تحري ليلة القدر والاجتهاد فيها
إنَّ ليلة القدر لها الكثير من الفضائل، ومن فضائلها:
• أن القرآن العظيم أُنزل فيها: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].
• هي خير من ألف شهر: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]؛ قال الإمام الطبري بعدما ذكر أقوال المفسرين في معنى: ﴿ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾: (وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزيل قول من قال: عملٌ في ليلة القدر خيرٌ من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر).
• تتنزل الملائكة والروح في تلك الليلة: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، والروح هو جبريل عليه السلام.
• ليلة مباركة: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3].
• فيها تقدر مقادير السنة: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4].
• قيامها إيمانًا واحتسابًا يغفر ما تقدم من الذنوب، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
اختلف العلماء في سبب تسميتها بليلة القدر، قال الحافظ ابن حجر: (واختلف في المراد بالقدر الذي أُضيفت إليه الليلة، فقيل: المراد به التعظيم؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91].
والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لِما يقع فيها من تنزُّل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يُحييها يصير ذا قدر.
وقيل: القدر هنا التضييق: كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾ [الطلاق: 7]، ومعنى التضييق فيها: إخفاؤها عن العلم بتعيينها، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة.
وقيل: القدر هنا بمعنى القدَر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة؛ لقوله تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]، وبه صدر النووي كلامه، فقال: قال العلماء: سُميت ليلة القدر لِما تكتب فيها الملائكة من الأقدار؛ كقوله تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾، ورواه عبدالرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم.
• الاعتكاف: عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ".
• قيام ليلها إيمانًا واحتسابًا: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، ومعنى إيمانًا: تصديقًا بوعد الله بالثواب عليه، ومعنى احتسابًا: طلبًا للأجر لا لقصد آخر؛ كالرياء والسمعة، وغيرهما.
• الدعاء: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: (قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي).
• إيقاظ الأهل للصلاة: عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ".
تحري ليلة القدر والاجتهاد فيها:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)، وعنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرٌ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"، ومعنى شدَّ مِئزره: اجتهد في العبادة واعتزل النساء، ومعنى أحيا ليله: سَهِرَه بالطاعة، ومعنى أيقظ أهله: أي: للصلاة.
واعلم أخي المسلم أنَّ من فاتته هذه الليلة، فقد فاته خير كثير؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلا مَحْرُومٌ).
اختلف العلماء في تحديد وقتها، ولكن الراجح أنها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، وأنها متنقلة لأدلة صحيحة؛ منها:
• أنها في العشر الأواخر؛ فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ).
• أنها في الوتر من العشر؛ فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوَتْرِ مِنْ الْعَشْرِ).
• كونها متنقلة لورود أحاديث ثبوتها ليلة إحدى وعشرين، وفي ليلة ثلاث وعشرين، وفي ليلة سبع وعشرين، وفي ليلة تسع وعشرين، ومما يدل على أنها وقعت ليلة إحدى وعشرين، ما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَأُنْسِيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ)، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: (مُطِرْنَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ)، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِي مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقَدْ انْصَرَفَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُبْتَلٌّ طِينًا وَمَاءً.
• ومما يدل على أنها وقعت ليلة ثلاث وعشرين: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَدْ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، قَالَ: جَلَسَ مَعَنَا عَبْدُاللَّهُ بْنُ أُنَيْسٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ فِي مَجْلِسِ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فِي رَمَضَانَ، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا يَحْيَى، هل سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، جَلَسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ هَذَا الشَّهْرِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى نَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ؟ قَالَ: (الْتَمِسُوهَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ)، وَقَالَ: وَذَلِكَ مَسَاءَ لَيْلَةِ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ.
• ومما يدل على أنها ليلة السابع والعشرين: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: (وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهَا وَأَكْثَرُ عِلْمِي هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ).
• ومما يدل على أنها آخر ليلة: عن معاوية بن أبي سفيان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التمسوا ليلة القدر في آخر ليلة).
قال الحافظ بعد ذكره أقوال العلماء في المسألة:
(وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار العشر).
قال الحافظ ابن حجر: (قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر؛ ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عُيِّنتْ لها ليلة، لاقْتُصِر عليها).
ذُكرت آيات وعلامات تدل على ليلة القدر، ومما صح من هذه العلامات:
• أنَّ ليلتها لا حارة ولا باردة: عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت أريت ليلة القدر، ثم نسيتها، وهي في العشر الأواخر من ليتلها و هي ليلة طلقة بلجة لا حارة و لا باردة".
• الشمس في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها: عَنْ زِرٍّ قَالَ سَمِعْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ: وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَالَ أُبَي: (وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ، وَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لَهَا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق