1- و بعد ذاك العلم بالمزاج إحكامه يعين[181] في العلاج
يقول: و
بعد علم الطبيب بالأسطقسات التي منها يتركب[182] البدن على جهة المزاج، فقد
يجب عليه أن يعرف أصناف المزاج، فإن إحكام هذه المعرفة يعين[183] في
العلاج و ذلك بيّن، فإنه (6/ ب) إذا علم مزاج زيد مثلا، هل هو حار أو بارد،
فإن كان صحيحا حفظه[184] بما هو عليه بالشبيه[185]، و إن كان مريضا
بخروجه[186] عن الكيفية الطبيعية التي[187] له إلى ضدها[188]، كان شفاؤه
بأن ترده إلى الكيفية الطبيعية التي كان عليها قبل، بضد الكيفية الممرضة،
مثال ذلك أن الإنسان الحار المزاج إن مرض مرضا، برد به مزاجه، فشفاؤه يكون
بأن يسخن حتى يعود إلى مزاجه الطبيعي[189].
12- أمّا المزاج فقواه أربع يفردها الحكيم أو يجمع
يقول:
أما مزاج الإنسان فقواه التي ينسب إليها بغلبة واحدة منها أو اثنتين[190]
عليه، أعني على المركب الممتزج، فهي أربعة: الحرارة و البرودة، و الرطوبة و
اليبوسة. و إنما يعني بقوله: يفردها الحكيم أو يجمع، أن المزاج الإنساني
إما أن ينسب إلى غلبة واحدة من هذه القوى، و إما إلى اثنتين[191] منها[192]
من التي يمكن[193] أن تجتمع الأمزجة[194] التي تنسب إلى غلبة واحدة من هذه
القوى، هي أربعة: إما مزاج حار، أي الغالب عليه الحرارة، و إما مزاج بارد
أي الغالب عليه البرودة، و إما مزاج يابس فقط أي الغالب عليه اليبوسة، و
إما مزاج رطب فقط أي الغالب عليه الرطوبة، و إما مزاج الغالب عليه اليبوسة
(7/ أ) و الحرارة، أو اليبوسة و البرودة، أو الرطوبة و الحرارة، أو الرطوبة
و البرودة[195]، فهذه ثمانية أمزجة،
شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب، ص: 12
تنسب إلى الخروج في أحد[196] الكيفيات أو اثنتين[197].
13- من سخن و بارد و يابس و ليّن ينال حسّ اللامس
لما
ذكر أن القوى أربع[198] فسرها فقال: و هذه[199] القوى هي[200] إما سخونة، و
إما برودة، و إما يبوسة، و إما رطوبة، و هو الذي عناه[201] بليّن[202]
ينال[203] جس[204] اللامس، أي ليّن يدرك اللامس لينه.
14- توجد في الأركان و الزمان و في الذي ينمي و في المكان
لما
ذكر أن هذه القوى الأربع موجودة في المزاج، ذكر الأشياء الممتزجة التي
توجد فيها هذه القوى، فقال .. توجد في الأركان، يعني بالأركان الأجسام
الأربعة التي هي الماء و الأرض، و الهواء و النار، و يعني بالقوى: الحرارة و
البرودة، و اليبوسة و الرطوبة، و بعني بالزمان: الأربعة الأزمنة[205]:
الصيف، و الخريف، و الشتاء، و الربيع، و ذلك أن كل واحد من هذه
الأشياء[206] ينسب[207] إلى غلبة كيفيتين من هذه الكيفيات[208]، إلا أنها
تنسب إلى الأسطقسات، على غير الجهة التي تنسب إلى الحيوان[209]، و على غير
الجهة التي تنسب إلى الزمان و المكان (7/ ب) و يعني بالمكان الأقاليم
المسكونة من الأرض، و يعني بالنامي النبات، و الحيوان، [و المعدن، و هذه
الثلاثة هي المولدات، و هي الناميات، و ذلك أن هذه الثلاث لها هيولي لكل
واحد منها، فهيولى النبات البزر، و هيولى الحيوان المني، و دم الطمث، و
هيولى المعدن الزئبق و الكبريت، فمن البزر يتولد النبات، و من المني و دم
الطمث يتولد الحيوان، و من الزئبق و الكبريت يتولد المعدن، و ذلك أن هذه
القوى الأربع التي هي الحرارة و البرودة، و الرطوبة و اليبوسة، موجودة
شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب، ص: 13
في
هذه المولدات الثلاث، التي هي الحيوان، و النبات و المعدن، و بهذه الثلاثة
هو[210] كمال الوجود بإرادة اللّه سبحانه، و ذلك أن العناصر الأربعة إذا
تصاغرت تفاعلت، و إذا تفاعلت ظهر منها شكل، و هذا هو امتزاجها[211]]، و ذلك
أنها إذا امتزجت[212] تنسب إلى هذه القوى الأربع.
15- و الأسطقس[213] آخذ في الغاية
من مفرد المزاج و النهاية
يريد
و الأسطقسات[214] إذا وصفت بكيفية من هذه الكيفيات الأربع فإنما[215] توصف
بها في الغاية و النهاية، فقوله: من مفرد المزاج[216] يعني ان
الأسطقس[217] هو في الغاية من الكيفيات المفردة من كيفيات المزاج التي هي
الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوية، و معنى هذا أن النار إذا قيل
فيها إنها حارة، أو في[218] الماء إنه بارد، فإنما يقال ذلك فيها على أنها
من ذلك في الغاية[219]، أي لا شي ء أحّر منها، و أنها أحرّ من كل شي ء
ممتزج، و كذلك في سائر الكيفيات، و هذا بيّن لأن الممتزج لما كان مختلطا من
الأطراف التي[220] في الغاية أعني من الكيفيات التي في الأسطقسات الأربع
كان متوسطا بينها[221] في الكيفيات، يكسر[222] بعضها بعضا، و هكذا حال جميع
المتوسطات، مثل اللون الأغبر[223] المؤلف من الأبيض و الأسود، فإنه ليس
يوصف بأنه أسود في الغاية، و لا أبيض في الغاية[224]، و لكن فيه جزء من
الأبيض، و جزء من الأسود، و هكذا حال الكيفيات في الممتزج و الأسطقسات،
أعني (8/ أ) أنها في الأسطقسات في الغاية، و في الممتزج مكسورة.
16- الحر في النار و في الهواءو البرد في التراب ثم الماء.
17- و اليبس بين النار و التراب و اللين بين الماء و السحاب
شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب، ص: 14
لما
ذكر[225] أن الأسطقسات إذا وصفت بهذه القوى وصفت[226] بها في الغاية، أخذ
يعرف أّي قوة منها تنسب إلى أسطقس[227]، فقال: الحر في النار، و في الهواء،
يريد أن الذي يوصف منها[228] بالحرارة هما[229] اثنان: النار و الهواء، و
الذي يوصف منها بالبرد اثنان أيضا: الأرض و الماء، و ينبغي أن تعلم أن
الماء[230] أبرد من الأرض، كما أن النار أسخن من الهواء، و ليست النار التي
هي الأسطقس هي هذه النار المحسوسة، كما يقول[231] الاسكندر، لأن هذه النار
سبب للفساد، لا سبب للكون، و النار التي هي الأسطقس هي[232] سبب للكون و
التوليد، و هي النار التي فوق الهواء، في مقعر الفلك، و ليس لها لون، لأن
اللون[233] إنما هو شي ء عارض لهذه النار المحسوسة، لكونها في جسم أرضي، و
هذا كله قد تبين في العلم الطبيعي.
و قوله[234]: و اليبس بين النار و التراب، يريد أن الاسطقسين[235] اليابسين هما النار و الأرض[236]، و الأرض أيبس من النار.
و
قوله[237]: و اللين بين الماء و السحاب، يريد باللين الرطوبة، و بالسحاب
الهواء، فكأنه قال: و الأسطقسان الرطبان هما (8/ ب) الماء و الهواء، و
ينبغي أن تعلم أن الهواء أرطب من الماء في نفسه، و الماء أشد ترطيبا[238]
للأجسام التي بلقاها من الهواء.
18- بين جواهر لها اختلاف تقتضي لنا بالكون و ائتلاف
يريد
أن هذه الكيفيات انقسمت بين جواهر صارت[239] بها من وجه مختلفة، و من وجه
مؤتلفة، و هي من هذه الجهات تقضي لنا بالكون، أما الوجه الذي صارت به
مختلفة فمن وجه[240] التضاد، و أما الوجه الذي صارت به مؤتلفة، فمن جهة
اشتراك اثنين منها في كيفية واحدة، اعني اشتراك النار و الهواء في الحرارة،
و اشتراك[241] الماء و الأرض في البرودة. [و ذلك أن هذه العناصر لها أيضا
اشتراك و امتزاج، من قبل جواهرها و طبائعها، فاعلم أن النار
شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب، ص: 15
حارة
يابسة، و الهواء حار رطب، فالاشتراك الذي بين النار و الهواء من قبل
الحرارة، و الهواء حار و رطب، و الماء بارد رطب، فالاشتراك الذي بينهما من
قبل الرطوبة. و كذلك الماء و الأرض، فالماء بارد رطب، و الأرض باردة يابسة،
فالاشتراك الذي بينهما من قبل البرد، و كذلك الأرض و النار، فالأرض باردة
يابسة، و النار حارة يابسة، فالاشتراك الذي بينهما من قبل اليبس، فمن هذا
الوجه وقع الامتزاج في العناصر، و صارت مرتبطة بعضها ببعض، مثل أربعة أناس
حبس بعضهم بأيدي بعض، و كالبيت ذي أربع حيطان ليقف عليها السقف، فهي
كالدعائم للشي ء المصنوع.
و اعلم أن النار تنبسط في الهواء، و الهواء
ينبسط في الماء، و الماء ينبسط في التراب، و كل عنصر يتداخل في صاحبه من
أجل الاشتراك الذي من قبل الطبائع في الحرارة، و الرطوبة، و البرودة، و
اليبوسة[242]].
19- اختلفت كي لا تكون واحدةو ائتلفت ان لا ترى مضادده
يريد و السبب في اختلافها أن لا تكون شيئا واحدا فإنها لو كانت شيئا واحدا[243] لم يكن منها شي ء[244] موجود مغايرا[245] لها أصلا.
و
قوله: و ائتلقت ان لا ترى مضاددة[246] يريد و اتفقت في الكيفيات المشتركة،
أ لا تكون مضاددة[247] من جميع الجهات، فيعسر امتزاجها و اختلاطها.
20- و ما سوى العنصر من مركب فوصفنا مزاجه بالأغلب
(9/
أ) يريد و ما كان من الممتزجات فوصفنا له بهذه الكيفيات، ليس هو انه في
ذلك على[248] الغاية بل بحسب الأغلب عليه، مثال ذلك أنا نقول في الأسد إنه
حار يابس لا في الغاية، كما نقول ذلك في النار، بل معنى ذلك أن[249]
الحرارة التي فيه و اليبس أغلب عليه من البرودة و الرطوبة، أي هذان الجزءان
فيه أكثر من هذين الجزئين.
21- معتدلا تجعله[250] قانونا
قد جمع الأربعة الفنونا
شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب، ص: 16
يقول:
و كل ما يوصف يغلبه واحدة من هذه الكيفيات[251] أو اثنين منها فإنما يفهم
بالإضافة إلى المعتدل، و هو الذي توجد فيه الكيفيات[252] الأربع على السواء
أعني يوجد[253] من الحرارة مثل ما يوجد[254] فيه من البرودة، و من اليبوسة
مثل ما يوجد[255] فيه من الرطوبة.
و قد يظن أن هذا المزاج هو المعتدل
للإنسان المعتدل عن جالينوس، أعني الذي امتزجت فيه القوى الأربع على
اعتدال[256]، أو قريب من الاعتدال[257]، و بخاصة كما يقول هو جلدة اليد، و
من جلدة اليد السبابة، و قد يفهم من قوله أيضا أن المعتدل هو الوسط في
النوع، مثال ذلك[258]: أن الأسد و إن كانت الحرارة و اليبس[259]
غالبين[260] عليه، فمزاجه له طرفان و وسط، و المعتدل (9/ ب) هو الوسط
بينهما[261]، و هذا[262] هو المزاج الذي يفعل به الأسد فعله بما هو أسد على
أفضل ما يكون، و كذلك يلفي مثل هذا الاعتدال و الخروج عن الاعتدال في
الأمور الصناعية، مثال ذلك[263] السكنجبين المعتدل هو الذي امتزج فيه الخلّ
و العسل على مقادير[264] يوجد فعل السكنجبين عنها[265] على[266] أتم ما
يكون، و الخارج[267] عن الأعتدال هو ما وجدت فيه هذه المقادير أزيد أو أو
أنقص، و هذا المعتدل هو موجود في كل نوع، و هو الذي ينبغي أن يفهم من
الإنسان المعتدل، لا أنه[268] الذي[269] تركبت[270] فيه أجزاء الأسطقسات
على السواء، فإن هذا قد تبين في العلم الطبيعي، أنه ممتنع، و اذا كان
المعتدل في الإنسان هو هذا، فله اعتباران: اعتبار بأطراف نوعه يسمى به
معتدلا، و تسمى اطرافه خارجة عن الاعتدال بالإضافة إليه، و اعتبار
بنسبة[271] اجزاء الاسطقسات التي[272] فيه بعضها إلى بعض[273]، و إذا اعتبر
من هذه النسبة وجدت الحرارة فيه من حيث[274] هو حيوان أغلب من
شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب، ص: 17
البرودة،
و الرطوبة أغلب من اليبوسة، فإذن[275] مزاج الإنسان بالجملة هو حار رطب، و
له طرفان في الحرارة و الرطوبة يختلفان اختلافا في الغاية، و المتوسط
بينهما هو الإنسان المعتدل فيسمى[276] (10/ أ) الذي هو أقل حرارة من هذا
المزاج الذي هو في[277] الغاية، الذي لا يوجد إنسان أقل حرارة منه،
باردا[278] بالإضافة إلى حرارة هذا المزاج[279]، و يسمى الذي لا يوجد أقل
رطوبة منه يابسا[280]، و يسمى الذي يوجد أكثر حرارة و رطوبة منه حارا رطبا،
و هذا هو المزاج الذي ذمه[281] جالينوس، و ينحى من قبل[282] على من قال إن
المزاج المعتدل حار رطب، و لم يفهم أن الحرارة و الرطوبة يقال[283]
باشتراك الاسم، في هذين المزاجين، و أن[284] من قال من القدماء إن المزاج
المعتدل هو حار رطب قد[285] أصاب إذ فهم[286] من الحار الرطب هذ المعنى،
أعني المعتدل لا[287] الحار الرطب الخارج عن الاعتدال.
22- امتزجت فيه على مقدارفكان كالدستور و المسّبار[288]
يقول:
امتزجت الأسطقسات في هذا المزاج المعتدل على مقدار سواء، فكان هذا المزاج
مسبارا[289] تسبر[290] به سائر الأمزجة، فمتى وجدنا مزاجا[291] قد خالف هذا
المزاج[292] وصفناه بالكيفية التي خالفه فيها، فإن كان أكثر حرارة منه
قلنا إنه حار، و إن كان أكثر يبسا قلنا فيه إنه يابس، فصار المزاج المعتدل
به يعرف المعتدل[293] و غير المعتدل، و لذلك سمّاه مسبارا[294] و دستورا
(10/ ب).
23- فكل ما خصّ بالانحراف و مال نحو أحد الاطراف.
شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب، ص: 18
24- فلن يكون خاليا من القوى لكنها فيه على غير السّواء
يريد[295]
أن كل ما خصّ من الأمزجة بالانحراف عن المزاج المعتدل، و مال إلى أحد
الأطراف المتضادة فليس هو خاليا من القوى الأربع التي هي الحرارة و
البرودة، و الرطوبة و اليبوسة، لكنها ليست فيه موجودة على السواء كوجودها
في المزاج المعتدل.
25- يدعى على الأغلب بالناري أو بالترابي[296] أو المائي
26- و منه ما ينسب للرياح و لكلها يقال باصطلاح
يقول: و منه[298] ما ينسب إلى الهواء[299] أي أنه حار رطب، و إنما قال هذا- فيما أحسب- لأن الامزجة إنما يجب أن تكون الكيفيات[300] التي تنسب إليها مزدوجة كحال وجودها في الأسطقسات و الأخلاط، فتكون الأمزجة على هذا أربعة: حار يابس، منسوب إلى النار، و إلى المرة الصفراء،[301] و حار رطب، منسوب إلى الهواء، و إلى الدم، و بارد رطب، منسوب إلى الماء و إلى البلغم، و بارد يابس منسوب إلى (11/ أ) الأرض و إلى المرة السوداء.
و أما وجود مزاج حار فقط، او بارد فقط، أو يابس فقط، أو رطب فقط[302]، فان التقسيم يعطيه، لكن[303] الوجود لا يطابقه، و إنما ينبغي[304] الظن فيه، على أن الاسطقسات يمكن أن تمتزج على السواء، و قد تبين في العلم الطبيعي أن المتكّون إنما يتكّون[305] إذا غلبت عليه[306] القوى الفاعلة التي هي[307] الحرارة و البرودة، للقوى المنفعلة التي هي الرطوبة و اليبوسة، و أن الفساد يكون من ضد هذا، و هي[308] غلبة القوى المنفعلة للفاعلة.
شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب، ص:
مذهب الأخلاط أو مذهب الأخلاط هو نظام طبي مفصل لتركيب وعمل الجسم البشري، التي اعتمدتها المدرسة اليونانية القديمة والأطباء الرومانيين والفلاسفة اليونانيين، الافتراض أن وجود فائض أو نقص في أي من الأربعة عناصر المتميزة السوائل الجسدية في شخص - المعروفة باسم المزاجات أو الأخلاط- يؤثر مباشرة على مزاجه وصحته. ونظام الأخلاط الطبي هو فردي للغاية، فيقال أن كل مريض له تكوينه الخاص من الأخلاط الفريد. وعلاوة على ذلك، فإنه يشبه نهج شامل للطب كما تم التأكيد على الصلة بين العمليات العقلية والجسدية من قبل هذا الإطار. تم اعتماد النظرية الخلطية قديماً بدئاً من أبقراط، واستعملها اليونانيين والرومان والأطباء الفرس، وأصبحت وجهة النظر الأكثر شيوعا للجسم البشري بين الأطباء الأوروبيين حتى ظهور البحوث الطبية الحديثة في القرن التاسع عشر.
أصوله
أصبح مصطلح «الأخلاط» (أي الأجهزة الكيميائية التي تنظم سلوك الإنسان) أكثر بروزًا بسبب كتابات عالم الطب النظري ألكمايون الكروتوني (حوالي 540-500 ق م). كانت قائمته للأخلاط أطول من مجرد أربعة أخلاط وشملت العناصر الأساسية التي وصفها أمبادوقليس، مثل الماء والهواء والأرض.. إلخ. يقترح بعض المؤلفين أن مفهوم «الأخلاط» تعود أصوله إلى الطب المصري القديم أو بلاد الرافدين، على الرغم من أنه لم يكن منظمًا حتى عصر المفكرين اليونانيين القدماء. تعد كلمة خلط ترجمة لكلمة χυμός اليونانية، الكيموس (يعني حرفيًا العصير أو العصارة، ومجازًا النكهة). قبل ذلك بكثير، طور طب أيورفيدا الهندي القديم نظرية الأخلاط الثلاثة، التي ربطها بالعناصر الهندوسية الخمسة.
يعود الفضل إلى أبقراط في تطبيق هذه الفكرة في الطب. على عكس ألكمايون، اقترح أبقراط أن الأخلاط هي سوائل الجسم الحيوية، مثل الدم والصفراء والبلغم و«السوداء» (يرجح أنه كان يشير إلى مركبات الدم لدى المرضى ذوي الأعضاء الداخلية النازفة). افترض ألكمايون وأبقراط أن الفرط أو العوز الشديدين في أي من سوائل أخلاط الجسم لدى الفرد قد يكون علامة على المرض. اقترح أبقراط ثم جالينوس أن أي اختلال معتدل في توازن مزيج هذه السوائل يؤدي إلى نمط مزاجي (سلوكي). تصف أحد الأطروحات المنسوبة إلى أبقراط، عن طبيعة الإنسان، النظرية كالتالي:
يحتوي جسم الإنسان على الدم والبلغم والصفراء والسوداء. تركب هذه الأشياء قوامه وتتسبب بآلامه وصحته. الصحة هي الحالة التي تكون فيها هذه المواد المكوّنة متناسبة مع بعضها، في القوة والكمية، ومختلطة جيدًا. يحدث الألم حين تبدي إحدى هذه المواد عوزًا أو زيادةً، أو حين تنفصل داخل الجسم ولا تختلط مع بقية المكونات.
على الرغم من أن نظرية الأخلاط الأربعة لا تظهر في بعض النصوص الأبقراطية، قَبِلَ بعض الكتاب الأبقراطيين وجود خلطين فقط، في حين امتنع البعض الآخر عن مناقشة النظرية الخلطية على الإطلاق. حافظت الخلطية، أو مبدأ المزاجات الأربعة، على شعبيتها كنظرية طبية لقرون، ويعود ذلك إلى حد كبير لتأثير كتابات جالينوس (129-201 بعد الميلاد). ارتبطت نظرية الأخلاط الأربعة لأبقراط بنظرية العناصر الأربعة الشائعة: الأرض والنار والماء والهواء التي اقترحها أمبادوقليس، لكن لم يكن هذا الارتباط اقتراحًا من أبقراط أو جالينوس اللذين أشارا في المقام الأول إلى سوائل الجسم. في حين اعتقد جالينوس أن الأخلاط تتشكل داخل الجسم، ولا تدخل أو تهضم من الخارج، آمن أن الأطعمة المختلفة لها إمكانات متنوعة في تحريض الجسم على إنتاج الأخلاط المختلفة. إذ مالت الأطعمة الدافئة، على سبيل المثال، إلى إنتاج الصفراء، في حين مالت الأطعمة الباردة إلى إنتاج البلغم. أثرت فصول السنة والفترات العمرية والمناطق الجغرافية والمهن أيضًا على طبيعة الأخلاط المتشكلة.
اعتُقِد أن اختلال توازن الأخلاط، أو اضطراب الأخلاط، هو السبب المباشر لجميع الأمراض. ترافقت الصحة مع توازن الأخلاط أو استواء الأخلاط. أثرت صفات الأخلاط بدورها على طبيعة المرض الذي سببته. إذ تسببت الصفراء بحدوث الأمراض الدافئة أما البلغم أدى للأمراض الباردة. في حول المزاجات، شدد جالينوس على أهمية الصفات. انطوى المزاج المثالي على توازن خليط الصفات الأربعة. حدد جالينوس أربعة مزاجات تسيطر فيها أحد الصفات، الدافئ والبارد والرطب والجاف، وأربعة أخرى يسيطر فيها مزيج من صفتين، دافئ ورطب أو دافئ وجاف أو بارد ورطب أو بارد وجاف. أصبحت الأربعة الأخيرة، التي سميت بالأخلاط وترافقت معها، وهي المزاج الدموي والصفراوي والسوداوي واللمفي، معروفة أكثر من غيرها. في حين أن مصطلح المزاج جاء ليشير إلى المزاجات النفسية، استخدمه جالينوس ليشير إلى المزاجات الجسدية، التي حددت قابلية الشخص للإصابة بأمراض معينة بالإضافة إلى ميوله العاطفية والسلوكية.
قد يكون المرض أيضًا نتيجة ل«فساد» واحد أو أكثر من الأخلاط، والذي قد تسببه الظروف البيئية، أو التغيرات الغذائية، أو العديد من العوامل الأخرى. اعتُقد أن سبب هذا العجز هو الأبخرة التي يستنشقها أو يمتصها الجسم. آمن اليونانيون والرومان والمؤسسات الطبية المسلمة والأوروبية الغربية الذين تبنوا وعدلوا الفلسفة الطبية التقليدية، أن كل من هذه المزاجات تزداد وتتناقص في الجسم بناءً على الغذاء والنشاط. حين يعاني المريض من فائض أو اختلال توازن في واحد من هذه السوائل الأربعة، يُقال إن شخصية المريض و/أو صحته الجسدية يتأثران سلبًا.
الأخلاط الأربعة
على الرغم من أن نظرية الخلطية تمتلك العديد من النماذج التي تستخدم مكونين أو ثلاثة أو خمسة مكونات، يتألف النموذج الأشهر من أربعة أخلاط وصفها أبقراط وطورها جالينوس لاحقًا. الأخلاط الأربعة للطب الأبقراطي هي السوداء (باليونانية: μέλαινα χολή، السوداوية)، والصفراء (باليونانية: ξανθη χολή، الصفراوية)، والبلغم (باليونانية: φλέγμα، البلغمية)، والدم (باليونانية: αἷμα، الدموية). يتوافق كل خلط مع أحد المزاجات الأربعة التقليدية. بناءً على الطب الأبقراطي، اعتُقِد أن الأخلاط الأربعة يجب أن تكون متناسبة مع بعضها من حيث قوة وكمية كل خلط ليكون الجسم سليمًا. عُرف التمازج والتوازن المناسب للأخلاط الأربعة باسم «استواء الأخلاط». أدى اضطراب توازن الأخلاط وانفصالها إلى حدوث الأمراض.
يشير جالينوس إلى التوافق بين الأخلاط وفصول السنة في حول مبادئ أبقراط وأفلاطون، ويقول: «بالنسبة للأعمار والفصول، يتوافق الطفل (παῖς) مع الربيع، والشاب (νεανίσκος) مع الصيف، والناضج (παρακµάζων) مع الخريف، والمسن (γέρων) مع الشتاء». اعتقد جالينوس أيضًا أن صفات الروح تتبع لمزائج الجسم ولكنه لم يطبق هذه الفكرة على الأخلاط الأبقراطية. آمن أن البلغم لا يؤثر على الشخصية. ويقول في حول طبيعة الإنسان لأبقراط: «تنتج الفطنة والذكاء (ὀξὺ καὶ συνετόν) عن الصفراء في الروح، والمثابرة والاتساق (ἑδραῖον καὶ βέβαιον) عن الخلط السوداوي، والبساطة والسذاجة (ἁπλοῦν καὶ ἠλιθιώτερον) عن الدم. ولكن ليس لطبيعة البلغم تأثير على صفات الروح (τοῦ δὲ φλέγµατος ἡ φύσις εἰς µὲν ἠθοποιῗαν ἄχρηστος)». وأضاف قائلًا إن الدم هو مزيج من أربعة عناصر: الماء والهواء والنار والأرض.
تتوافق هذه المصطلحات جزئيًا فقط مع المصطلحات الطبية الحديثة، التي لا يوجد فيها فرق بين الصفراء والسوداء وللبلغم فيها معنى مختلف تمامًا. اعتُقِد أن هذه المواد هي المواد الأساسية التي تتشكل منها كل السوائل داخل الجسم. اقترح روبين فاهروس (1921)، وهو طبيب سويدي ابتكر سرعة ترسب الدم، أن الأخلاط الأربعة استندت إلى ملاحظة تخثر الدم في وعاء شفاف. حين يُسحب الدم ويوضع في وعاء زجاجي ويُترك لساعة واحدة، يمكن رؤية أربعة طبقات مختلفة في الوعاء. تتشكل خثرة سوداء في الأسفل («السوداء»). تتشكل فوق الخثرة طبقة من كريات الدم الحمراء («الدم»). يليها للأعلى طبقة بيضاء من كريات الدم البيضاء («البلغم»). ويطفو في الأعلى مصل رائق أصفر («الصفراء»).
كُتبت العديد من النصوص اليونانية خلال العصر الذهبي لنظرية الأخلاط الأربعة في الطب اليوناني بعد جالينوس. كانت إحدى هذه النصوص أطروحة مجهولة سُميت حول تركيب الكون والإنسان، ونشرها جاي إل آيديلر في منتصف القرن التاسع عشر. يحدد المؤلف في هذا النص العلاقة بين عناصر الكون (الهواء والماء والأرض والنار) وعناصر الإنسان (الدم والصفراء والسوداء والبلغم) إذ يقول:
- الناس ذوو الدم الأحمر ودودون، يمزحون ويضحكون على أجسادهم ومظهرهم، لونهم وردي مائل للأحمر، وبشرتهم جميلة.
- الناس ذوو الصفراء أكثر مرارة، وسريعو الغضب، وجريئون. يبدون مخضرّين وجلدهم أصفر.
- الناس المكونون من السوداء كسولون وجبناء ومرضى. لديهم شعر أسود وعينان سوداوان.
- من يملكون البلغم كئيبون وكثيرو النسيان ولديهم شعر أبيض.
الدم
اعتُقد أن الدم يتشكل حصرًا في الكبد. وترافق بالطبيعة المتفائلة (متحمسة ونشيطة واجتماعية).
الصفراء
اعتُقد أن زيادة الصفراء تؤدي للعدوانية ويؤدي الغضب المفرط تبادليًا إلى اختلال الكبد واختلال توزان الأخلاط.
السوداء
تشتق كلمة «سوداوية» من الكلمة اليونانية «μέλαινα χολή» (السوداوية) التي تعني «السوداء». يعود الاكتئاب إلى فرط السوداء أو إفرازها غير الطبيعي من الطحال.
البلغم
اعتُقد أن البلغم يترافق مع السلوك اللامبالي، كما يُلاحظ في كلمة «لمفي». يختلف البلغم في الخلطية كثيرًا عن البلغم الذي نعرفه اليوم. سأل تشارلز ريشيه، عالم الفيزيولوجيا الفرنسي والحائز على جائزة نوبل، بشكل بلاغي عند وصفه لـ«البلغم أو الإفراز النخامي» في الخلطية عام 1910، «هذا السائل الغريب، الذي يتسبب بالأورام، والاخضرار، والروماتيزم، والتلون، أين يتواجد؟ من سيتمكن من رؤيته؟ ماذا يمكننا القول عن هذا التصنيف العجيب للأخلاط ضمن أربعة مجموعات، اثنان منهما خياليان تمامًا؟»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق