الاثنين، 25 أبريل 2022

سَيِّدَةُ اللَّيالِي

 

سَيِّدَةُ اللَّيالِي


الحمد لله الذي أفاض النعم، وأسبغ من الكرم، ورفع الأجور، وزاد في النور، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، جعل ليلةَ القدرِ سيدةَ اللَّيالي وأكْرَمَهَا، وأنزل فيها الآيات البينات هداية للعالمين، وذكرًا للمتقين، وزادًا للمستبصرين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدالله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خير العابدين الذاكرين القائمين بأمر الله رب العالمين؛ أما بعد:

أيها المسلمون، منحةُ الملكِ العلَّامِ لأُمة الإسلام، تتجلى فيها كرائم الهِبات، وأجزل المثوبات، من رب الأرض والسماوات، وقد جُمِعَ الزمان بأجمل ما حوى من النور، ودرر الفضل، وأوسمة التميز، واختصر مناقب الأولين والآخرين في ليلةٍ باركها المولى، ويشهدُهَا الملأُ الأعلى، فأكْرِمْ بها من ليلةٍ فاقتْ في ذُرَاهَا الأعوام، واكتسى أديم الأرض طهرًا بالملائك الكرام!

 

إنها ليلة القدر، سيدةُ الليالي وطيِّبَةُ الذِّكْرِ، من أدركها بعمله وعبادته، أدركتُهُ عند ربها بمنح المثوبة والسلام، "وسميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قَدْرٌ؛ أي: شرف ومنزلة؛ قال الزهري وغيره، وقيل: سميت بذلك؛ لأن للطاعات فيها قدرًا عظيمًا وثوابًا جزِيلًا، وقال أبو بكر الورَّاق: سُميت بذلك؛ لأن من لم يكن له قدرٌ ولا خطرٌ يصير في هذه الليلة ذا قدرٍ إذا أحياها، وقيل: سميت بذلك؛ لأن الله أنزل فيها كتابًا ذا قدرٍ، على رسول ذي قدرٍ، على أمةٍ ذات قدرٍ، وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر وخطر، وقيل: لأن الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة، وقال سهل: سميت بذلك؛ لأن الله تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين"؛ [الإمام القرطبي، الجامع في أحكام القرآن].

 

فضائلُ ليلة القدرِ:

وهي ليلةٌ ذات فضائل خاصة، لا يمكن أن تجتمع إلا فيها، فقد جَمعت مكارم العام كله بين أردانها، وجمعت نسكَ الصالحين، وتضرعات الداعين، ونشاط العابدين، وهِمَمَ الواصلين، "وهي ليلةٌ ما رُفعت فيها قصةُ محتاجٍ إلى الله تعالى إلا نظرها، ولا وصلتْ إليه دعوةُ مظلومٍ إلا أنجزها ونصرها، ولا صعدت إليه أنفاسُ كربةٍ إلا أزال كربها وضرها، ولا انتهت إليه شكاية ملهوفٍ إلا أزال عنها الجرح، وأتاها بالفرج وبشرها، ولا توجهت إليه قلوبٌ منكسرةٌ إلا أغاثها بلطفه وجبرها، فسبحان من اطلع في هذه الليلة الشريفة على الذنوب فغفرها، وعلى العيوب فسترها، وعلى حوائج السائلين فقضاها بفضله ويسرها".

 

ومن بركات فضائلها نقف على هذه المنح الغالية:

في ليلة القدر ابتداءُ نزول القرآن الكريم بادئ أمره على قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقد وصفها الله تعالى بالبركة؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]، وهي من جملة ليالي شهر رمضان؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 186]، "قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزَّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ [تفسير ابن كثير].

 

والقرآن الكريم دستور الأحياء، ونبأ ما بعد اللقاء، وفيه شفاء الصدور والنفوس والأبدان، وراحة الأرواح، وزاد العالم والعابد والمهتدي، فيا لبشرى أمة الإسلام بليلة القدر التي نزل فيها القرآن الكريم على سيد البشر صلى الله عليه وسلم!

 

ومن فضائلها أنها في الزمان تعدل ألف شهر كمن قام وعبد وذكر مولاه خلال هذه المدة الطويلة، بل إنها في الأجر أكثر، وذلك فضل المولى على أمة الإسلام؛ قال الله تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]، وعن مجاهد بن جبر المكي رضي الله تعالى عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ذكر رجلًا من بني إسرائيلَ لبس السلاحَ في سبيلِ اللهِ ألفَ شهرٍ، قال: فعجب المسلمونَ من ذلك، قال: فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1 – 3]، التي لبس فيها ذلك الرجلُ السلاحَ في سبيلِ اللهِ ألفَ شهرٍ))؛ [البيهقي في السنن الكبرى]، ومن تجليات المعنى ننقل عن ابن جريرٍ رحمه الله تعالى قوله: "العمل في ليلة القدر بما يرضي الله خير منَ العمل في غيرها ألف شهر، وبلغني عن مجاهد: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾، قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر، وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر".

 

ومن بيان الخيرية لهذه الليلة في بركات زمانها أنها تزيد في الخير عن ألف شهر ما ذكره القرطبي رحمه الله تعالى في الجامع: "وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر، وقال أبو العالية: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾: لا تكون فيه ليلة القدر، وقيل: عنى بألف شهر جميع الدهر؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء؛ كما قال تعالى: ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [البقرة: 96]؛ يعني: جميع الدهر، وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدًا حتى يعبد الله ألف شهر؛ ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عبادة ليلة خيرًا من ألف شهر كانوا يعبدونها، وقال أبو بكر الوراق: كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فصار ملكهما ألف شهر؛ فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرًا من ملكهما، وقال ابن مسعود: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر؛ فعجب المسلمون من ذلك؛ فنزلت ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ﴾ [القدر: 1] الآية ﴿ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل الله، ونحوه عن ابن عباس... وقال عليٌّ وعروة: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل فقال: ((عبدوا الله ثمانين سنة لم يعصوا طرفة عين؛ فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون؛ فعجب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عينٍ؛ فقد أنزل الله عليك خيرًا من ذلك ثم قرأ: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]؛ فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعتُ من أثق به يقول: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الأمم قبله، فكأنَّهُ تقاصَرَ أَعْمَارَ أمته ألَّا يبلغوا من العمل مثلما بلغ غيرهم في طول العمر؛ فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرًا من ألف شهر))؛ [الإمام القرطبي].

 

ومن فضائل ليلة القدر أنَّ الملائكة تتنزل بأعدادٍ لا يحدها الحصرُ ولا التَّخيُّلُ؛ قال الله تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، تهبطُ من كل سماءٍ ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها فينزلون إلى الأرض، ويؤمنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر؛ فذلك قوله تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]؛ أي: جبريل عليه السلام... فيسلمون على كل امرئٍ مسلمٍ، وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان ليلة القدر، نزل جبريل في كبكبة من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى))؛ [الجامع، القرطبي].

 

ومن فضائل ليلة القدر أن السلام يعمها من زيغ الشياطين، ولا يلقى المؤمنون فيها إلا المسرة والسلام؛ "قال الضحاك: لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة، وقيل: أي: هي سلام؛ أي: ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة، وكذا قال مجاهد: هي ليلة سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا ولا أذًى، وروي مرفوعًا، وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن، وقيل: يعني: سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها؛ وقال قتادة: ﴿ سَلَامٌ هِيَ ﴾ [القدر: 5]: خير هي، ﴿ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5]؛ أي: إلى مطلع الفجر"؛ [الجامع لأحكام القرآن].

 

تحريها وانتظارها:

ومن أعظم المناشط التعبدية في رمضان تحري ليلة القدر والتماسها في زمانها المرتقب، وعلى خير حال؛ فإن ليلة القدر لم تدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وهو معتكف للتعبد والإخبات في مسجده المبارك؛ وفي ذلك قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((التمسوها في العشر الأواخر – يعني: ليلة القدر - فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي))؛ [صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما]؛ قال الإمام البغوي: "وفي الجملة: أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعًا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذرًا من قيامها"؛ [الإمام البغوي، معالم التنزيل].

 

ومع بداية العشر الأواخر تبدأ رحلة البحث الدؤوب عن هذه الدرة الغالية من الأجور والثواب، فإذا مر منها ثلاثة وأدركه الكسل أو الإعياء، فعليه أن يستعين بالله في السبع البواقي من رمضان، وخصوصًا في الليالي الوترية منها؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تَحَرَّوْا ليلة القدرِ في الوِتْرِ من العشرِ الأواخرِ من رمضانَ))؛ [صحيح البخاري].

 

وعلى سبيل التحديد؛ فقد ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كانَ متحرِّيَها، فليَتحرَّها ليلةَ سبعٍ وعشرينَ))، وقالَ: ((تحرَّوها ليلةَ سَبعٍ وعشرينَ؛ يعني: ليلةَ القدرِ))؛ [أحمد شاكر في مسند أحمد، وقال: إسناده صحيح]، وفي الحديث أيضًا: ((قلتُ لأبيِّ بنِ كعبٍ: إنَّ أخاكَ عبدَالله بنَ مسعودٍ يقولُ: من يقُمِ الحولَ، يُصِب ليلةَ القدرِ، فقالَ: يغفرُ الله لأبي عبدِالرَّحمنِ، لقد علِمَ أنَّها في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، وأنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرينَ، ولكنَّهُ أرادَ ألَّا يتَّكِلَ النَّاسُ، ثمَّ حلَفَ لا يستثني أنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرين، قالَ: قلتُ لهُ: بأيِّ شيءٍ تقولُ ذلكَ يا أبا المنذرِ؟ قالَ: بالآيةِ الَّتي أخبرنا رسولُ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ، أو بالعلامةِ أنَّ الشَّمسَ تطلعُ يومَئذٍ لا شعاعَ لها))؛ [الألباني في صحيح الترمذي عن أبي بن كعبٍ رضي الله تعالى عنه، وقال: حسنٌ صحيحٌ].

 

أيها المسلمون، وقد تُرفع ليلة القدر ويضيع الثواب والأجر لشدة التنابذ والتلاحي والشقاق بين المسلمين؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: ((اعتكَف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَشْرَ الأوسطَ مِن رمضانَ وهو يلتمس ليلةَ القدرِ، ثمَّ أمَر بالبناءِ فنُقِض، ثمَّ أُبِينَت له في العَشْرِ الأواخرِ، فأمَر به، فأُعيد، فخرَج إلينا، فقال: إنَّها أُبينَت لي ليلةُ القدرِ، وإنِّي خرَجْتُ لأُبينَها لكم، فتلاحى رجلانِ، فنُسِّيتُها؛ فالتمِسوها في التَّاسعةِ والسَّابعةِ والخامسةِ، قُلْتُ: يا أبا سعيدٍ، إنَّكم أعلمُ بالعددِ منَّا، فأيُّ ليلةٍ التَّاسعةُ والسَّابعةُ والخامسةُ؟ قال: إذا كان ليلةُ واحدٍ وعشرينَ، ثمَّ دَعْ ليلةً، ثمَّ الَّتي تليها هي السَّابعةُ، ثمَّ دَعْ ليلةً والَّتي تليها هي الخامسةُ، قال الجُريريُّ: وحدَّثني أبو العلاءِ عن مُطرِّفٍ أنَّه سمِع معاويةَ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: والثَّالثةِ))؛ [صحيح ابن حبان].

 

وقد حدد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أماراتها حتى نعرفها؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليلةُ القَدرِ في العشر البواقي، من قامهنَّ ابتغاءَ حِسبَتِهنَّ، فإن اللهَ تبارك وتعالى يغفِرُ له ما تقدَّمَ مِن ذنبه وما تأخَّر، وهي ليلةُ وترٍ؛ تسعٌ، أو سبع، أو خامسة، أو ثالثة، أو آخر ليلة))، وقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أمارة ليلةِ القدر أنها صافيةٌ بلجةٌ كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ضاحيةً لا بَرْدَ فيها ولا حَرَّ، ولا يحلُّ لكوكبٍ "أن" يُرمى به فيها حتى يصبِحَ، وإن أمارتَها أن الشمس صبيحتَها تخرج مستويةً، ليس لها شعاعٌ مثل القمَرِ البَدرِ، لا يحِلُّ للشيطانِ أن يخرُجَ معها يومئذٍ))؛ [الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رجاله ثقات].

 

وإذا رزق المؤمن منحة ليلة القدر وأدركها، فدعاؤه الذي يلهج به على الدوام هو ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إن علمْتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القَدْرِ، ما أقولُ فيها؟ قال: قولي: اللهمَّ إنَّك عفوٌّ كريمٌ تحِبُّ العَفوَ فاعْفُ عنِّي))؛ [سنن الترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ]، ولو تأمَّلت أخي في جواب النبي، تَجد أنَّ هذه الكلمات تجمع للإنسان خيري الدُّنيا والآخرة؛ بأنْ يَسْلَمَ من البلاء في الدُّنيا، ومن العذاب في الآخرة، فإذا عُوفي الإنسانُ في دُنياه وآخرته، كان مآله إلى الجنة ولا بُدَّ، فبالعافية تندفع عنك الأسقام، ويَقيك الله شرها، ويَرفعها عنك إن وقعت بك، وبالعافية يقيك الله شَرَّ ما لم ينزل من البلاء، وتستشعر نعمةَ الله عليك، وقد علَّمنا النبي أنْ نقول عند رُؤية المبتلى - سواء في دينه أم في بدنه وأهله وماله: ((الحمدُ لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا))، وبيَّن لنا أنَّها بمثابة الْمَصْل الواقي من طروء مثل هذا البلاء، فمن قالَها عند أهل البلاء، لم يصبه ذلك البلاء، وقد ثَبَتَ عن النبي أنَّه كان يسأل ربَّه العفو والعافية، والستر والأمن والحفظ في كل يوم وليلة؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الكلمات إذا أصبحَ وإذا أمسى: اللهم إنِّي أسألك العافية في الدُّنيا والآخرة، اللهم إنِّي أسألك العفو والعافية في ديني ودُنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك من أنْ أغتال من تحتي))؛ [الأدب المفرد]، ((وأتى النبيَّ رجلٌ، فقال: يا رسول الله، أيُّ الدعاء أفضل؟ قال: سَلِ الله العفو والعافية في الدُّنيا والآخرة، ثم أتاه الغد، فقال: يا نَبِيَّ الله، أيُّ الدعاء أفضل؟ قال: سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فإذا أُعطيت العافية في الدنيا والآخرة، فقد أفلحت))؛ [قال الشيخ الألباني: صحيح].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

أيها المسلمون، وقد شرع لكم نبيكم في نهايةِ شهركم هذا صدقةَ الفطر؛ قال عبدالله بن عمر: "فرض رسول الله زكاةَ الفطر... صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير... على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والصغير والكبير من المسلمين... فرضها رسولُ الله على جميع المسلمين على اختلاف طبقاتِهم، وعلى اختلافِ أعمارهم... وفرضها على من وجد صاعًا زائدًا عن قُوتِ يومه وليلته يومَ العيد، فإن من لم يجِد شيئًا، فإنَّ الله لا يكلف نفسًا إلا وسعَها... ويؤدِّيها الإنسان عن نفسه، وعمَّن تلزمه نفقتُه من زوجة وولد وخادم".

 

إخوة الإسلام، ولهذه الصدقة حِكمة، فهي شكرٌ لله على نعمته بإتمام الصيام والقيام، وهي أيضًا طُهرة للصائم عما عسى أن يكون قد حصل منه من لغو أو رفث، وهي أيضًا طُعمة للمساكين لكي يغنيَهم ذلك عن السؤال في يوم العيد، فيكون العيد عيدًا للجميع؛ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "فرض رسول الله زكاةَ الفطر؛ طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة، فهي زكاةٌ مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات".

 

أيها المسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم فرضها صاعًا من تمر أو صاعًا من طعام، وكان طعامُهم يومئذٍ ما بين التمر والشعير والأقط والزبيب؛ كما قال أبو سعيد رضي الله عنه: "وكان طعامنا الأقط والزبيب والتمر والشعير"، وقد جوز الإمام أبو حنيفة إخراج القيمة، إذا كانت أنفع للفقير، وهذه الصدقةُ من المستحب فيها أن تخرجَ يومَ العيد قبل الصلاة؛ قال عبدالله بن عمر: "أمر النبي أن تؤدَّى زكاة الفطر قبل الصلاة، ويجوز أن تخرجَ قبل العيد بأيام، ولا يجوز التهاونُ والاستخفاف بها لأنها زكاة مفروضة.

 

أيها المسلمون، تقبل الله منا ومنكم الصلاة والصيام والقيام، وأعاد الله علينا وعليكم الأيام بالخير وصالح الأعمال، فاللهم تقبل صلاتنا وصيامنا وقيامنا، واجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم، اللهم اجعل شهر رمضان شاهدًا لنا لا شاهدًا علينا، واجعلنا فيه من المقبولين.

الدعاء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق