموض وأن يكون متحليا بالصدق, ذاك الصدق التي تتشوف إليه الأمة لأن غياب الصدق والمصارحة يفتح بابا واسعا للأيادي الخفية والمشبوهة لتعبث بمستقبلنا وتنفث سمومها في عقولنا, فالمصالحة تقتضي التنازل عما تهفو إليه النفس وتحبه من أجل مصلحة أعم وأكبر ولو كانت بعيدة الإثمار أو حتي غير ظاهرة للعيان, وقد يبدو التصالح بأنه لم يحقق المكاسب التي تسعي إليها النفوس, كما عارض كبار الصحابة بنود صلح الحديبية وتأثر الفاروق رضي الله عنه وقال:(كيف نرضي بالدنية في ديننا) لأن ظاهر بنود الصلح أنه لصالح المشركين, ولكن مآله كان فتح مكة علي أيدي المسلمين.
وفي سياق متصل يقول الدكتور محمد الأمير أبو زيد عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية بالمنصورة, إن شريعة الإسلام دعت إلي الإصلاح بين المتنازعين والمتخاصمين وجعلت ذلك من أهم الدعائم الأساسية, ومصر اليوم تعيش لحظة حالكة دقيقة للغاية, تستوجب من جميع القوي الوطنية الاتحاد والتضامن لتجنب البلاد الانشقاق وتغليب المصلحة العليا علي المصالح الشخصية والتوافق والانحياز للصالح العام والعمل علي تحقيق العدالة وعلي صنع شراكة وطنية, بين أطياف وتيارات المجتمع للتصدي لحالات الفوضي وتحقيقا للأمن العام في الدولة والتمسك بالإرادة الشعبية للعبور بمصر في هذه المرحلة الراهنة إلي طريق الأمل والمستقبل من أجل مصر, ومن هنا يجب أن نتحرر من مبدأ وفكرة التخوين, وفتح الطريق للحوار البناء, والوفاق من أجل مصر وشعبها, لإنهاء حالة الاضطراب والتنازع والصراع القائم والشقاق الذي وصل إليه المجتمع.
وطالب جميع التيارات الشعبية والسياسية بمختلف الاتجاهات إضافة إلي مؤسسات الدولة بالبدء علي الفور بالمصالحة الوطنية ولم الشمل لبناء الدولة وعلي الجميع العفو والتسامح وعدم تقديم الإساءة حتي يتحقق الأمن والأمان والاستقرار للوطن والمواطنين.

 طرق الاصلاح بين الناس

 أصبح من الطبيعي أن يثور الغضب بين الناس لتجاوزٍ وَقَعَ من أحدهم، أو لسوءِ فهمٍ وقع من آخر، أو لعدمِ ارتياحٍ نشأ عند التعامل، خاصة مع الخلافات التي دبت بين المسلمين على واقع التناحر السياسي أو الرياضي، حتى إن الخصام أصبح أحد أفراد البيت الواحد، بعدما أراد كل عضو أو فرد من أفراد الأسرة الواحدة أو الحي الواحد أو القرية، أن ينتصر لرأيه، الأمر الذي زاد من عوامل الشقاق بين المسلمين.

وفي كثيرٍ من الأحيان يقع الخصام ويشتعل النزاع بين الناس بسبب هذا الغضب، وقد أرشدنا الله تعالى ونبيُّه سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم إلى خُلُقٍ عظيم، يجدر بكلِّ مسلمٍ أن يتخلَّق به، ويمارسه في حياته، وهو خُلُقُ "الإصلاح بين الناس" حيث يسعى المرء إلى الإصلاح بين المتخاصمين، والغاضبين من إخوانهم، بإزالة سوء الفهم، والتخفيف من حدَّة الغضب، والنصح للمتجاوز في حقِّ غيره بالتَّراجُعِ عن هذا التَّجاوُز، وردِّ الحقوق لأصحابها أو العفوِ عنها من أصحابها.

«الصلح خير» قاعدة عظيمة:


ووصف الله تعالى الذين يتحدثون عن الإصلاح بين النَّاس بالخيرية، ووعدهم بالثَّواب والأجر العظيم إذا فعلوه ابتغاءَ مرضاةِ الله؛ قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114]، وقال أيضًا: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: 1].

 كما قال الله تعالى في شأن الإصلاح بين الزوجين؛ حفاظًا على الأسرة واستمرارًا للعشرة والمودَّةِ بين الزوجين: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء: 35]، وأباح الله سبحانه وتعالى للمرأة -إن شاءتْ- أن تسلك سبيل الصلح مع زوجها بالتَّنازل له عن بعض حقوقها؛ استرضاءً له حتى تستمر العلاقة بينهما؛ فقال جلَّ شأنه: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 128].

الرسول القدوة في صلح المتخاصمين:


وقد كان السعي بين المتخاصمين بالصُّلح من هَديِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومن عمل الأنبياء، فحين عَلِمَ صلى الله عليه وسلم، أنَّ أهلَ "قُباء" اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، قال لأصحابه: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ» رواه البخاري، وسأل أصحابه مرَّةً، فقال لهم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ» قالوا: "بلى"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ» ورُوي عنه أنه قال: «هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» رواه الترمذي؛ ففساد ذاتِ البَيْنِ مَهْلَكَةٌ للمجتمع تستأصل منه الدِّينَ، وإصلاح ذات البَيْنِ فيه قوة المجتمع واتحاده وعدم تفرُّقه، وهو المأمور به من الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].

 وبيَّنَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الكذب مباح للإصلاح بين الناس؛ فقال: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» رواه البخاري، فيكذب المرء من أجل أن يزيل الشحناء والبغضاء من قلوب المتخاصمين، ويجمع بينهم في الخيرِ والمودَّةِ والتَّعاون.

وقد كان هذا الخُلُقُ دأبَ الصحابة رضوان الله عليهم؛ حيث كانوا يعملون على تأليف القلوب وإصلاح ذات البَيْنِ، وفي أقسى الأزمات التي وقعت بعد عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين ما حدث بنهاية خلافة سيدنا عثمان وخلافة سيدنا علي رضي الله عنهما من خلافٍ بين المسلمين بلغ حدَّ الاقتتال في بعض الأحيان، في هذه الأحداث يمكننا أن نرى العديد من صور التدخل من الصحابة رضي الله عنهم للإصلاح بين الفِرق المختلفة والتأليف بين قلوبهم، واعتزال كثيرٍ منهم للقتال حتى يتمكَّنوا من السَّعي بينهم بالصلح، وبالرغم من صعوبة هذا المشهد إلا أنَّ هذه الجهود أسفرت في التخفيف من حدَّة الاقتتال، وإيقافه فترات طويلة، واتِّبَاعِ سُبُلِ الحوار والمفاوضة، حتى أثمرت حلًّا للأزمة وإيقافًا للقتال، وإعادةَ اتِّحادِ الأمة واجتماعها على كلمةٍ سواء.


الصلح يجلب المودة:


وبالصلح تُستجلب المودات وتعمر البيوتات، ويبثُ الأمنُ في الجنبات، ومن ثَمَّ يتفرغُ الرجالُ للأعمالِ الصالحةِ، يتفرغون للبناءِ والإعمار بدلاً من إفناءِ الشهورِ والسنواتِ في المنازعاتِ، والكيدِ في الخصومات، وإراقة الدماءِ وتبديد الأموال، وإزعاج الأهلِ والسلطاتِ، وقد أمر الله تعالى بإصلاح ذات البين وجعله عنوانَ الإيمان، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].


صور الإصلاح:


ومن صور الإصلاح أن يكون في نطاق جماعة المؤمنين وطوائفهم: قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].

 الإصلاحٌ في نطاق الأسرة وبيتِ الزوجية: قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]. وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].


الإصلاح بين الأفراد: قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224].

 إصلاح يعدلُ بين اثنين، ويجمعُ بين متهاجرين، ويقرِّبُ بين مُتظالمين، يُقادان إلى صلح لا يحلُّ حرامًا، ولا يحرِّم حلالاً.

 إصلاحٌ بين أصحاب الحقوق في الوصايا: قال الله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182]. ووعد سبحانه وتعالى من أصلح بين الناس إيمانًا واحتسابًا أن يؤتيه أجرًا عظيمًا، فقال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].


الإصلاح وظيفة المرسلين:



الإصلاح بين الناس وظيفة المرسلين لا يقوم بها إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم، وشرفت نفوسهم وصفت أرواحهم يقومون به، لأنهم يحبون الخير والهدوء ويكرهون الشر حتى عند غيرهم من الناس، ويمقتون الخلاف حتى عند غيرهم، ويجدون في إحباط كيد الخائنين.


وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: سمعت عائشة تقول: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهم، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين المتألي على الله، لا يفعل المعروف؟» فقال: أنا يا رسول الله، فله أيّ ذلك أحب" (متفق عليه). معنى المتألي: الحالف. معنى يستوضعه: يسأله أن يضع عنه بعض دَيْنه. ويسترفقه: يسأله الرفق. فعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر عمله، عدل عن رأيه، واستجاب لفعل الخير، وقد قامت في نفسه داوفعه إرضاءً لله ولرسوله.

 وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقات الإصلاح بين الناس: عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة».

اقرأ أيضا:

ليست القطة وحدها من تدخل النار لإنقاذ أولادها!

روشتة للمصلحين بين الناس:


ومن فقه الإصلاح: صلاح النية، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية، إذا تحقق الإخلاصُ حلَّ التوفيقُ، وجرى التوافق، وأُنزل الثباتُ في الأمر والعزيمةُ على الرشد، أما من قصد بإصلاحه الترؤس والرياءَ وارتفاعَ الذِّكرِ والاستعلاءَ فبعيدٌ أن ينال ثوابَ الآخرة، وحريٌّ ألا يحالف التوفيق مسعاه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

ومن فقه الإصلاح: سلوكُ مسلك السرِّ والنجوى، فلئن كان كثيرٌ من النجوى مذمومًا، فإن ما كان من صدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس فهو محمودٌ مستثنى، قال الله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].

أسباب الفشل:


ومن أسباب فشلَ كثيرٍ من مساعي الصلح: إفشاء الأحاديث، وتسرب الأخبار، فعلى المصلح أن يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشرِّ. وليعلم المصلح أن الشر لا يطفأ بالشر، كما أن النار لا تطفأ بالنار، ولكنه بالخير يُطفأ، فلا تسكن الإساءة إلا بالإحسان.

، ولهذا فقد يحتاجُ المتنازعان إلى أن يتنازلا عن بعض الحقِّ فيما بينهما، وعلى المصلح أن يعلم أن النفوسَ مجبولةٌ على الشحِّ وصعوبةِ الشكائم، مما يستدعي بذلاً في طولِ صبرٍ وأناةٍ، امتثالاً لأمر الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].

قصص الاصلاح بين الناس

قصص الإصلاح بين الناس إن الإصلاح بين الناس هو من أهم الصفات الجميلة، التي تتواجد في ديننا العظيم، ولقد لاحظنا أن هناك العديد من الأزمات الأخلاقية، التي قد انتشرت في تلك الفترات، ولذلك استطعنا أن نقوم بالإصلاح بين الناس، لكي نزيد من المحبة والود، وأن نعمل على إزالة الحقد الذي يتواجد في النفوس، وأيضا الكراهية  التي تصيب القلب.

كما أن الإصلاح بين الناس هو من أفضل الأشياء التي تحتاج إليها الأمة في تلك الأيام، لكي تزيل كافة الأسباب الخاصة، والخصومة، والعداوة بين الأشخاص، وهي التي تعد من الصفات الحميدة والأخلاق العظيمة، التي لابد من التحلي بها في زماننا هذا، ولقد أصبح هناك الكثير من الأقارب يقومون بالنزاع فيما بينهم  أو الأصدقاء أيضاً، أو بعض من الأشخاص الأقرباء، ولذلك لابد من الإصلاح بين الناس والنصح بعدم الهجرة أو القطيعة

قصص الإصلاح بين الناس 

هناك الكثير من القصص التي وردت في ديننا الحنيف، والتي كانت تتمثل في الصحابة عندما قاموا بالإصلاح بين الناس، والتي يتواجد بينهم وبين بعضهم البعض عداوة كبيرة، كما أن تلك المصالحة هي التي تقلل من اختلاف الطباع، والتنافس على الحظوظ من المال في الدنيا، أو ما غير ذلك، كما أن أكثر الأشخاص الذين يتعصبون ويقومون بالتنازع مع بعضهم، إما يتنازعون بسبب الدنيا، أو بسبب ما يتواجد بها، بينما في الأشياء التي تختص بالدين فهم لا ينظرون أبداً إلى تهتك المحرمات، فكل قلب منهم يكون به الكثير من الغضب للشخص الآخر.

ويقوم بالاعتداء عليه من ناحية النفس، أو من ناحية الكرامة، وتكون تلك الأسباب الخاصة بالخصومة، هي التي تعبر عن أسباب تافهة جداً، لا يستطيع أحد أن يعلم أن تلك الأسباب هي التي ساهمت في إشعال الخصومة، وأدت إلى قوة الخصام، بالرغم من ذلك الأمر فنحن نلاحظ أن هناك بعض من الأشخاص يتعرضون إلى القتل من أصدقائهم، وأقاربهم من خلال الخصومة بين بعضهم البعض، وذلك ليس في تلك الأوقات فقط، بل أنه قد بدء منذ الجاهلية، أو منذ أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هناك الكثير من الأمثلة على ذلك الأمر.

كما أن أي المشكلات تقع بين الكثير من الزعماء التابعة للدول، وقد تصل إلى العديد من الحروب المستمرة، لذلك لابد من عدم التقليل من تلك المشكلات، ولابد من السعي في الإصلاح بين الناس بشكل دائم.

ومن هنا يمكنكم قراءة موضوع قصص سيدات خدمن الوطن والمجال الذي تخصصت فيه كلا منهم: قصص سيدات خدمن الوطن والمجال الذى تخصصت فيه كلا منهم

الإسلام يدعو إلى الإصلاح بين الناس

  •  أن ديننا الحنيف قد دعا إلى الإصلاح بين الناس، كما أنه قد نهى عن أي من الطرق، التي سوف تؤدي إلى فساد أمر المسلمين وحالهم، حتى نستطيع أن نبعد عنها، وأن نعمل على إصلاح الأشخاص المتخاصمين، كما أن ديننا الإسلامي دعا إلى قبول الصلح، والمبادرة به، لكي نستطيع أن تقوم بفض المشكلات، والمنازعات وأن نقضى على إنهاء القطيعة.
  • فقد قال الله عز وجل إنما المؤمنون اخوة، فأصلحوا بين أخويكم، وقد قال سبحانه وتعالى ( يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله) وإن الأمة الإسلامية تحتاج إلى الكثير من الأمور، التي تساهم في إرضائها، والتي يجب أن نقدمها إلى المتخاصمين، لكي يستطيعون التقليل من النزاعات، وإن أصلح ما بين قلوبهم.
  • وأيضاً يقول لهم أفضل كبير جداً من خلال ذلك الأمر، لأن الشخص الذي يقوم بالصلح بين الناس، يكون به صفات الشهامة والخبرة، والصبر، وأن يكون همه الأول، هو السعي في تحقيق الرضا للطرفين.
  • ويجب أن يكون ذو عزيمة كبيرة جداً، ويكون لديه الحكمة في الإقناع لكلا الطرفين، وتلك الأعمال وهي الصلح بين الناس، من أهم الأعمال الجليلة، التي يدعون الله سبحانه وتعالى إلى إتمامها.

وللمزيد من المعلومات عن تعبير عن المطالعة ودور الدولة في الاهتمام بالقراءة وأمثلة على شغف البشر بالمطالعة: تعبير عن المطالعة ودور الدولة في الاهتمام بالقراءة وأمثلة على شغف البشر بالمطالعة

منزله الصلح بين الناس

 إن للصلح بين الناس منزلة كبيرة جداً، وذات مكانة عالية، كما أن الصلح هو الذي يعبر عن الخلق الكريم، والذي يعد فضله عظيم جداً، وأن الله قدم إليه أجراً كبيراً يستطيع الشخص أن يحصل عليه، من خلال الحسنات على الأفعال الخاصة بالصلح، لأن الصلح بين الناس هو الذي يجلب للنفوس الكثير من الطمأنينة، وأيضا الهدوء، ويعمل على توفير الأمن والاستقرار، ويعمل على أنتشار المحبة والتعاون، ويقلل من النزاع والهجر.

كما أن عند الله عز وجل يكون الصلح هو الخير، عن النزاع لما في النزاع من انتقام شديد، وهو غير محبوب، لذلك الأشخاص الذين يقومون بالإصلاح بين الناس، يكون لهم عظيم الأجر والثواب، وأن صفة الإصلاح هي من أهم العبادات، التي يقوم الفرد بتأديتها، حيث أن النتائج التي تترتب على العداوة بين الأشخاص، والعناد والنزاع هي من أكثر الأشياء، التي تضر بالدين الإسلامي، وتقلل من الأجر الخاص به، لأن كثرة المشكلات، والنزاعات تؤدي إلى الفجور، والافتراء، وتلك العلامات هي من العلامات الخاصة بالنفاق، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من صفة النفاق، وأنها تعد من علامات النار.

الإصلاح بين الناس من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم 

نعم لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بالإصلاح بين الناس، وكان من أكثر الأشخاص الذين يتبعون الصلح، وهو الذي يباشر هذا الصلح في الكثير من الأماكن، والمواطن المختلفة بنفسه، لكي يستطيع أن يحث الأشخاص على المصالحة، وعدم النزاع بينهم وبين الأخرين.

كما أنه كان يذهب إلى الكثير من المسافات البعيدة، لكي يقوم بالإصلاح بين الناس، وكان يفعل ذلك الأمر لما فيه من ثواب عند الله عز وجل، وحتى يستطيع الصحابة من بعده، والأمة الإسلامية أن تتبعه في ذلك الأمر، وأن تكون بداية الإصلاح بين الناس، حيث أن المصالحة هي التي تعد من التجارات الرابحة مع الله عز وجل.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب رضي الله عنه ( ألا أدلك على تجارة قال بلى يا رسول الله قال تسعى في الإصلاح بين الناس، إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا) وهذا الحديث يوضح لنا أهمية الإصلاح بين الناس وأننا يجب أن نسعى إلى تحقيق ذلك، لكي نفعل كل ما أمرنا به الله عز وجل ورسوله المصطفى.

وندعوكم لقراءة موضوع اذكر قصة نجاح فريق ما وحدد أبرز عوامل ذلك النجاح 3 قصص ستذهلك: اذكر قصة نجاح فريق ما وحدد أبرز عوامل ذلك النجاح.. 3 قصص ستذهلك

من صور الصلح بين الناس

 هناك الكثير من الصور، التي توضح بها الصلح بين الناس في أيامنا هذه، وفي الأوقات الخاصة بالحروب، حيث كان هناك صلح بين المسلمين المتقاتلين، وإن من أعظم أدوار الصلح التي يجب أن تقوم باتباعها، هي الصلح بين المسلمين، الذين يتقاتلون على أي من أمور الدنيا، مثل الأنفس والأموال والأعراض، لأن السعي وراء أنتشار القتال.

وهو من أعظم الكبائر عند الله سبحانه وتعالى، لأنه يؤدي إلى التفريق بينهم وقتل النفس بغير ذنب، وذلك لأن دماء المسلمين تعد غالية جداً، ولا نستطيع أن نقدرها بأي ثمن، لذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالنصح والصلح، ومنع النزاع والقتال بين بعضهم البعض، وأن الشخص الذي يسعى في حقن دماء المسلمين، فهو سوف يحصل على عظيم الأجر والثواب، وأنه سوف ينال منزلة عليا عند الله سبحانه وتعالى.

فهناك الكثير من الخصومات التي نلاحظها، مثل الخصومة على الدين أو الإرث، وكثيراً ما نجد تلك الخصومات، ويجب أن نتدخل لكي نوفر حل من الحلول الوسطية لفض هذا النزاع

طريقة الاصلاح بين الناس

 لكي نستطيع أن نقوم بالإصلاح بين الناس بطريقة مميزة، فلابد من التعرف على الفضل الخاص بها، وكيفية القيام بتأدية ذلك العمل، لكي لا يكون هناك أي أخطاء تساعد في انتشار الكره، هي ولا تقلل من حدوثها، ومن أهم تلك الصفات هي :-

  •  الإخلاص في الإصلاح بين الناس: أن من أهم الأمور التي تساهم في الإصلاح بين الناس، هو أن يكون هناك نية في الإصلاح، وأن يبتغي الفرد ذلك الأمر، ويقوم به لكي يحصل على رضا الله عز وجل، وأن يقلل من المنفعة الخاصة به، ولا يكون له أي هدف إلا تحقيق ذلك الإخلاص، وأن يقوم بما يرضي الله في ذلك من خلال التوافق، وأن يكون لديه عزيمة قوية، وأن يستطيع الإخلاص في عمله، من أجل الحصول على الحل المناسب لكلا الطرفين . 
  • النجوى في الإصلاح إن التقليل من الحديث عن المشكلات، وإعطائها انتشارا كبيراً، أو التحدث عنها بشكل دائم، هي من أخطر الأمور التي تؤدي إلى  فشل الصلح بين الطرفين، لما يقوم بسماعه أحد الأطراف عن الآخر، وما ينبغي فعله ولذلك يجب علينا أن نقوم بالإصلاح بين المتخاصمين في السر، قبل العلن، لأن هذا الفعل هو من الأمور المحمود عند الله عز وجل، وأنها تكون بمثابة الصدقة، أو المعروف الذي يجب أن نقوم به، بدون علم الأخرين  .
  • التسلح بالعلم الشرعي أي أن الشخص القائم على الصلح بين المتخاصمين، يكون لديه الكثير من الحكمة، والكثير من المعرفة بالدين الإسلامي، حتى يستطيع أن يقوم بتقديم لهم النصائح، والأمثلة من خلال ديننا الحنيف، ومن خلال أفعال نبينا صلى الله عليه وسلم، لكي يبين لهم أن الشخص الظالم يفترق كثيراً عن المظلوم، وأن لكل منهم الحق على بعضهم البعض . 
  • اقتراح ما فيه مصلحة للطرفين لابد لكي نستطيع أن نفض التنازع، أن نقوم بمراضات الطرفين في النزاع، ولا تقدم الحلول طرف واحد فقط، حيث أن ذلك الأمر قد يثير المشكلات مرة أخرى، ويعمل على أنتشار الكراهية بين بعضهم البعض  .
  • اختيار الكلام الحسن على الشخص القائم بالصلح، أن يقوم باختيار الكلام الذي يليق على الأمر، أو السبب الخاص بالنزاع، وأن يختار من تلك الكلمات، ما يستطيع به أن يقلل من النزاعات، وأن ينشر التسامح، ويزيل الحقد بينهم وبين بعضهم البعض، وذلك لأن الشخص القائم بهذا الصلح يرغب في تحقيق المصالحة، ولا يكون بها أي ضرر على أي طرف من الطرفين .


لقد تناولنا في مقالنا هذا أهم الصفات الحسنة، والثواب العظيم الذى يستطيع الإنسان المسلم أن يحصل عليه، عند القيام بالصلح بين  الناس، وأن الله عز وجل سوف يكافئه على ذلك الأمر، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى العفو، والتسامح ، والبعد عن الكراهية، والضغينة

 

إصلاح ذات البين فضله وفقهه وآدابه

منذ 2021-06-07

والاشتغال بالصلح بين المتخاصمين أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات؛ لما في الإصلاح بين الناس من النفع المتعدي الذي يكون سببا في وصل أرحام قطعت، وزيارة إخوان هُجِروا، ونظافة القلوب مما علق بها من أدران الحقد والكراهية

إصلاح ذات البين فضله وفقهه وآدابه

من هداية الله تعالى للمؤمنين، ورحمته بهم، أن وحد كلمتهم بالإسلام، وجمع قلوبهم بالإيمان، فلمّ به شعثهم، وأزال ضغائنهم، وشفى صدورهم، فكانوا إخوة في دين الله تعالى متحابين متجالسين متباذلين، كالبنيان يشد بعضه بعضا {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] وفي الآية الأخرى {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].

 

وما من سبيل يزيد من لُحْمَة المؤمنين، ويؤدي إلى ترابطهم وتآلفهم إلا جاءت به الشريعة وجوبا أو ندبا، وما من طريق تؤدي إلى التفرق والاختلاف، والضغينة والشحناء، والقطيعة والبغضاء إلا حرمتها الشريعة، وأوصدت طرقها، وسدت سبلها؛ ولذلك أمرت الشريعة بالبر والصلة، وحرمت العقوق والقطيعة. وأمرت بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والحب في الله تعالى، والزيارة فيه، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وحفظ حقوق الأهل والقرابة والجيران، وجعلت للمسلم على أخيه المسلم حقوقا يحفظها له، فيؤجر عليها، وأرشدت إلى كثير من الآداب والأخلاق التي من شأنها أن تقوي الروابط، وتديم الألفة، وتزيد في المودة والمحبة بين الناس.

 

وحرمت الشريعة الهمز واللمز والسخرية، والغيبة والنميمة، والقذف والبهتان، والشتم والسباب، والكذب والمراء، والفجور والجدال، وغير ذلك من الأقوال والأفعال التي من شأنها أن تسبب الضغائن والخصومات، وتؤجج نيران الأحقاد والعداوات.

 

ومع كل هذه الاحترازات الشرعية التي يربي الإسلام أهله عليها فإن الإنسان وهو يعيش صخب الحياة ومشكلاتها لا بد أن يعتريه غضب وسهو وغفلة فيعتدي على أخيه بقول أو فعل في حال ضعف منه عن كبح جماح نفسه، وتسكين سورة غضبه، وحتى لا يتسبب هذا الخطأ منه في الخصومة والقطيعة التي يغذيها الشيطان، وينفخ في نارها؛ رتب الإسلام أجورا عظيمة على الحلم وكظم الغيظ والعفو عن الناس، ووعد الله سبحانه وتعالى الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس جنةً عرضها السموات والأرض، وأُمر المعتدي برفع ظلمه، والرجوع عن خطئه، والاعتذار لمن وقع عليه اعتداؤه.


إنها تشريعات ربانية عظيمة جليلة لو أخذ الناس بها لما وجد الشيطان عليهم سبيلا، ولما حلَّت في أوساطهم القطيعة والخصومة، ولكن الشيطان وإن أييس أن يعبده المصلون فإنه لم ييأس من التحريش فيما بينهم، وبث الفرقة والاختلاف فيهم، والنيل منهم بالعداوة والخصومة؛ ولذا فهو يزين للمعتدي سوء عمله، وإصراره على خطئه، وتماديه في جهله، ويحرض المعتدى عليه على الانتصار لنفسه، وأخذ حقه، والنيل ممن اعتدى عليه وعدم العفو عنه، وحينئذ تدب الخصومة والفرقة التي تتولد عنها الضغينة والقطيعة، وقد يصل ذلك إلى الاعتداء والاقتتال.

 

من أجل ذلك شرع الإسلام إصلاح ذات البين، وأمر الله تعالى به، وأباح للمصلحين ما حرَّم على غيرهم، ورتب أعظم الأجور على هذه المهمة العظيمة.

 

والأمر بإصلاح ذات البين جاء في قول الله تعالى {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وفي الآية الأخرى {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] وفي آية ثالثة {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].

 

والاشتغال بالصلح بين المتخاصمين أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات؛ لما في الإصلاح بين الناس من النفع المتعدي الذي يكون سببا في وصل أرحام قطعت، وزيارة إخوان هُجِروا، ونظافة القلوب مما علق بها من أدران الحقد والكراهية، وذلك يؤدي إلى متانة المجتمع وقوته بتآلف أفراده وتماسكهم، روى أبو الدرداء رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة» رواه أبو داود وصحح ابن حبان.

 

والإصلاح بين الناس معدود في الصدقات بقول النبي صلى الله عليه وسلم «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة» رواه الشيخان. قال النووي رحمه الله تعالى (ومعنى تعدل بينهما تصلح بينهما بالعدل).

 

ولعظيم أمر الإصلاح بين الناس أبيح للمصلحين ما حُرِّم على غيرهم؛ فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا إذا كان غرض المناجي لأحدهما الإصلاح بينهما، وقد ذم الله تعالى كثيرا من التناجي إلا ما كان للإصلاح {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]. وفي الآية الأخرى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة:9] ومن أعظم التناجي بالبر والتقوى ما كان للإصلاح بين مسلمين قد فسد ما بينهما.

 

وقد يحتاج المصلح إلى بعض الكذب ليُقَرِّب بين المتخاصمين، ويزيل ما بينهما من الضغينة، ويهيئ قلبيهما لقبول الصلح والعفو؛ وذلك كأن يخبر أحد الخصمين بأن صاحبه لا يذكره إلا بخير، وأنه متشوف لمصالحته، حريص على قربه ومودته مع عدم حقيقة ذلك، أو يسأله أحد الخصمين إن كان خصمه ذكره بسوء عنده فينفي ذلك مع وقوعه منه، وما قَصَدَ بكذبه إلا إطفاء نار الخصومة، وإزالة أسباب الشحناء، فَرُخِّص له في ذلك مع قبح الكذب، وعموم المنع منه؛ كما جاء في حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرا أو يقول خيرا»  (متفق عليه).

 

وقال نعيم بن حماد: ( قلت لسفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر إليَّ من الشيء عسى أن يكون قد فعله ويحرف فيه القول ليرضيه، أعليه فيه حرج؟ قال: لا، ألم تسمع قوله «ليس بكاذب من قال خيرا أو أصلح بين الناس» وقد قال الله عز وجل {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فإصلاحه فيما بينه وبين الناس أفضل إذا فعل ذلك لله وكراهةِ أذى المسلمين، وهو أولى به من أن يتعرض لعداوة صاحبه وبغضته؛ فإن البغضة حالقة الدين، قلت: أليس من قال ما لم يكن فقد كذب، قال: لا، إنما الكاذب الآثم، فأما المأجور فلا، ألم تسمع إلى قول إبراهيم عليه السلام {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّفات:89] و{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وقال يوسف لإخوته {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] وما سرقوا وما أَثِمَ يوسف؛ لأنه لم يرد إلا خيرا، قال الله عز وجل {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76]، وقال الملكان لداود عليه السلام {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] ولم يكونا خصمين وإنما أرادا الخير والمعنى الحسن.....).


بل إن المصلح بين الخصمين منهي عن الصدق إذا كان صدقه يشعل نار الفتنة بينهما، ويزيد فرقتهما. والذي ينقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد يسمى نماما ولو كان صادقا فيما ينقل، والنميمة من كبائر الذنوب، ولا يدخل الجنة نمام كما جاء في الحديث المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلربما نُهِي المصلح عن الصدق إن كان يضر بمهمته كمصلح بين خصمين، ويُرَخَّصُ له في الكذب إن كان الكذب يؤدي إلى إصلاح ذات البين، وفي هذا المعنى يقول ابن بابويه رحمه الله تعالى (إن الله تعالى أحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الصدق في الإفساد).

والمتصدي لفض الخصومات، وقطع النزاعات، والإصلاح بين الناس قد يحتاج إلى مال ليدفعه تعويضا أو دية أو إرضاء لأحد الخصمين، فيغرم بسبب ذلك من ماله، فأبيح له أن يأخذ ما غرم من الزكاة؛ إذ إن من أهل الزكاة المنصوص عليهم في كتاب الله تعالى: الغارمين، سواء غرموا لِحَظِ أنفسهم أم لحق غيرهم.
إن الإصلاح بين المتخاصمين مهمة جليلة قد فرط فيها كثير من الناس مع قدرتهم عليها، وكثير من الخصومات تكون أسبابها تافهة، وإزالتها يسيرة، وقد توجد رغبة الصلح عند كلا الخصمين، ولكن تمنعهما الأنفة والعزة من التنازل مباشرة، أو المبادرة إلى الصلح بلا وسيط، فإذا ما جاء الوسيط سهل الإصلاح بينهما؛ لرغبة كل واحد منهما في ذلك، فينال الوسيط أجرا عظيما على عمل قليل، ويؤلف بين قلبين متنافرين. وما من أسرة أو قبيلة بين بعض رجالها خلاف وقطيعة إلا وفيها رجال عقلاء يستطيعون السعي في إزالة الخلاف والقطيعة، ولكن التقصير والغفلة تحول دون ذلك.

وما من حارة أو دائرة حكومية أو شركة أو مؤسسة بين بعض أفرادها خصومة إلا وفيها من الرجال الأكفاء من هو قادر على الإصلاح بين المتخاصمين، ولا سيما ذوي الجاه والغنى والمناصب، ولكنهم يقصرون في ذلك من باب عدم التدخل فيما لا يعني حسب ظنهم، وقد صلحت لهم دنياهم فما عليهم لو اختصم الناس، وأكل بعضهم بعضا!! وهذه أنانية مفرطة، وأثرة بغيضة، وحرمان من خير عظيم قد رتبه الشارع الحكيم على إصلاح ذات البين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [الأنفال:1].
أيها المسلمون: من تصدى للإصلاح بين الناس فعليه أن يخلص نيته لله تعالى، ولا ينشد ثناء الناس وشكرهم؛ فإن هذه المهمة الجليلة مظنة للسؤدد والرفعة والثناء، وقد يدخل الشيطان من خلالها على العبد فيفسد نيته، والله تعالى يقول في الإصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].

وعليه أن يستعين بالله سبحانه على مهمته، ويسأله تأليف قلبي صاحبيه، وإلانتهما لقبول مبادرته؛ فإن القلوب بيده عز وجل يقلبها كيف يشاء، وهو يقربها ويباعدها، ولا عون له في صلحه إلا بالله تعالى.

وعلى الساعي بالإصلاح أن يتحرى العدل في صلحه؛ فلا يميل لأحد الخصمين لقوته ونفوذه، أو لإلحاحه وعناده، فيظلم الآخر لحسابه، فيتحول من مصلح إلى ظالم، ولا سيما إذا ارتضاه الخصمان حكما بينهما فمال إلى أحدهما، وقد أمر الله تعالى بالعدل بين الخصوم في قوله سبحانه: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].

 

وليتسلح في إصلاحه بالعلم الشرعي، أو سؤال أهل العلم ما يحتاج إلى سؤال؛ فإن كان الخلاف على مال أو إرث أو أرض فلا بد أن يعرف حكم الشريعة في ذلك قبل أن يُقْدِم على الصلح، وله أن يُقَرِّب بين الخصمين، ويقنعهما بالصلح، ثم يختار لهما حكما من أهل العلم يرضيانه. وإن كان الخلاف بين زوجين فلا بد أن يعلم بالحقوق الشرعية للزوجين؛ ليتبين الظالم من المظلوم، والمخطئ من المصيب، فينبه الظالم على ظلمه، ويدل المخطئ على خطئه.

 

ومن فقه المصلح أن يختار الوقت المناسب للصلح، فلا يبادر إلى الصلح عقب التشاتم والتعارك والتقاتل، بل يتربص بقدر ما يسكن الخصمان، ويعودان إلى رشدهما، وتذهب سورة الغضب، وتضعف دواعي الانتقام، فيلقي بمبادرته إليهما.

 

وعلى المصلح أن يَجِدَّ في قطع الطريق على النمامين ونقلة الكلام الذين يعجبهم أن تسود البغضاء بين الناس؛ فإنهم ينشطون في الأزمات لبث الشائعات، ونقل الكلام، فَيُحَذِّر الخصمين من الاستماع إلى أراجيفهم، ويثبت لهما كذبهم، وما يريدونه من الإفساد والوقيعة بينهما.

 

وعليه أن يختار من الكلام أحسنه، ويرقق قلبيهما، ويبين لهما حقارة الدنيا وما فيها فلا تستحق أن يتعادى الإخوان من أجلها، ولا أن تقطع القرابة بسببها، ويذكرهما بالموت وما بعده من الحساب، وعليه أن يعظهما بنصوص الكتاب والسنة فإنهما أعظم زاجر للمؤمن، فيذكرهما بأن أعمالهما الصالحة موقوفة عن العرض على الله تعالى، وأنه سبحانه يُنْظرُهما إلى أن يصطلحا؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا»  (رواه مسلم).

 

فإن كانت الخصومة بينهما قد أدت إلى قطيعة رحم بيَّن لهما عظيم ما وقعا فيه من القطيعة، وأن الجنة لا يدخلها قاطع، وأن الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله تعالى، ومن قطعها قطعه الله عز وجل كما جاء في الأحاديث.

 

وإن تهاجرا بسبب خصومتهما ذكرهما بخطر هجر المسلم، وأنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام.

 

وإن كانت الخصومة بين زوجين بيَّن لكل واحد منهما حقوق الآخر عليه، وذكرهما بقول الله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].

 

فإن احتج أحد الخصمين بأنه نذر أن لا يتنازل، أو حلف على أن لا يصالح، وهذا يقع كثيرا بين الغرماء والمتخاصمين، فيدعوه إلى أن يُكِّفرَ عن يمينه، ويصالِحَ أخاه، ويحتجُ عليه بقول الله تعالى {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224] قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( هو الرجل يحلف أن لا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير، وأمره أن لا يعتل بالله وليكفر عن يمينه) وروى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (رواه مسلم).

 

ولا شك في أن الصلح خير من الشقاق، والصلة أفضل من القطيعة، والمودة أولى من الكراهية.

 

ومن سعى بإصلاح ذات البين فإنه يجب على الناس تأييده وتشجيعه بالقول والفعل، ومعونته بما يحتاج من الجاه والمال؛ فإن إصلاح ذات البين يعود على الجميع بالخير والمحبة والألفة، كما أن فساد ذات البين يضر المجتمع عامة بما يسود فيه من الأحقاد والضغائن والجرائم والانتقام.

 

ومن سعى إليه أخوه بالإصلاح فليقبل منه، وليعنه عليه، وليكن خير الخصمين، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.

 {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].

 

إصلاح ذات البين

مجالات الصلح


الحمد الله؛ شرح قلوب من شاء من عباده بالإسلام، وألف بينهم بالإيمان، فكانوا إخوة في الله تعالى ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران:103] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام بإزالة الشحناء من قلوب أصحابه، وملئها محبة ومودة ووئاما ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال:63] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أمر بالصلح بين الناس، ودعا إليه، ورغب فيه، وبين ما رتب عليه من عظيم الأجر والثواب؛ حتى أخبر عليه الصلاة والسلام أن السعي في إصلاح ذات البين أفضل من نوافل الصلاة والصدقة والصيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وطَيِّبُوا قلوبكم على إخوانكم، ولينوا لهم، واحذروا الخصومة والشحناء فإنها الحالقة التي تحلق الدين ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات:10].


أيها الناس: الاختلاف من سجايا البشر، والتنازع من عاداتهم؛ وذلك لاختلاف أخلاقهم وطباعهم؛ ولتنافسهم في حظوظ الدنيا من المال والشرف وغيرهما ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هود:119].


وأكثر الناس يغضبون لأجل الدنيا ولا يغضبون للدين، وتنتهك حرمات الله تعالى فلا يتحرك قلب أحدهم، ولكنه يغضب أشد الغضب إذا انتقص شيء من دنياه، أو اعتدي على كرامته، ولأجل ذلك تكثر الخصومة فيما بينهم، بل قد تكون الخصومة على أمور حقيرة، وأسبابها تافهة ولكن الشيطان ينفخ فيها حتى تعظم في نفوس المتخاصمين، وقديما اشتعلت حرب البسوس بين بكر وتغلب فدامت أربعين سنة أكلت القبيلتين من أجل ناقة عقرت!! واشتعلت حرب داحس والغبراء في خيل سُبقت!! وليس ثمن الناقة أو الخيل أعلى من ثمن الرجال والقبائل حتى تُسَعَّر الحروب في سبيلها، ولكنه الشيطان الذي يُشعل الفتن الكبيرة من مستصغر شررها، فإن قضي على أسبابها في بادئها وإلا نفخ الشيطان في نارها حتى تُفنى قبائل فيها، وكم من قتيل ذهبت روحه في خصومة بدأت صغيرة فكبرت حتى فقدته أسرته؟! وكم من رحم قُطِعت سنوات طويلة بسبب كلام قيل فيه أو نقل عنه؟! وكم من إخوان تهاجروا في وشاية سرت بينهم؟!


إن الإسلام جاء بإصلاح ذات البين، وأوصد الطرق المؤدية إلى فسادها، وأمر المسلمين بالإصلاح بين المتخاصمين، كما حث المتخاصمين على قبول أيِّ مبادرة للصلح وفض النزاع والشقاق، وإنهاء القطيعة.


والخصومة قد تقع بين زعماء الدول حتى تصل إلى حروب يكتوي بنارها شعوب لا ذنب لها، وقد تقع الخصومة بين طائفتين من المسلمين: قبيلتين أو أسرتين أو جماعتين أو حزبين، فَتُفَرِّق أفرادَهما الخصومةُ وقد جمعهم الإسلام، وقد يوالون أعداء الله تعالى من الكفار والمنافقين في سبيل النيل من خصومهم وهم مسلمون مثلهم، وقد وقع ذلك كثيرا في القديم والحديث، ويعظم الإثم إن قطعت أرحامٌ بسبب ذلك، فإن نتج عن الخصومة اقتتال فالأمر أشد؛ لأنه عَوْدٌ إلى أمر الجاهلية التي أنقذنا الله تعالى منها بالإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للناس في حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) متفق عليه.


من أجل ذلك جاء الأمر الرباني بقطع دابر الخصومة، والسعي بين المتقاتلين من المسلمين بالإصلاح، وردع الفئة الباغية حتى تستكين إلى الصلح ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات:9].


روى أَنَس رضي الله عنه قال: (قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لو أَتَيْتَ عَبْدَ الله بنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ معه وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فلما أَتَاهُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِلَيْكَ عَنِّي، والله لقد آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فقال رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ منهم: والله لَحِمَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ فَغَضِبَ لِعَبْدِ الله رَجُلٌ من قَوْمِهِ فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أنها أُنْزِلَتْ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) متفق عليه.


وحاز الحسن بن علي رضي الله عنهما فضيلةَ حقنِ دماء المسلمين، وأخمد الله تعالى نار الفتنة على يديه، حين صالح معاويةَ رضي الله عنه، وتنازل عن الخلافة له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إِنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بين فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ من الْمُسْلِمِينَ) رواه البخاري.


ووقعت خصومةٌ بين حيين من الأنصار فسعى النبي صلى الله عليه وسلم للصلح بينهما؛ كما روى سَهْلِ بنُ سَعْدٍ رضي الله عنه: (أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حتى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فقال: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ) رواه البخاري.


وفي رواية لأبي داود: (فقال لِبِلَالٍ: إن حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ولم آتِكَ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ).


فَهَمَّ عليه الصلاة والسلام بترك إمامة الناس في الصلاة مع عظيم شأنها من أجل الإصلاح بين المتخاصمين.


وقد تقع الخصومة بين الزوجين، وتشتد حتى يكون الطلاق نتيجتها، ويكون الأولاد ضحيتها. ولئلا تبلغ الخصومة بين الزوجين هذا المبلغ فإن الشارع الحكيم سبحانه شرع الصلح بين الزوجين، وأمر بتحكيم حكمين من أهلهما للقضاء على الخصومة، وإزالة أسباب التوتر والشقاق، والحفاظ على استقرار الأسرة، وسلامة الأولاد ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء:35].


وروى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ رضي الله عنه قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فلم يَجِدْ عَلِيًّا في الْبَيْتِ فقال: أَيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟ قالت: كان بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فلم يَقِلْ عِنْدِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هو، فَجَاءَ فقال: يا رَسُولَ الله، هو في الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو مُضْطَجِعٌ قد سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عنه وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ) متفق عليه.


لاحظوا -أيها الإخوة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: أين ابنُ عمك، ولم يقل:أين ابنُ عمي، أو أين زوجُك، أو أين علي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام فهم أنه جرى بينهما خصومة فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة النسبية التي بينهما، ثم تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع علي ومسح التراب عنه ومازحه ليطيب خاطره، ويلين قلبه على زوجه، وهذا من الأسلوب الحسن في الإصلاح بين الزوجين.


وقد تكون الخصومة بسبب الأموال -وهي أكثر أنواع الخصومة وقوعا- إما في دينٍ لم يقضه صاحبه، أو في شركة اختصم الشركاء بسببها، أو في إرث تأخر الورثة في قسمته، أو وقف اختلفوا في فهم مراد الواقف، أو وصية لوارث أخطأ فيها الموصي، أو غير ذلك.


وحري بمن هو قريب من المتخاصمين أن يسعى بالصلح فيما بينهم، ولو أن يقترح وضع بعض الدين أو تأجيله أو تقسيطه، فإن كانت الخصومة بين شركاء أزال أسبابها، أو سعى في فض شراكتهما بالعدل، فإن كانت الخصومة بسبب إرث سعى في قسمته وفق شرع الله تعالى، وإن كانت وصية جور رفع الظلم وصحح الخطأ ﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة:182] وما من خصومة إلا لها أسبابٌ إن سعى المصلح في إزالتها زال الشقاق، وحلَّ مكانه الوفاق.


روى كَعْبُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: (أَنَّهُ تَقَاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْنًا له عليه في عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حتى سَمِعَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى: يا كَعْبَ بن مَالِكٍ، يا كَعْبُ، قال: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله فَأَشَارَ بيده أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ من دَيْنِكَ، قال كَعْبٌ: قد فَعَلْتُ) متفق عليه.


وروت عَائِشَةُ رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وإذا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيْءٍ - أي دينٍ - وهو يقول: والله لَا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أَيْنَ الْمُتَأَلِّي على الله لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ فقال: أنا يا رَسُولَ الله وَلَهُ أَيُّ ذلك أَحَبَّ) متفق عليه.


أسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا هداة مهتدين، صالحين مصلحين، لا ضالين ولا مضلين، إنه جواد كريم.أقول ما تسمعون....


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واعملوا صالحا تجدوه أمامكم ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزَّلزلة:7 - 8].


أيها المسلمون: من أشد أنواع الخصومة ضررا وإثما ما يكون بين القرابة فتقطع بسببه الأرحام، ويتهاجر الإخوان والأعمام والأخوال، وربما مكثوا سنواتٍ عدة على حال لا ترضي الله عز وجل، ولا ترضيهم وهم يؤمنون بالله تعالى، ويعلمون عظيم حق الرحم عليهم، ولكنه الشيطان الذي يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم، فيوهم كل واحد من الخصمين أن كرامته تقتضي الإصرار على رأيه، والبقاء على قطيعته لرحمه، وهجرانه لقريبه، وهذه نقطة الضعف التي يتسلل الشيطان منها إلى قلوب المتخاصمين.


ألا وإن القوة كل القوة، وإن منتهى الشجاعة والجرأة في دحر الشيطان، والانتصار على النفس، والمبادرة إلى الصلح، والسابق من الخصمين هو المنتصر، والمسبوق منهما يود بعد الصلح لو كان هو السابق، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.


وواجب على كبراء الأسر، ووجهاء القبائل، ومديري الدوائر أن يصلحوا بين المتخاصمين في أسرهم وقبائلهم وإداراتهم، وكل ذي مال وجاه يقبل المتخاصمون منه ما لا يقبلون من غيره؛ فليزك ما أنعم الله تعالى عليه من المال والجاه بالصلح بين الناس؛ فينال رضوان الله تعالى، ومحبة الناس له.


عن عَائِشَةَ رضي الله عنها حُدِّثَتْ: (أَنَّ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ قال في بَيْعٍ أو عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: والله لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أو لَأَحْجُرَنَّ عليها، فقالت: أَهُوَ قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابن الزُّبَيْرِ أَبَدًا -وكانت خالته رضي الله عنهما - فَاسْتَشْفَعَ ابنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حين طَالَتْ الْهِجْرَةُ فقالت: لَا والله لَا أُشَفِّعُ فيه أَبَدًا، ولا أَتَحَنَّثُ إلى نَذْرِي، فلما طَالَ ذلك على ابنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرحمنِ بنَ الْأَسْوَدِ بنِ عبد يَغُوثَ وَهُمَا من بَنِي زُهْرَةَ، وقال لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي على عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لها أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرحمن مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حتى اسْتَأْذَنَا على عَائِشَةَ، فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قالت عَائِشَةُ: ادْخُلُوا، قالوا: كُلُّنَا؟ قالت: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، ولا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابنَ الزُّبَيْرِ، فلما دَخَلُوا دخل ابنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرحمن يُنَاشِدَانِهَا إلا ما كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ منه، وَيَقُولَانِ: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عَمَّا قد عَلِمْتِ من الْهِجْرَةِ فإنه لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فلما أَكْثَرُوا على عَائِشَةَ من التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ: إني نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فلم يَزَالَا بها حتى كَلَّمَتْ ابنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ في نَذْرِهَا ذلك أَرْبَعِينَ رقبةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذلك فَتَبْكِي حتى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا) رواه البخاري.


ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واسعوا في الصلح بين المتخاصمين من إخوانكم وقرابتكم وجيرانكم وزملائكم؛ فإن في ذلك خيرا عظيما ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء:114].


وليعلم كل مخاصم لأخيه المسلم أن عمله الصالح وعمل خصمه لا يرفع إلى الله تعالى حتى يصفو قلباهما على بعض، ويزيلا الشحناء بينهما؛ كما روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يوم الاثنين وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شيئا إلا رَجُلًا كانت بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا) رواه مسلم.


وصلوا وسلموا..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق