احترام خصوصيات النساء.. تجسيد لإنسانية الإسلام
هي في مراحل عمرها المختلفة ليس لأحد من أولادها أن يقتحم عليها حياتها الخاصة، حيث يلزمهم الإسلام التعامل معها بأدب إسلامي رفيع وهو «الاستئذان»، فليس من حق أحد - ولداً أو بنتاً - أن يدخل على أمه مكان خلوتها وغرفة نومها من دون استئذان.
وهكذا تتنوع صيانة الإسلام بتشريعاته وآدابه وأخلاقياته لكيان المرأة
كله وعالمها الخاص، وذلك كله من باب التقدير لها والحرص عليها لكي تعيش
حياتها عزيزة كريمة لا يمتهنها أحد.
فما ملامح صيانة الإسلام لخصوصية المرأة وكيف أحسن الظن بها، وفرض على المتعاملين معها وخاصة زوجها الثقة بها؟
في
البداية تؤكد، د.مهجة غالب، عميدة كلية الدراسات الإسلامية
والعربية للبنات بالأزهر، أن الإسلام كفل للبنت الاحتفاظ بخصوصياتها،
خاصة عندما تصل إلى مرحلة المراهقة والوعي بشؤونها الخاصة، ولم يعط
حتى للأم، وهي بطبيعة الحال أقرب الناس إليها في هذه السن، أن تطلع على
عورتها، أو تتدخل في ما يخصها، ويقتصر دورها على تقديم النصائح
والتوجيهات وخلاصة الخبرات والتجارب الشخصية لها.
حق الحضانة
وتضيف: هذا الإطار من حرص الإسلام على خصوصيات النساء يبدأ مع البنت-
كما تقول د. مهجة- منذ نعومة أظفارها، فقد ألزم الإسلام والديها
بالتعامل برقي معها في كل أمورها الشخصية، فلا تغيير لملابسها أمام
أشقائها الذكور، ولا حديث في أمورها الشخصية التي تتغير حسب أطوار
حياتها إلا مع أمها، أو بينها وبين شقيقاتها، وإذا ما تعرضت حياتها
الأسرية لمشكلات وعواصف وانفصلت أمها عن أبيها أعطى الإسلام الأم حق
احتضانها، حرصاً على خصوصياتها وتحقيقاً لمصالحها.
وسبب إعطاء الأم
الحق في حضانة ابنتها وتولي رعايتها وتقديمها على غيرها أنها أعرف
بتربيتها، وأقدر على حماية خصوصياتها، فلها من الحرص في هذه الناحية
ما ليس للرجل، وعندها من الوقت ما ليس عنده، ولهذا أعطيت هذا الحق
رعاية لمصلحة البنت.
ولما كانت النساء يشتركن مع الأم في القدرة
على القيام بهذا العمل فقد قدمن في الترتيب عند إقرار حق حضانة الطفل،
وقد لاحظ الفقهاء أن قرابة الأم تقدم على قرابة الأب، لأن الحضانة إذا
كانت حقاً للأم دون الأب فقد اقتضى القياس أن تكون قرابة الأم مقدمة على
قرابة الأب.
ويتقدم في الحضانة من النساء الأقرب، فالذي يليه،
ويكون الترتيب على هذا النحو: الأم.. فإن وجد مانع يمنع تقديمها -
كأن فقدت شرطاً من الشروط التي يجب توافرها في الحضانة- انتقلت
الحضانة إلى أم الأم وإن علت، فإن وجد مانع انتقلت إلى أم الأب ثم إلى
الأخت الشقيقة، ثم إلى الأخت لأم، ثم إلى الأخت لأب، ثم بنت الأخت
الشقيقة، فبنت الأخت لأم، ثم الخالة الشقيقة.. فالخالة لأم فالخالة
لأب، ثم بنت الأخت لأب، ثم بنت الأخ الشقيق، فبنت الأخ لأم، فبنت
الأخ لأب، ثم العمة الشقيقة فالعمة لأم، فالعمة لأب، ثم خالة الأم
فخالة الأب فعمة الأم فعمة الأب بتقديم الشقيقة في كل منهن.
والهدف
من إعطاء الأم حق الحضانة خاصة للبنت واضح، وهو أنها الأقدر على رعاية
أمورها الشخصية وحماية أسرارها والحفاظ على كيانها النفسي.
أسرار الزوجة
وعندما تنتقل البنت من بيت أسرتها الأولى مصونة الخصوصية إلى بيت زوجها الذي أباح له الشرع الحنيف أن يرى منها مالا يراه أحد، كفل لها الإسلام أيضاً قدراً كبيراً من الخصوصية، فليس من حق الزوج أن يعرف عن ماضي زوجته كل شيء، وليس له اقتحام عالمها النفسي الخاص، وليس له أن يجبرها على أن تروي له تجاربها العاطفية السابقة، ولا أن تكشف عن مشاعر الود التي تبادلتها مع آخرين لو كانت لها تجارب سابقة.
الفقيه الأزهري، د. حامد أبو طالب، أستاذ الشريعة الإسلامية،
عضو مجمع البحوث بالأزهر، يؤكد أن الإسلام ألزم الزوج باحترام خصوصيات
زوجته، وحماية أسرارها الخاصة لو باحت له بها.
ويضيف: لكن
ينبغي أن نفرق في هذا الأمر بين زواج سابق أو خطبة سابقة معلنة لا
يجوز إخفاؤها عن الزوج انطلاقاً من قيام العلاقة الزوجية على المصارحة
والمكاشفة التي تحميها من العواصف في المستقبل، وبين تجارب ومغامرات
عاطفية فاشلة تمر بها الفتاة قبل الزواج، كما يحدث مع كثير من الفتيات
الراغبات في الزواج، فهذه الأسرار الخاصة بالفتاة من حقها أن تحتفظ بها
لنفسها، بل من واجبها أن تفعل ذلك، حرصاً على صورتها في نظر من
يرغب الزواج منها، وليس في ذلك غش ولا تدليس، فلكل إنسان تجاربه
وماضيه، ولا يجوز أن يكشف عنه، خاصة إذا ما تيقن أو غلب على ظنه
أنه سيلحق به الضرر.
ومن هنا يؤكد أستاذ الشريعة الإسلامية،
أنه لا يحق للزوج أن يعرف ماضي زوجته حتى لو كان هذا الماضي
يحتوي على تجاوزات أخلاقية مادامت قد تابت عنها توبة نصوحة، وفي
المقابل لا يحق للزوجة أن تسأل زوجها عن ماضيه وعلاقاته السابقة مادامت
هذه العلاقات قد قطعت ولم يعد لها وجود.
ولكن هل يجب على الفتاة
المخطوبة أن تروي لخطيبها كل ما يتعلق بأسرار حياتها العاطفية
السابقة، حتى تبدأ العلاقة الزوجية على أساس من المصارحة والمكاشفة؟ وكيف
تتصرف الفتاة لو كانت في حياتها تجاوزات أخلاقية؟
يقول د. أبو طالب: الإسلام أمر بالستر على كل امرأة ارتكبت سلوكاً
مخالفاً لقيم وأخلاقيات الإسلام، فالستر فضيلة إسلامية يجب الحرص
عليها، وبالنسبة للفتاة المخطوبة، فإنه يجب الستر عليها إذا كانت قد
أخطأت، وعدم إظهار أسرار قد تضرها في حياتها المستقبلية، أو كشف مستور
قد لا يكون في مصلحتها.
واعتراف الفتاة بأسرارها يخضع
لحالتين: إذا كانت قد ارتكبت بعض التجاوزات على سبيل الخطأ من دون قصد
منها، كأن خدعها شخص وغرر بها وهي فتاة من أصل طيب ومن أسرة معروف عنها
الخلق الكريم فلا داعي لكشف المستور، ولا يكون هناك غش وتدليس لأن
الإسلام أباح الكذب في بعض الأحيان، وفي هذه الحالة يكون الستر
واجباً، ولا تكون آثمة شرعاً.
لكن إذا كانت هذه الفتاة قد تربت على التجاوز الأخلاقي ويشاع عنها وعن بعض أفراد أسرتها هذا اللون من الانحراف، فيجب أن تفصح عما حدث لها لأنها إذا لم تكن صريحة ولم تظهر ما حدث لها من أشياء سابقة مثل الإجهاض، وإعادة «ترقيع» غشاء البكارة مثلاً، فإن هذا المتقدم لها سيعرف من أطراف وأشخاص آخرين، ومن الممكن أن يعود عليها إخفاؤها لهذه المعلومات بالضرر، وفي هذه الحالة تكون الفتاة آثمة شرعاً إذا لم تكشف عما تخفيه.
وهنا لا تكون الفتاة المخطوبة ملزمة برواية أسرارها لخطيبها قبل العقد عليها، لأنه قد ينصرف عنها وينقل ما روته له لآخرين فيفتضح أمرها بين الناس، وبعد العقد عليها يجب عليها ألا تفشي أسرارها وألا تندفع في الكلام عن تلك الأسرار، وإذا استحلفها الزوج تحلف كاذبة ولا تكون آثمة- كما يقول أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر- لأنه يجوز الكذب في هذه الحالة حرصاً على العلاقة الزوجية واستقرار حياتها الأسرية، وعلى الزوج إلا يطلب منها كشف أسرارها.
الكذب المباح
وهل يجوز للزوجة أن تكذب على زوجها إذا ما طلب منها أن تروي له ماضيها العاطفي؟
يقول د. أبو طالب: ليس من حق الزوج التعرف إلى ماضي زوجته مادام
قد انتهى، ومادام قد ارتضاها هو زوجة له، ولذلك فإن الزوجة ليست ملزمة
بالكشف عن ماضيها لزوجها.
ويضيف: الإسلام ألزم الرجل بحماية سمعته
وسمعة الأسرة كلها وسمعة زوجته التي اختارها شريكة لحياته، والحديث
الشريف يقول: «والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته»، ومن
الرعاية أن يراقب سلوك زوجته كما يراقب سلوك أولاده، لكن هذه
المراقبة لها حدود حتى لا تنتج آثاراً سلبية، ومن حق الزوج أن يحاسب
زوجته على ما ترتكبه من تجاوزات وهي في عصمته فقط، أما قبل أن ترتبط
به فلا شأن له به، مادام قد ارتضاها زوجة له.
وقد يكون في إخبار الزوجة لزوجها عن تفاصيل ماضيها- خاصة إذا كانت لها علاقات بريئة قبل الزواج- ما يؤدي إلى الشك وسوء الظن ويصبح أي عمل يصدر عن الزوجة ولو كان عفوياً وغير مقصود مثاراً، للشك والخلاف، لذلك فإن إخفاء هذه الأمر- كما يقول د. أبو طالب - مرغوب شرعاً، والكذب فيه رخصة، وهذه الرخصة تجوز بشرط أن يكون الغرض منها المحافظة على الحياة الزوجية واستقرار الأسرة، وبشرط ألا يترتب على هذا الكذب أضرار بآخرين.
نصيحة داعية
وهنا تنصح الداعية الأزهرية، د. آمنة نصير، الأستاذة بجامعة الأزهر
كل فتاة مخطوبة بعدم الانصياع لإلحاح خطيبها على أن تروي له تفاصيل
ماضيها، وتقول: في حياة كل فتاة هفوات وليس من الحكمة أن يتعرف
الخاطب إليها، وليس من المفيد لا للفتاة ولا لخطيبها الكشف عن ذلك.
وتضيف:
لا يجوز أن تطلع الفتاة خطيبها على ما فعلته من تصرفات طائشة ارتكبتها
قبل أن تعرفه مادامت قد توقفت عن هذه الأفعال، وقررت أن تخلص كل الإخلاص
لمن يتقدم لخطبتها وارتضاها زوجة له، وإذا كان ستر الآخرين على المرأة
المتجاوزة واجباً، فستر الفتاة على نفسها أوجب حيث يجب عليها هنا عدم
إفشاء الأسرار الخاصة بها لأحد.
لكن إذا ما كانت الفتاة قد ارتكبت
خطأ كبيراً، كأن فرطت في شرفها بعلاقة آثمة مع شاب أو تزوجت عرفياً وأخفت
هذه الجريمة بعملية ترقيع لغشاء البكارة أو أهملت نفسها واستهترت واكتشف
زوجها عند الدخول بها أنها ليست بكراً، كل هذه أخطاء ينبغي على
الفتاة أو ولي أمرها أن يصارح بها من تقدم لخطبتها، لأن إخفاء هذه
الأمور يدخل في باب الغش والتدليس.
أما إذا كانت الحياة الزوجية قد بدأت بالفعل فليس من الحكمة مصارحة
الزوج بهذه التجاوزات أو الانحرافات التي تؤدي حتماً إلى هدم الحياة
الزوجية.
وتنتهي د. آمنة إلى أن الإسلام لا يلزم الزوجة بكشف
أسرار حياتها لزوجها، فما دامت علاقات المرأة ومشاعرها كانت بعيدة عن
المحرمات فلا ينبغي كشفها بأي حال من الأحوال، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: «من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فستره الله فهو في
ستر الله فلا يكشف ستر الله عليه». والقاعدة الأساسية في شرعنا
العادل أن من تاب تاب الله عليه، والإنسان الذي يقلع عن المعصية ويندم
عليها ويستقيم على الفضيلة ويتجنب الرذائل ويتقي الشبهات، فعلى المجتمع
أن يعينه على حياة الاستقامة والالتزام.
من الآداب الإسلامية الرفيعة التي دعمتها الشريعة الإسلامية احترام
الحياة الخاصة للآخرين، حيث وضعت سياجاً منيعاً من القيم والتعاليم
والأحكام الصارمة، التي تحقق السرية والخصوصية، وجرّمت الاطلاع عليها أو
كشفها تحت أية دعوى أو مبرر مهما كان.
هذا الأدب الراقي يؤكد حرص
الإسلام الشديد على تنظيم العلاقة بين الناس ليعيشوا حياتهم بحرية بعيداً
عن عيون المتلصصين، وسفاهات المتربصين الذين يعشقون الفضائح ويشيعون الخوف
والقلق والاضطراب بين الناس.
والالتزام بهذا الأدب الرفيع يجعل الإنسان
يعيش مطمئن القلب راضي النفس، والطريق إلى تحقيق هذا الهدف هو حسن علاقته
بالآخرين، والحفاظ على مشاعرهم، واحترام خصوصياتهم، وعدم التلصص عليهم،
وتجنب البحث عن مساوئهم وتجاوزاتهم.
احترام الحياة الخاصة للآخرين في
منظومة الإسلام الأخلاقية له صور كثيرة ومجالات متعددة كما يقول د. محمد
الشحات الجندي، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية
بالأزهر، وهي تبدأ بأدب رفيع هو «أدب الاستئذان واحترام حرمات البيوت
وخصوصيات من يقيمون فيها»، وقد غرس فينا القرآن الكريم هذا الأدب من خلال
العديد من الآيات المحكمة التي توفر لكل من يلتزم بها حياة طيبة كريمة،
وعلاقات محترمة من شأنها توثيق العلاقات بين الناس.
أدب إسلامي راقٍ
ويضيف: جاء في كتب التفسير أن امرأة من الأنصار أتت النبي صلى الله عليه
وسلم وقالت: «يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني
عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، وإنه لايزال يدخل علي
رجل من أهلي وأنا على تلك الحال.. فكيف أصنع؟» فنزل جبريل بوحي إلهي يحمل
أدباً رفيعاً ينظم دخول البيوت.. يقول الحق سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا
لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم
لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل
لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم، ليس عليكم جناح أن
تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون».
وهذا
الأدب الذي رسخه القرآن الكريم لايزال - للأسف الشديد - غائباً عن كثير من
بيوتنا، وفي ظل غيابه تشهد العلاقات الأسرية والاجتماعية نزاعات ومشكلات
بين الأقارب والجيران نتيجة الخروج على أدب الإسلام وانتهاك حرمة البيوت
وكشف أسرار أهلها، ما يؤكد حاجتنا الماسة إلى العودة إلى أدب وأخلاق
الإسلام المنظمة لدخول بيوت الآخرين واحترام حقوق سكانها حتى ولو كانوا من
الأقارب.
إحسان الظن بالآخرين
ولأن الإسلام يستهدف إقامة المجتمع الفاضل الذي تنتشر فيه الثقة بين
أفراده، فقد حرص على ترسيخ ثقافة «حسن الظن»، حتى يقيم المجتمع على صفاء
النفوس وتبادل الثقة بين أفراده، لا على الريب والشكوك والتهم والظنون،
وهذا يوفر لكل فرد في المجتمع العيش بسلام واستقرار بعيداً عن الاضطراب
والقلق.
يقول د. سعد الدين هلالي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة
الأزهر: إحسان الظن بالآخرين في ظل منظومة الإسلام الأخلاقية أدب إسلامي
رفيع لا يجوز التخلي عنه، فليس من حق المسلم إحاطة أحد بالظنون والشكوك
والأوهام، ولا يجوز ترديد الأقوال السيئة أو الشائعات الكاذبة عنه، وهنا
يبرز قول الحق سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض
الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه
ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم».
وفي ظل الفهم الواعي
لمدلول هذه الآيات الكريمة، لا يجوز لمسلم أن يسيء الظن بأخيه المسلم من
دون مسوغ ولا بينة ناصعة، فالأصل في الناس أنهم أبرياء ووساوس الظن لا يصح
أن تعرّض ساحة البريء للاتهام، ولذا يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه
وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».
والأمر لا يقف هنا عند
التحذير من رذيلة سوء الظن لما فيها من ظلم للآخرين، فهناك خلق سيئ لا يليق
بمسلم، وهو التجسس، وقد جاء الأمر الإلهي واضحاً وحاسماً «ولا تجسسوا»،
وهذا نهي إلهي واضح في عدم التجسس على حياة أحد، والتجسس يأتي نتيجة غياب
الثقة وسوء الظن بالآخرين.
لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم تتبع عورات
الناس من خصال المنافقين، وحمل على من يفعلون ذلك حملة عنيفة على الملأ،
حيث صعد المنبر ونادى بصوت رفيع قائلاً: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض
الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع
عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف
رحله».
لذلك ومن أجل الحفاظ على حرمات الناس، حرم رسول الله صلى الله
عليه وسلم أشد التحريم أن يطلع أحد على قوم في بيتهم بغير إذنهم، وأهدر في
ذلك ما يصيبه من أصحاب البيت فقال: «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل
لهم أن يفقؤوا عينه».. كما حرم أن يسمع حديثهم بغير علم منهم ولا رضا فقال:
«من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة».
حماية خصوصيات المريض
ومن أبرز مظاهر احترام خصوصيات الإنسان في ظل منظومة الإسلام الأخلاقية
احترام خصوصيات المريض، سواء من جانب الأطباء الذين يعالجونه، أو من جانب
الذين يقومون برعايته في المستشفى ويحتفظون ببياناته، أو من جانب من
يترددون عليه لزيارته والاطمئنان إليه.
فالعلاقة بين الطبيب ومريضه يجب
أن تقوم على الثقة المتبادلة، فمن حق المريض- شرعاً - أن يتحدث عن حالته
بموضوعية ويروي لطبيبه معاناته وأعراض مرضه بكل شفافية حتى يسهل للطبيب
التعرف إلى المشكلة التي يعانيها، والطبيب في ظل آداب الإسلام ملزم بالحفاظ
على أسرار مريضه، ولا يبوح بها لأي شخص أو جهة إلا في حالات خاصة، كأن
تطلبها محكمة للقضاء في قضية تخصه، أو أن تطلب جهات تحقيق رسمية تقريراً أو
شهادة، وفي بعض هذه الحالات يجوز للطبيب أن يمتنع عن كشف أسرار مريضه.
ولأن
أسرار المريض لم تعد محصنة الآن نتيجة تداول ملفات المرضى بين أيادٍ كثيرة
داخل المستشفيات والمراكز الطبية، فإن كثيراً من العاملين في المستشفيات
يطلعون على مضمون ما تحمله الملفات، والتي تحولت في كثير من المراكز الطبية
من ملفات ورقية إلى ملفات على الكمبيوتر، فيجب أن يلتزم كل من يتعامل مع
المريض بأدب الإسلام وكل من يسرب معلومة عن مريض يجب محاسبته وردعه.
ويؤكد
د. هلالي أن تعاليم الإسلام الواضحة وأخلاقياته الراقية تفرض على كل
المتعاملين مع المريض احترام خصوصياته، فالمريض أمام طبيبه يكون في حالة
ضعف تدفعه إلى كشف كل ما لديه بحثاً عن الشفاء من الحالة التي يشكو منها،
والطبيب يجب أن يكون محل ثقة مريضه ويجب أن يلتزم بأخلاقيات دينه أولاً،
وأخلاقيات المهنة السامية التي يمتهنها.
آراء فقهية
ويضيف: إفشاء أسرار المريض لطبيبه قد يمس علائق أخرى غير جوهر المرض مثل
الدين والأخلاق والقانون وأمن المجتمع، كما قد يمس أشخاصاً آخرين كالزوج
والخاطب وولي الأمر، ولذلك يثور التساؤل دائماً عن مدى حق الطبيب ومسؤوليته
في إفشاء أو كتمان تلك الأسرار، ويقول: لقد اختلف الفقهاء المعاصرون في
هذا الأمر على ثلاثة اتجاهات:
- الأول: يرى أنه يحرم على الطبيب إفشاء
أسرار مريضه وحجتهم: أن الأسرار أمانات، ولا يجوز خيانة الأمانة، واطلاع
الطبيب على تلك الأسرار إنما كان بغرض المداواة، ويجب أن يقتصر توظيف تلك
الأسرار على العلاج، وبالتالي يجب ألا يستجيب الطبيب لطلبات أي جهة ولو
كانت من الجهات الأمنية في إفشاء أسرار مريضه.
- الثاني: يرى أنه يجب
على الطبيب توظيف أسرار مريضه في خدمة شتى الجوانب الإصلاحية من العلاج
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحجتهم: أن الخبر إذا خرج من المريض لم
يعد سراً، كما أن الطبيب قبل أن يكون طبيباً هو إنسان مسؤول في المجتمع،
وعليه أن يكون مصلحاً وعنصراً وقائياً لتفادي الضرر، مع مراعاة سياسة
التدرج واتباع أخف الضررين عند المعالجة الاجتماعية، وله أن يتعاون مع
الجهات الأمنية إذا لزم الأمر.
- أما الاتجاه الثالث: فيرى أن الأصل هو
تحريم إفشاء الطبيب لأسرار مريضه، ولكن يجوز ذلك في بعض الصور الاستثنائية
التي يؤدي الكتمان فيها إلى ضرر محقق أو ضياع مصلحة معتبرة.
وهذا الاتجاه الأخير هو الذي يتفق مع مقاصد الشريعة من حفظ الكليات الخمس وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
وعن
حق كل من الزوجين في الاطلاع على الفحوص الطبية الخاصة بالطرف الآخر، يقول
د. هلالي: ناقش الفقهاء هذا الأمر وأقروا عدم جواز كشف سر المريض لأحد
الزوجين إلا إذا دعت الضرورة لكشفه، وجرم علماء الإسلام من خلال قرارات
مجامع فقهية سلوك الطبيب أو من يحل محله إذا ما كشف سر أي من الزوج والزوجة
للطرف الآخر.
من هنا لا يجوز شرعاً أن تطلع الزوجة على خصوصيات زوجها
الصحية إلا بإذنه وموافقته، وإذا ما تلصصت على ملفه الطبي واطلعت على ما به
خلسة من دون علمه وخلافاً لرغبته أصبحت آثمة شرعاً وتجلب لنفسها غضب الله
وعقابه.
وهكذا يرسخ الإسلام أدب الحفاظ على أسرار الناس وستر عوراتهم،
ولا ينظر لهذا الأمر على أنه من الآداب والفضائل التي يتزين بها الإنسان
فقط.. بل هو واجب ديني وأخلاقي واجتماعي على كل إنسان.
كثيرة هي الحوادث التي تتداولها وسائل الإعلام عن التلصص، وتحمل ''مانشيتاتها'' الكثير من الإثارة فيما تطرح تفاصيلها الكثير من الأسئلة، منها على سبيل المثال لا الحصر: ''ضبط أكثر من مائة ألف اسطوانة مدمجة تم تداولها في الأسواق وقد سجلت عليها صور النساء في حفلات زواج وأعراس''، و ''بعد مطاردة مثيرة تمكنت الشرطة من ضبط شخص هوايته فتح نوافذ المنازل والتلصص على النساء وهن نائمات بعد تعدد البلاغات ضد مجهول''· و ''أصدر القضاء البريطاني مؤخرا حكما على بريطاني في الخامسة والخمسين بتهمة التلصص على زوجته، بعد أن وضع دون موافقتها كاميرا لتصويرها أثناء استحمامها· وحكم عليه بموجب القانون البريطاني بالعمل للمصلحة العامة لتسعة اشهر ودفع غرامة بقيمة 198 يورو، الا أنها رفعت دعوى بطلب الطلاق''· هذه عينة من الأخبار التي يتم تناقلها باستمرار، لكن أطرف وأعجب واقعة تلصص نشرتها الصحف الأسترالية وبعض المواقع الإلكترونية في الثامن من يناير الماضي، حيث ألقت الشرطة الاسترالية القبض على رجل ظل يستخدم على مدى أربع سنوات آلة تصوير صغيرة للغاية مثبتة في مقدمة حذائه لتصوير النساء من أسفل ''تنوراتهن'' وهن واقفات في عربات ''الترام''· وكان الرجل يستخدم كاميرا مخبأة في حذاء رياضي خفيف أسود اللون لتصوير الملابس الداخلية للنساء، بينما يستخدم كاميرا أُخرى تبدو وكأنها مُشغل صغير للموسيقى في التقاط صور لوجوههن، ثم يقوم لاحقا بتوليف اللقطات· ومن سوء حظ الرجل أن امرأة ارتابت في سلوكه، وبتفتيش منزله ضبطت الشرطة صورا وأجهزة تسجيل تظهر أنه كان ''يمارس تلصصه الإلكتروني'' على النساء منذ أربع سنوات على الاقل، ووجهت اليه تهمة ''التلصص''على الناس ومضايقتهم في مكان عام، والتي تبلغ عقوبتها القصوى السجن عشر سنوات· نحن أمام سلوك بشري يستحق التأمل، فاذا كانت المثيرات الغرائزية متاحة أمام الناس، فما الذي يدعو مثل هذه النماذج من الناس الى التخفي، أو الاعتماد على وسائل تكنولوجية متطورة لانتهاك حرمة وخصوصية وعورات الآخرين بما يوقعهم تحت طائلة القانون؟ هل هو سلوك عرضي يمكن لصاحبه أن يتخلى عنه بسهولة؟ أم هو سلوك قسري يشبع في صاحبه حاجة معينة لا نعلمها؟ وهل يمكن النظر الى هذا السلوك على أنه مجرد مخالفة سلوكية غير متحضرة، أو أنه سلوك غير لائق فقط؟ أم جريمة أخلاقية تستحق العقاب؟ أم أنه عرض لمرض أو اضطراب نفسي؟ جريمة بشعة يقول ياسر جمعة ''موظف'':'' هذه السلوكيات معيبة ومرفوضة، ومن المؤكد أن أصحابها غير طبيعيين· وهناك أناس كثيرون يحبون التجسس على الآخرين ارضاء لفضولهم، لكن ''التلصص'' بغرض الاستثارة الجنسية أو انتهاك حرمة وخصوصية الناس جريمة أخلاقية بلا شك، وتستوجب العقاب· وأقول بصراحه من المفترض أن تكون هناك حملات تفتيشية على مؤسسات الدولة والأماكن العامة، ومتابعة شركات الصيانة للبنايات الكبيرة، والأماكن التي ترتادها النساء بشكل خاص كصالات الأفراح ومحال التجميل والصالونات والأزياء، وغيرها، وإزالة أي شيء يمكن أن يكون مثارا للشكوك على الفور''· أما ايمان صليبي''موظفة'' فتقول: انها جريمة أخلاقية بكل المقاييس، فكيف تأمن الفتاة على نفسها؟ التكنولوجيا ساعدت مثل هؤلاء المرضى على انتهاك خصوصيات الناس بسهولة· كنا نسمع في السابق عن وجود من يتلصص من النوافذ المغلقة، أو من خلف الستائر، أو يستعمل منظارا مكبرا، لكن الآن ظهرت وسائل تكنولوجية متطورة، كالعدسات والكاميرات السحرية في اللعب والأقلام والهواتف المحمولة أو غير ذلك، ولم يصبح للحرية حدود، ولكنني أتساءل: لنفترض أن أحدا وضع جهازا أخطر على الآخرين من هذه الكاميرا، كجهاز تفجير أو تنصّت أو أى شيء آخر بنفس الطريقة، أليس هناك احتياطات وتدابير أمنية احترازية تشعر الناس بالأمن، وتطمئنهم على عدم اختراق خصوصياتهم؟''· وتضيف فاطمة المهيري'' طالبة'': ''مثل هذه الحوادث الفردية تجعلنا دائما لا نشعر بالأمان في الأماكن العامة، ودائما انصح اخواتي وقريباتي وكل جيراننا من النساء وزميلاتي في العمل عندما يذهبن الى أي عرس أو صالة أفراح أو الى أي سوق تجاري أو معرض ملابس أن يلبسن ملابس محتشمة لأنه من غير المستبعد ان تكون هناك كاميرات للتصوير· انهم من المفسدين في الأرض، وهذه سلوكيات وتصرفات جبانة تدل على تردي أخلاق أصحابها ومرتكبيها''· التفسير النفسي يقول الدكتور فؤاد أسعد أستاذ الطب النفسي بجامعة ''هارفارد'' الأميركية إن أصحاب مثل هذه السلوكيات ينظر اليهم من وجهة نظر الطب النفسي على أنهم مرضى يعانون من الانحراف الجنسي· ويشخص انحرافهم وفق التصنيفات الأميركية الرابعة والخامسة والسادسة للطب النفسي باسم ''التلصصية veyeurism'' وهو واحد من 15 انحرافا جنسيا معروفا· وهي لا ترتبط بمجتمع معين، أو بثقافة محددة، وصاحبها يستمتع برؤية الآخرين عرايا، أو وهم يمارسون العلاقة الجنسية، من خلال استراق النظر من خلف الأبواب أو النوافذ المغلقة، أو باستعمال مناظير تكبير من على بعد، أو باستعمال عدسات أو تقنيات تكنولوجية حديثة، أو حتى بمشاهدة مجلات أو أفلام خليعة· ولوحظ بالفحص الاكلينيكي والتاريخ المرضي لهؤلاء الناس أنهم يفشلون في الاستثارة الجنسية الطبيعية الا اذا أشبعوا فضولهم المنحرف بمثل هذه السلوكيات· ومن المؤكد أن سلوك ''التلصصي'' سلوك قهري، اضطراري، يجد صاحبه نفسه مضطراً ومدفوعاً اليه لاشعورياً لاشباع حاجته النفسية والجنسية، وأن الاشباع الجنسي لديه لا يتحقق الا من خلال سلوكه الانحرافي هذا، وغالبا ما يشعرون بالتوتر، والاضطراب، والقلق والاخفاق اذا ما فشلوا في ذلك''· التكييف القانوني تشير المحامية فرحة مساعد المنهالب، الى وقائع عديدة متشابهة وان اختلفت التفاصيل، ومنها عندما تم ضبط كاميرا في أحد محال الملابس في دبي منذ أربع سنوات تقريبا، وبررت صاحبة المحل وجود الكاميرا لمراقبة العاملات· وغالبا ما يتم تناول القانون الاماراتي لهذه الحالة من منظور عام وشامل، وتوصيف التصرف على أنه ''انتهاك صريح لحرمة الغير''، أما الحكم الجزائي أو العقابي فيخضع لتقدير القاضي للواقعة، وملابساتها وظروفها، وكيفية اثباتها، والأدوات المستخدمة، واعتراف المذنب من عدمه· ولكل حالة خصوصيتها بالتأكيد، ويتم الحكم بموجب المادة 370 من قانون العقوبات الاتحادي 34 لسنة ،2005 وتتراوح العقوبة مابين الغرامة والحبس من ثلاثة أشهر الى ثلاث سنوات، وتشدد العقوبة ان كان المتهم موظفا عاما، واستغل وظيفته أو سلطته في تنفيذ جريمته، انما هي بالتأكيد مخالفة وجريمة أخلاقية صريحة تتنافى مع القيم والأخلاق والتقاليد دون أدنى شك·
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق