الدكتور حميد النجدي
الإهداء
إلى عين الحياة، وأمل المؤمنين ...
وقبلة عيون قلوبهم ، وحياة أرواحهم ...
وصلة الشوق بينهم وبين محبوبهم الأعظم ...
سفينة نجاة الأمّة ، وكاشف الغمّة ...
السبيل الأقوم ، والدليل الأعظم إلى ذي الجلال الأكرم ...
أهدي بضاعتي المزجاة هذه.
حميد النجدي
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل القرآن خاتمة رسالاته على سيّد الخلق
محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاتم رسله، والصلاة والسلام
على المبعوث رحمة للعالمين حبيب الحق والرسول بالصدق محمّد وعلى الطيبين
من آله وصحبه، وعلى من سار بهديه إلى قيام يوم الدين.
القرآن الكريم المعجزة الخالدة لنبينا محمّد (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) مصدّق لما بين يديه من الكتب السماوية التي أنزلها الله سبحانه
وتعالى على رسله، إلاّ أنّ تلك الكتب المقدّسة لم يبق بأيدينا منها شيء لم
تنله يد التحريف والزيادة والنقصان بسبب تدخل أهواء البشر ورغباتهم.
والكتاب الوحيد الذي لم تنله يد التحريف هو القرآن الكريم،
فرغم تعدد الفرق الإسلامية واختلافها فيما بينها في شتى المسائل الفقهية
والعقائدية إلاّ أنّها لم تختلف في النصّ الشريف من التنزيل المحفوظ من قبل
الله تعالى.
فلا أحد من هذه الفرق يقول بزيادة حركة أو كلمة فضلاً عن آية
ولا نقيصة ذلك، فالقرآن جامع لهذه الأمّة وموحّد لقلوبها سنّيها وشيعيّها،
كما أنّ الكعبة قبلة المسلمين توحّد وجهتهم في الصلاة وتجمعهم في الحج في
زمان واحد ومكان واحد، فذلك القرآن الكريم، فهو حافظ لوحدة هذه الأمّة
ومحفوظ من التغيير والتحريف، وحفظ القرآن من بين كل كتب العالم من الضياع
والتحريف بهذا الشكل الفريد هو بحدّ ذاته معجزة باهرة، حيث خرق القرآن
العادة التي رأى الناس عليها كل الكتب سواء منها السماوية أم الترابية
بكونه محفوظاً.
وهذه الظاهرة في كون القرآن محفوظاً من التحريف لا لكونه كلام
الله عزّ وجلّ، لأنّه لو كان الحفظ لهذا السبب لحفظت بقيّة كتب الله
سبحانه، لكنّه حفظ لأنّ الله تعالى تكفل بحفظه فقال تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}([1])
ثمّ إنّه لو فرض أنّه لم تنزل مثل هذه الآية الكريمة، فإنّ
القرآن الكريم لابدّ أن يُحفظ لأنّه خاتمة الرسالات، لأنّ الرسالات السابقة
كلّما حدث التغيير والتبديل في رسالة منها جاءت الرسالة التي تليها مصححة
لما حدث من التحريف، أمّا إذا كانت الرسالة خاتمة الرسالات فلا رسالة بعدها
تصحح الانحراف لو حدث، فلزم حفظ الرسالات الخاتمة لكونها خاتمة، وبحفظ
القرآن الكريم حفظت كل الرسالات السابقة، فالقرآن مصدّق لما بين يديه.
وبهذا الحفظ للقرآن وصل إلينا كما أُنزل على نبينا محمّد
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكان معظم المسلمين يقرأون بعض الآيات ولا
يدركون ما ندركه نحن الآن من معاني الآيات الكريمة وما تتضمنه من محتوى،
وإلا كيف كان يدرك المسلم قولـه تعالى:
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}([2])
إذا كان معنى التسجير هو اشعال النار، تقول سجّرت التنور أي
أشعلته ناراً، أو بمعنى امتلأت البحار ناراً فكيف يدرك العربي آنذاك أنّ
البحر يشتعل، والذي يدركه بفطرته أنّ الماء يطفئ النار، لا أنّ الماء يشتعل
ناراً، إلاّ أنّنا الآن ندرك أنّ الماء مركب من عنصرين هما الأوكسجين
والهيدروجين والأوّل يساعد على الاشتعال والثاني يشتعل وباتحداهما تتكون
شعلة أوكسهيدروجينية تذيب الحديد من حرارتها، كان المسلم آنذاك يسلّم بما
أُنزل لأنّه من عند الله تعالى، وهناك آيات كثيرة من هذا القبيل.
ثمّ إنّ القرآن كتاب هداية، ودستور للأمّة الإسلامية يضم بين
دفتيه القوانين الإلهية التي يجب أن تسير عليها الأمّة وليس كتاباً
كيمياوياً أو فيزياوياً، أمّا ما جاء فيه من إشارات علمية، فإنّما جاءت
بطريقة عرضية ثانوية، وجاءت بطريقة ضرب الأمثال أو ما شاكل ذلك من الأمور،
ولأنّه من عند الله سبحانه فلابدّ أن يكون صادقاً صدقاً مطلقاً سواء في
أمثلته أو في أساليبه أو تشبيهاته أو بيانه.
فهو قول الحقّ والفيصل الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، ووسطه كطرفيه في الإعجاز والبلاغة والنظم والبيان لا
تفاوت فيه ولا اختلاف:
{...وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}([3])
والمنهج فيما جاء في هذه الأوراق من شرح لبعض مفردات الآيات
الكريمة وبعض معانيها قسم منها من باب الاحتمال لا القطع لانّ القرآن
الكريم لا يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون بالعلم، ولا نريد أن نحمّل
الآية أكثر مما يقتضيه ظاهرها وسياقها، وإنّما أوردناه مجرّد احتمال يحمله
ظاهر الآية الكريمة، وإلاّ فالله تعالى أعلم بمراده.
ثم إن هناك نظريات علميّة لم يقطع بها العلم فلا يصح حمل
الآيات الكريمة عليها بشكل قاطع، أمّا ما قطع العلم بصحته واحتمله ظاهر
الآية الكريمة، ولم يأت بتفسيره نصٌّ شريف من السنة المطّهرة، فلا باس بحمل
الآية على ما قطع به العلم الحديث.
ثم إنّ المنهج في أغلب هذه الآيات الكريمة التي تشير إلى قضايا علمية كشفها العلم الحديث يثبت عدة أُمور:
منها: أنّ القرآن الكريم خالٍ خلوّاً مطلقاً
من ذكر أيّ قضيّة تخالف ما توصلت إليه العلوم الحديثة رغم كثرة الإشارات
العلمية التي تتحدث عن السماء والأرض والجبال والبحار وغيرها من الأمور.
ومنها: أنّ القرآن الكريم سبق الكشوفات
العلمية الحديثة بذكر حقائق علميّة مقطوعة الصحّة لم يتعرّف عليها الإنسان
إلا بعد قرون من نزول القرآن الكريم، وهذا ما نقصد به من الإعجاز العلمي في
القرآن الكريم.
ومنها: أنّ أيّ كتاب أرضي يُؤلّف فإنّه مع
تقدم العلوم ونضج الفكر الإنساني يوماً فيوماً وقرناً فقرناً فانّ الإنسان
يكتشف أخطاءه في كثير مما كان يعتقد من نظرته نحو الظواهر الكونية
وتفسيرها، ومع تقدم الكشف العلمي تنكشف تلك الأخطاء وتُرسى الحقائق العلمية
بشكل تدريجي واضح يشكل ظاهرة وسنة في مسيرة الإنسان وكذلك كلّ ما كتبه
الإنسان في حياته على مدى القرون التي عاشها على هذا الكوكب فإنّه مع تقدّم
العلوم يكتشف أخطاءه فيما كتب وهذه ظاهرة لا شكّ فيها.
وقد خرق القرآن الكريم هذه السنّة بثباته في صحة المعلومات
التي احتواها في شتى المجالات التشريعية والعلمية واللغوية والبلاغية
ومفهوم العدالة والتوزيع وقضايا العقيدة ونظرة الإنسان عن الكون والحياة
وغير ذلك من أُمور الدنيا والآخرة، رغم تنوع البحوث القرآنية فإنّها جاءت
صادقة صدقاً مطلقاً وخرقت العادة في خلوها من الخطأ بشكل مطلق خلافاً لكل
الكتب التي كتبها الإنسان ولكل الأفكار والمعتقدات التي يعتقدها الإنسان
وهذا أمر معجز بحدّ ذاته أشار إليه قولـه تعالى:
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}([4])
لكنّه من عند الله، إذن فلا اختلاف فيه، ولا تعارض في آياته
وبيّناته وعلومه، وبلاغته وبيانه، واسلوبه وحكمته، وما وضعه من دساتير لخير
البشر في الدنيا والآخرة.
ومنها: أنّ القرآن مستمر في بيان الآيات
وغير متوقّف عن هذه العملية الكاشفة، فكلّما تقدمّت العلوم وتدبّرنا الآيات
الكريمة وجدنا الآيات قد سبقت العلوم إلى ما توصلت إليه، وهذا ما تشير
إليه الآية الكريمة:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}([5]).
فالسين في قولـه تعالى: {سنريهم}
لا شكّ أن يقرأها جيل عصر التنزيل الشريف ومن يليهم ومن يليهم، ونقرأها
نحن ومن يلينا والجميع يقرأها للمستقبل والكل مرّوا بهذه الظاهرة، ظاهرة
الكشف عن معلومات لم تكن مكتشفة لعامة الناس في زمانهم، وهذا إعجاز آخر
يقطع به المتدبر لآيات القرآن الكريم.
فالقرآن ثابت الصدق فيما ذكره من الحقائق العلمية، سابق لما اكتشفه البشر، خالٍ من كل خطأ علمي.
ومع كلّ هذا فما هذا الجهد إلاّ محاولة في سبيل كشف المنهج
الذي يسلكه القرآن الكريم في الاستدلال على اعجازه بنفسه وعلى صدقه المطلق
وأنّه من عند الله عزّ وجلّ:
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ
يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ
كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ
مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}([6])
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ
وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}([7])
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}([8])
اللهمّ هذا هو الحق من عندك أسلمت إليك لا إله إلاّ أنت نسألك
أن تثبتنا على ذلك في الحياة الدنيا والآخرة وأن تنوّر قلوبنا بالقرآن
وتوفقنا لنعلمه ولنعمل به، ونسألك أن توقض أُمّتنا من غفلتها عن هذا القرآن
حيث استدبرته متجهة إلى أعدائها يرجون منهم الخير وليس فيهم إلاّ الخسران
المبين.
اللهمّ تقبّل منّي هذا القليل من الجهد واجعله خالصاً لوجهك
الكريم وانفعني به واجعله ثقيلاً في ميزاني وانفع به المسلمين، وتجاوز عن
خطأي فيه وفي غيره بمحمد وآله الطيبين الطاهرين صلواتك عليهم أجمعين.
وأسأل إخواني المؤمنين أن يوجهوني إلى ما بدر مني من زلل في هذه الأوراق والحمد لله ربّ العالمين.
حميد النجدي
27/ذي القعدة/1427هـ ـ 19/ديسمبر/2006م
البيئة التي نزل بها القرآن الكريم، وهي بيئة شبه جزيرة
العرب، كانت في قمّة التخلف العلمي والديني والحضاري، والسياسي، فجاء
القرآن يحمل مبادئ وأفكاراً فاقت كل تلك الأفكار المطروحة، وظل يتحدى حتّى
العصر الحاضر كل الاطروحات الأرضية في كل جوانبها.
القرآن الكريم معجزة رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) الكبرى، ولأن الإسلام خاتمة الرسالات، فلا رسالة بعد الإسلام، فلا
بد من نبي خاتم، وهذا يعني أنّ الإسلام يسدّ حاجة البشرية بمختلف مجالات
الحياة حتّى قيام الساعة، والأنبياء والرسل السابقين كانت معجزاتهم محدَّدة
بأوقاتهم، وذلك لوجود أنبياء يلحقونهم، يؤيدونهم ويؤكدون صحة تلك
المعجزات.
أمّا بالنسبة للنبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّ
رسالته خاتمة فلا بدَّ من معجزةٍ دائمة مستمرة لكل زمان ومكان تتحدى على
مرّ العصور. ولذلك جاء القرآن المعجزة الخالدة وتكفل الله سبحانه بحفظ
القرآن، لا لأنّه كلامه سبحانه، وإنّما لأنّ الله تعالى تعهد بحفظه.
وإعجاز القرآن لم يقتصر على الإعجاز البلاغي، بل هناك أقسام
أُخرى من الاعجاز كالإعجاز بالإخبار بالمغيّبات، والاعجاز التشريعي
الشمولي، والإعجاز العددي، ومنها الإعجاز العلمي موضوع البحث.
والإعجاز العلمي في القرآن الكريم ليس لأنّ القرآن ذكر حقائق
علميّة سبق بها الكشوفات الحديثة فحسب، وإنّما مجرد خلو القرآن من أي خطأ
علمي أو غيره يدل على إعجازه، لأنّه نزل في زمن يختلف كثيراً من الناحية
الثقافية والعلمية بمختلف جوانب الحياة.
حيث كان المجتمع الإنساني في ذلك الوقت متأخراً كثيراً علميّاً عمّا عليه الآن.
مما يدلل أنّ هذا القرآن يستحيل أن يكون من وضع البشر، بل لا
بدّ من التفتيش عن سبب لـه خارج عن البشرية ومحتواها الفكري، وخارج عن
طاقات المخلوقين وسأتناول في هذا البحث الموجز بعض الموضوعات العلمية التي
سبق القرآن الكريم العلم الحديث بالإشارة إليها وهي في هذا الفصل:
1- تحديد جنس الجنين ذكراً أم أُنثى.
2- التغذية الصحية «الاعتدال في الطعام والشراب».
3- تحريم لحم الخنزير ومضار تناول لحمه.
كان السائد في أذهان الناس على عهد قريب، أنّ المرأة بتركيبها
البيولوجي وبما ترثه من خصائص وراثية عن طريق الكروموسومات، لـه دخل في
تحديد نوع الجنين ذكراً أم أُنثى، وكثيراً ما طلَّق بعض الرجال أزواجهم،
لأنّهن يُنجبن إناثاً ولا ينجبن الذكور، إلاّ أنّ المرأة وما تحمله من
الجينات في البويضة ليس لها أي دخل في تحديد نوع الجنين، لأنّ البيضة
الملقَّحة التي تكوّن منها الجنين، تحتوي 22 زوجاً من الصبغيات الجسمية مع
زوج من الصبغيات الجنسية، وكان تكوّن هذه الصبغيات من اجتماع بويضة الأنثى
التي تحوي دائماً «22 صبغيّاً جسميّاً + الصبغي الجنسي X » ومن نطفة الرجل التي تحوي «22 صبغيّاً جسميّاً + الصبغي الجنسي إما X أو Y» والمجموع بعد التلقيح 46 صبغيّاً لأنّ نصف نطاف الرجل تحوي الصبغي X ونصفها يحوي الصبغيY في حين أن بويضة المرأة تحمل الصبغي الجنسي X فقط، فإذا اتحدت البيضة من نطفة الرجل الحاوية على الصبغي الجنسي X كان الجنين أُنثى، واذا اتحدت مع نطفة الرجل الحاوية على الصبغي Y كان الجنين ذكراً, حسب المعادلة التالية:
نطفة «Y» + بويضة «X» = «YX» ذكر.
نطفة «X» + بويضة «X» = «XX» أُنثى.
وهذا يعني أنّ نطاف الرجل هي التي يتم عن طريقها تحديد نوعية
الجنس لأنّها تحمل الصبغيات المتفاوتة في حين أنّ بويضة المرأة غير مسؤولة
عن تحديد الجنس، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة قبل أكثر من أربعة
عشر قرناً وفي عدة آيات كريمة منها قولـه تعالى:
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى* مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}([9])
وقال تعالى:
{أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ
يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ
عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالأُنْثَى}([10])
فضمير الغائب في قولـه تعالى {منه}
يعود إمّا إلى مني الإنسان أو إلى الإنسان، وفي كلا الحالتين فجعل الزوجين
الذكر والأنثى من الذكر لا من الأنثى، ولم تذكر الأنثى إطلاقاً، كما أنّ
قولـه: {ألم يك نطفة من منيّ يمنى}
هو الإنسان سواء كان ذكراً أم أُنثى، فهو نطفة من مني، أي أنّه بعض المني
وليس كله وهذا البعض محدد بالنطفة وإنّ هذه النطفة من المني الذي هو ماء
الرجل وليس الأنثى، فجنس الجنين من نطفة الرجل.
ويصرّح القرآن الكريم بهذه الحقيقة في آية أُخرى وبأسلوب جديد فيقول الله تعالى:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ...}([11])
وهنا شبَّه القرآن الكريم المرأة بالأرض الصالحة للزراعة،
فالأرض تعطيك من المحاصيل الزراعية محصولاً يتناسب مع البذور التي تبذرها
فيها، ومع الشروط المتوفرة للإنبات.
فالذي يبذر قمحاً يحصد قمحاً والذي يبذر شعيراً يحصد شعيراً، وليس للأرض دخل في تحديد أي نوع من أنواع النبات.
فكذلك المرأة ليس لها دخل في تحديد جنس الجنين بل هي كما وصفها القرآن {حرث} فهي وعاء حامل للنطفة.
الطعام نعمة من نعم الله تعالى على الإنسان، والتلذّذ بالطعام
نعمة أُخرى، حيث يوجد في الإنسان ميل وغريزة للطعام، ولذة التمتع بأكل
الطعام تنبه العصارات الهاضمة، فتنشط.
وليس الهدف من الطعام التلذذ، بل جعلت اللذة غاية لهدف أسمى
وهو نمو الإنسان والحفاظ على مسيرته الحياتية، أما مجرد اللذة، فقد يتصور
ذلك عند الحيوان، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى الكافرين بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}([12])
فشبَّه الله تعالى أكل الكفار بأكل الأنعام، فماذا نستفيد من
هذا التشبيه؟ نستفيد منه أُموراً كثيرة وقبل بيانها لا بدَّ أن نعرف معنى
الأنعام.
فالأنعام: جمع نَعَمٌ «وهي المال الراعية، قال ابن سيده:
النَّعَمُ: الإبل والشاءُ.. وقال ابن الاعرابي: النَّعَمُ: الإبل خاصة،
والأنعام: الإبلُ والبقر والغنم» لسان العرب مادة نعم، والظاهر أن معنى
الأنعام يقصد بها الإبل والبقر والغنم بدليل قولـه تعالى:
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}([13])
والناس يأخذون الحليب من هذه الثلاثة.
وبعد أن عرفنا معنى الأنعام والمراد بها، إذن ما هي صفاتها في
الأكل؟ لا شكّ أن هذه الأنعام تأكل لأجل اللذة في الأكل، لأجل السمنة،
لأجل الحليب، لأجل لحومها، ولا غاية سامية وراء ذلك، وهي لا شك تكثر من
الأكل، فالآية الكريمة عندما شبهت أكل الكفار بأكل الأنعام، فأبرز صفة
بالأنعام في الأكل هي كثرة الأكل، والتلذذ به، والنتيجة الطبيعية وراء ذلك
هي السمنة.
والآية لا تريد من المؤمنين أن يتصفوا بهذه الصفات، أي لا
تريد منهم كثرة الأكل، ولا أن تكون النتيجة السمنة «المرض الخطير» وهي أشهر
أمراض العصر، والتي يترتب عليها أمراض كثيرة وخطيرة، والدليل على أنّ الله
تعالى لا يرضى للمؤمنين ذلك قولـه تعالى:
{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}([14])
والاسراف الكثرة في كل شيء، وهنا نهي عن الكثرة في الأكل ونهي
عن الكثرة في الشرب، وأنّ الله تعالى لا يحب المسرفين في الأكل والشرب،
فماذا يترتب على الإسراف من الناحية الصحية؟
للإجابة على هذا السؤال لا بدّ من بيان حاجة الجسم من الغذاء،
فالجسم يحتاج لكل كيلو غرام واحد من وزنه، سعرة حرارية واحدة «كالوري» في
الساعة الواحدة، والسعرة الحرارية هي: الطاقة اللازمة لرفع درجة حرارة كيلو
غرام واحد من الماء درجة مئوية واحدة، وهي وحدة قياسية تقاس بها كمية
الطاقة الحرارية التي يحررها الغذاء عند احتراقه في الجسم.
وكيفية قياس السعرات الحرارية التي يحررها الغذاء تتم بطريقتين:
1- التحليل: ويحلل فيها الطعام كيمياوياً، وتحسب الطاقة بحسب محتوياته.
2- الطريقة المسماة Bomb Caloreter ،
وتستعمل هذه الطريقة في قياس الحرارة الكامنة في الغذاء وذلك بجهاز خاص
مكون من اسطوانة توضع فيها المواد الغذائية الموزونة، والمزودة بالاوكسجين،
وتحيط بهذه الاسطوانة أُخرى أكبر وتحتوي على الماء، وتحرق المواد الغذائية
بواسطة تيار كهربائي فترتفع درجة حرارة الماء، ومقدار حرارة الماء
المرتفعة هي كمية الطاقة التي تحتويها الأغذية.
وهذا يعني أنّ الجسم الذي وزنه «60» كغم يحتاج لأجل النمو
الطبيعي والفاعليات الداخلية إلى 60× 24= 1440 سعرة حرارية في اليوم، فإذا
ما تحرك الجسم وقام بأعمال أُخرى من مشي وقيام وقعود ورفع أثقال، فحينئذ
تتزايد حاجة الجسم للسعرات الحرارية، يعني تزداد حاجته للغذاء حتّى تصل ما
يقارب «4800» وحدة حرارية في اليوم، حسب الجهد المبذول، ومساحة الجسم
السطحية ووزنه، والعمر والجنس، والموسم والمناخ، كل هذه العوامل تؤثر في
حاجة الجسم للغذاء.
وعناصر الغذاء التي يتكون منها هي: البروتينات، والكاربوهيدرات، والدهنيات، والفيتامينات، والمعادن، والماء.
والفرد المتوسط البالغ يحتاج إلى حوالي غرام واحد لكل كيلو
غرام من وزنه في اليوم الواحد، وتتزايد الحاجة تبعاً للعوامل السابقة،
والغرام الواحد من البروتين يعطي أربع سعرات حرارية، فيأخذ الجسم حاجته من
البروتين، الذي يشترك في تركيب الخلية الحيوانية، والزائد يطرحه الجسم على
شكل فضلات، أمّا الكاربوهيدرات، فيحرر كل غرام منها «1، 4» سعرة حرارية،
والجسم يأخذ حاجته من الكاربوهيدرات والزائد يخزن بعد تحويله إلى شحوم في
أنحاء الجسم المختلفة وتحت الجلد، والزيادة في تناول هذه المواد تسبب،
السمنة المفرطة التي تؤثر على الصحة وتساعد على الاصابة بأمراض مختلفة.
أمّا الدهنيات، فيحرر الغرام الواحد منها «3، 9» سعرة حرارية،
فيأخذ الجسم حاجته منها، والباقي يخزن تحت الجلد على شكل شحوم مسببة
السمنة أيضاً.
أمّا الفيتامينات وهي مركبات عضوية لا حياة فيها، تصنع من قبل
الاحياء «نباتات وحيوانات» وتقوم ببناء الأنسجة وتزود الطاقة ويسبب
فقدانها في الجسم أمراضاً كثيرة.
ويحتاج الجسم المعادن مثل الكالسيوم والفسفور والحديد والنحاس
واليود وهذه المعادن تلعب دوراً مهماً في حياة الإنسان وصحته وخاصة
المنغنيز والكبريت والفلور والخارصين والبوتاسيوم والصوديوم، ويستخدمها
الجسم لبناء الأنسجة وفي تركيب الدم. وتنظم المعادن أفعال الجسم الحيوية
كتقلّص وانبساط العضلات وعمل الجهاز العصبي، وعملية الضغط التنافذي بين
الخلايا.
أمّا الماء فهو من العناصر الغذائية الضرورية للجسم فهو يقوم
بتنظيم الأفعال الحيوية في الجسم وتكون نسبته من 65-75% من الجسم وتتوقف
حاجة الجسم إلى الماء على الطقس، ففي المناطق الحارة تزداد الحاجة للماء،
ويفرز الجسم منه يومياً كميات كبيرة بواسطة الكلى والرئة والأمعاء والجلد
وتترواح هذه النسبة من 2000- 3000 غرام يومياً ولذا يحتاج إلى سد هذا النقص
بما يتناولـه من المشروبات والأطعمة.
وبعد أن ألقينا نظرة سريعة على حاجة الجسم من الغذاء، فلا بدّ
أن نعلم أنّ كل زيادة في تناول الغذاء تؤدي بالنتيجة إلى السمنة التي
تساعد على الاصابة بأمراض كثيرة، ولذلك نهى القرآن الكريم عن الكثرة في
تناول المأكولات والمشروبات بقولـه تعالى:
{...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}([15])
فمقدمة الآية أمر بتناول الطعام والشراب لأنّه ضروري
لاستمرارية الحياة، إلاّ أنّه عقب هذا الأمر ينهى عن الاسراف في تناول
الطعام والشراب، ففي الآية أمر ونهي وكل من هذا الأمر والنهي ضروري
لاستمرارية الحياة بشكل صحي سليم بعيداً عن نقص التغذية وبعيداً عن السمنة
المفرطة وأمراضها.
فانظر إلى هذا الايجاز البليغ وانظر إلى هذه الفوائد العظيمة
المترتبة على هذا الإيجاز، واذا علمنا ما يترتب على الاسراف من تناول
الطعام والشراب، اتضح لنا لِمَ شبّهت الآية الكريمة أكل الكفار بأكل
الأنعام، وما يترتب على ذلك من الأضرار، وأيضاً صورة تشبيهية تنفّر المؤمن
من التشبه بالكفار والحيوانات، وتنفره من الاكثار من تناول الأطعمة
والاشربة.
وجاءت السنة المطهرة في أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) مفسّرة وشارحة لمضامين الآية الكريمة
ومبيّنة الفوائد البدنية والنفسية التي يجتنيها الإنسان من الاعتدال في
تناول الطعام والشراب.
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ما ملأ ابن آدم وعاءً شرّاً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وإن كان لا بدّ فاعلاً، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» (تنفسه).
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإنّ القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء» وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفضلكم منزلة عند الله أطولكم جوعاً وتفكراً، وأبغضكم إلى الله تعالى كل نؤوم أكول شروب».
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنّ أبغض الناس إلى الله المتخوم الملآن».
وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام): «إنّ البطن ليطغى من أكلة وأقرب ما يكون العبد من الله إذا خفّ بطنه، وأبغض ما يكون العبد إلى الله إذا امتلأ بطنه».
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ليس لابن آدم
بدٌّ من أكلة يقيم بها صلبه، فإذا أكل أحدكم طعاماً، ليجعل ثلث بطنه
للطعام، وثلث بطنه للشراب، وثلثه للنفس، ولا تسمنوا تسمن الخنازير للذبح».
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ما من شيء أضرّ لقلب المؤمن من كثرة الأكل».
وبالنظر لهذه الأحاديث الشريفة التي تبيّن أن المعدة بيت
الداء والحمية رأس الدواء، توضح أنّ أخذ حاجة الجسم من الطعام، والامتناع
عن الزيادة، توجب صحة البدن ودفع الأمراض، والكسل والنوم، والاعتدال في
الأكل والشرب يوجب صفاء القلب ورقته، وتذكُّر جوع الفقراء، والانكسار
المانع من الطغيان وكسر الشهوات، والابتهاج بذكر الله تعالى.
«يعيش في جسم الخنزير أكثر من عشرين نوعاً من الطفيليات وكثير
من هذه الطفيليات تصيب الانسان فهي داخلة في المصطلح الحديث زونوس أو
الأمراض الحيوانية البشرية».
ورد تحريم لحم الخنزير في أربعة مواضع من القرآن الكريم وهي قولـه تعالى:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}([16])
وقوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}([17])
وقوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا
عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([18])
وقوله تعالى:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ}([19])
في الآية الثالثة بعدما ذكر المحرمات اتبعها بكلمة {فإنه رجس} وهذا يشمل لحم الخنزير فما معنى {رجس}
في اللغة؟ ذكر صاحب «لسان العرب» معاني عدة لهذه الكلمة منها: الرجس:
القَذَرُ، وقيل: الشيء القذر... وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح
والعذاب واللعنة والكفر «لسان العرب مادة رجس».
ولعل كلمة {رجس}
اقترنت مع الخنزير لاقتران الخنزير بالقذارة حيث أنّه يأكل ما يجده من
القمامة والنفايات وفضلات الإنسان والحيوان، حيث يكاد لا يرى إلا وأنفه في
الرغام.
ولم تقتصر هذه الصور عن الخنزير على المسلمين، بل إنّ
الاوربيين والامريكان رغم رواج تجارة تربية الخنازير ورغم اهتمامهم به ومع
ذلك فاسماؤه على اختلاف لغاتهم تعد سبَّة لا يقذفون بها إلاّ كل رذيل.
يعيش في جسم الخنزير أكثر من عشرين نوعاً من الطفيليات، وكثير
من هذه الطفيليات نوعي خاص بالخنزير، وبعضها لا يصيب الإنسان، وكثير من
هذه الطفيليات تصيب الانسان، فهي داخلة في المصطلح الحديث زونوس Zoonosis أو الأمراض الحيوانية البشرية.
وفي هذا الصدد يقول كرول «Croll,1961»:
«إنّ الحضر المفروض على المسلمين بعدم ملامسة الخنازير ليس من الامور
المفتقرة إلى تبرير» وأهم الطفيليات المشتركة بين الخنازير والإنسان هي:
1- من الفيروسات والبكتريا:
فيروسات مرض الكلب، والحمى الصفراء وسلالات من الانفلونزا، وصور من أنواع العدوى البكتيرية المحتملة.
2- من الترتوزوا «الحيوانات الأولية»:
نوعان من التريبانوسوما، يسبب أحدهما مرض النوم الأفريقي، ويحدث ثانيهما مرض شاجاس في أمريكا الجنوبية.
ويعد الخنزير من العوائل الخازنة الاضافية لطفيليات المرضين.
وهناك نوع من الانتاميبا «أي من جنس طفيليات الزحار الأميبـي
في الإنسان» خاص بالخنزير وقد ينتقل أحياناً للإنسان، ولكن أهم هذه
الأوليات الطفيلي الهدبي المسبب للزحار البلنتيدي.
3- من الديدان المفلطحة:
أ- التريماتودا أو الوشائع: فمن وشائع الدم يصاب الخنزير
بديدان البلهارسيا اليابانية، كما أنّ بويضات تلك الديدان تمر مع براز ذلك
الحيوان الرمام، وهذا يساعد على اكمالها دورة حياتها وانتشارها.
وكذلك من وشائع الرئة يصاب الخنزير بوشيعة الرئة المسماة ـ Paragoimus Westeremani والتي تصيب الإنسان في كثير من أنحاء العالم، وعلى الأخص في الشرق الأقصى.
أمّا عن وشائع الكبد والأمعاء فللخنزير منها نصيب غير قليل.
ب – السستودا او الديدان الشريطية: تصيب الخنزير منها نوعان: دودة السمك الشريطية Diphyllobothrium Iatum ويصاب الخنزير كالإنسان، بالطور البالغ منها.
أمّا النوع الثاني: وهو دودة لحم الخنزير الشريطية Solium Tqenia فهذه هي المهمة في البحث.
4- الديدان شوكية الرأس:
منها نوع يسمى Macracanthor phynchus hirudinaceus وهو شائع في الخنزير، وقد يوجد في الإنسان.
5- الديدان الخيطية أو الاسطوانية «النيماتورا»:
يصيب الإنسان والخنزير منها بضعة أنواع، فمنها سلالة من دودة الاسكارس او ثعبان البطن Iumbricoides Ascaris
وتعيش في الخنازير وقد ثبت أخيراً بالدليل القاطع أنها تعدي الإنسان
أيضاً، كما ثبت أن السلالة التي تصيب الإنسان من النوع نفسه تعدي الخنزير،
أي أنّ هذه الحيوانات تساعد على انتشار عدواها «Smyth 1976»، أمّا الديدان السوطية فيعتقد أنّ الذي يصيب الإنسان والخنزير منها نوع واحد Trichuris trichiura، والخنازير تساعد على انتشار هذه الدودة الخيطية حقاً وهي الدودة الشعيرية الحلزونية المعروفة بالتريكينا أو التريكنيلا Trichinella spiralis وسيأتي التفصيل عنها بإذنه تعالى.
6- الحشرات والحلم:
يصلح الخنزير عائلاً لعدد من الطفيليات الخارجية الخاصة
بالإنسان، كأنواع البعوض والبرغوث الشائع في الإنسان، وأنواع من القمل،
وذبابة تسي تسي الناقلة لطفيليات مرض النوم وأنواع من ذباب الجلد، التي
تصيب يرقاناتها الفم والعينين والاذنين والجروح المكشوفة والأنف.
وهناك أنواع من الحلم القريبة من طفيليات الجرب تصيب الخنزير وقد تصيب الإنسان في وجهه وداخل اذنيه.
الطفيلي المسبب لهذا المرض يسمى بالإنتديوم كولاي Balanti- dium coli
وهو النوع الوحيد من الحيوانات الأولية المهدّبة التي تصيب الإنسان ، وهو
من طفيليات الأمعاء الغليظة في الخنازير والقردة وبخاصة الشمبانزي.
إلاّ أنّ فرصة الاتصال بين الانسان والقردة محدودة، فيبقى
المصدر الوحيد لعدوى الإنسان من هذا النوع هو الخنزير وانتشار هذه العدوى
في بقاع كثيرة من العالم بالخصوص من يربّون الخنازير خاصة ألمانيا وفرنسا
والفليبين وفنزويلا.
تعيش هذه الطفيليات في القولون والأعور المعوي، وقد تنتقل إلى
الجزء الأسفل من الأمعاء الدقيقة، وقد تنتشر في الأوعية الدموية واللمفية،
وفي الخنزير لا يحدث الطفيلي أعراضاً مهمة، أمّا في الإنسان فتتحول نسبة
من الحالات إلى حالات مرضية ما بين الاسهال اليسير إلى نوبات من الاسهال
الشديد المتكرر ثم زحار «ديزنتاريا» مزمن.
أمّا الأعراض العامة فهي المغص وفقدان الشهية والدوار والضعف
العام، والهزال. والزحار البلنتيدي يشبه الزحار الأميبـي في عدة نقاط،
فتحدث الطفيليات في نسبة من المصابين آثاراً مرضية شديدة بسبب القروح
العميقة التي تنخرها في أنسجة الأمعاء.
وقد يصبح القولون بأجمعه كتلة من القرح منتهياً بالوفاة أحياناً.
1- وشيعة الأمعاء الكبيرة buski Fasciolopsis:
وهي من الطفيليات التي تعيش ديدانها البالغة في الخنزير وفي
الإنسان، وتصيب الكلاب بشكل نادر، وتبدأ دورة حياتها وتتمها في أنواع معينة
من القواقع والأسماك، والعدوى في الخنازير شائعة جداً في آسيا، من الصين
إلى البنغال وفي كثير من جزائر الهند الشرقية، وفي الصين تبلغ نسبة العدوى
أحياناً 100% في بعض المناطق «Smyth 1978» وتشتد
الأعراض كلما ازداد عدد الديدان وتحدث الديدان التهاباً موضعياً نزفاً
وتقرّحاً في جدار الأمعاء الدقيقة، ونتيجة لذلك تحدث أعراضاً متفاوتة بين
الاضطرابات المعوية والاسهال المزمن والأنيميا، والارتشاح تحت الجلد في
الوجه والرجلين، والاستسقاء وانتفاخ البطن، ونتيجة للاجهاد العام وانحطاط
القوى قد تحدث الوفاة.
2- وشيعة الأمعاء الصغيرة Gastrodi soides hominis:
يصاب بهذه الديدان سكان الهند وفيتنام والفيلبين وبعض مناطق
الاتحاد السوفياتي وتتجاوز الاصابة في بعض المناطق 40% ويعد الخنزير العائل
الرئيسي لهذا الطفيلي، تعيش الديدان في الأمعاء الغليظة والأعور المعوي
مسببة بعض الالتهابات والاسهال.
3- وشيعة الكبد الصينية Chlonorchis sinesis:
وتنتشر هذه الدودة في اليابان وكوريا والصين وتايوان وفيتنام،
ويعد الخنزير أهم خازن لها، تعيش هذه الدودة في القنوات الصفراوية للكبد،
فإذا ازداد عددها سببت تضخماً في الكبد، واسهالاً مزمناً ويرقاناً وأعراضاً
قد تنتهي بالوفاة.
تعيش هذه الدودة في طورها الشريطي البالغ في أمعاء الإنسان،
ويترواح طولها ما بين 2-7 أمتار، ولها رأس أصغر من رأس الدبوس مزود بأربعة
ممصات وبقمته طوق من الأشواك، ويلي الرأس عنق صغير تنمو منه باستمرار قطع
أو اسلات صغار تتباعد عنه تباعاً مكونة ذلك الشريط الذي قد يحوي منها ألف
أسلة، كل منها كأنّه حيوان مستقل حاوٍ على جهاز التناسل الذكري والانثوي..
وببلوغ الأسلة تمتلئ بآلاف البويضات وتصبح كل أسلة عبارة عن كيس مثقل
بالبيض.
وينمو في كل بيضة جنين كروي ذو ستة أشواك، وتنفصل الأسلات من
طرف الشريط خارجة مع براز الإنسان، وتبقى الأسلات في التربة ريثما يأتي
خنزير يلتهم ما في الأرض من قذر وفضلات يبتلع معها الأسلات والبيض، وما أن
تفرز العصارات الهاضمة حتّى تنطلق الأجنّة من بويضاتها شاقة طريقها عبر
جدران الأمعاء إلى الأوعية الدموية واللمفية مستقرة في جسم الخنزير، ونامية
في عضلاته،خاصة في البطن والكتف واللسان والرقبة، تكون هناك مثانات كروية
أو بيضية منتفخة يترواح طولها حوالي 6 مليمتراً، وفي كل مثانة منها رأس
صالح لأن تنمو منه دودة شريطية كاملة.
وتتم دورة هذه الدودة ونموها حينما يأكل الإنسان من لحم
الخنزير، وفي هذه الدورة يكون دور الخنزير دور العائل الوسيط ودور الإنسان
العائل النهائي.
يصاب الإنسان بهذا المرض الخطير عن طريق البيض المصاب
بالديدان المثانية والأجنة المنطلقة من البيض تذهب إلى أي عضو في جسم
الإنسان تقريباً خاصة عضلات الأطراف واللسان والعنق والأضلاع، وتذهب
أحياناً إلى الرئتين والكبد والقلب والعين والنخاع الشوكي والمخ، وتستقر
الأجنة هناك لتكوّن الديدان المثانية، ويتوقف ضررها على عددها وعلى طبيعة
المكان الذي تحل فيه.
وقد ثبت أنّ لهذه المثانات ميلاً خاصاً للمخ، ولهذا يرجّح
أنّها السبب في نسبة كبيرة من حالات الصرع، وقد وجد بعض الباحثين باستخدام
التصوير بالأشعة، أنّ نسبة من الحالات التي سبق تشخيصها بأنّها أورام في
المخ اتّضح أَنّها مثانات دودة لحم الخنزير. واصابات المخ تتفاوت بين صداع
قاسٍ إلى شلل عضوي جزئي إلى دوار واضطرابات عصبية ونفسية تتخذ أحياناً
مظاهر هسترية، وإذا ماتت المثانات انطلقت منها توكسنات سامة، وأحياناً
كثيرة تتكلس وتحاط بافراز جيري وآثارها خطيرة قد تنتهي بالوفاة ولا يعرف
لحد الآن علاج ناجح لمرض الديدان المثانية، والوسيلة الوحيدة لاستخراجها هي
الجراحة، وهذه قلّما تكون مجدية لأنّها محفوفة بالمخاطر خاصة اذا كثر عدد
المثانات وانتشر في مناطق بالغة الحساسية.
وتعيش الدودة البالغة منها في الأمعاء الدقيقة للإنسان، وتبلغ
إناث هذه الديدان 4 مليمترات تقريباً وذكورها 2 مليمتر تقريباً، وتخترق
الانثى المخصبة المثقلة بالبيض جدار الأمعاء مارة بالقلب والرئتين حتّى
تستقر بين ألياف العضلات حيث تنمو لغاية مليمتراً واحداً ثم تلتف حول نفسها
متخذة شكلاً حلزونياً، ثم تتحوصل هذه اليرقانات، حيث تحتوي كل حوصلة على
يرقانة أو اثنين، وهنا يبدأ الدور المعدي، فإن كانت في لحم حيوان انتقلت
إلى الإنسان أو إلى الحيوان الذي يأكل هذا اللحم، وحينما يأكل الإنسان
اللحم المصاب تخرج الديدان من حويصلاتها وتبلغ نضجها الجنسي في يومين
فتتزاوج وتموت الذكور وترقد الاناث في جدران الأمعاء.
وبعد اسبوع واحد تضع يرقاناتها التي تستقر بدورها في أية عضلة
من عضلات الجسم باستثناء عضلة القلب، وهي تكثر في عضلات الحجاب الحاجز
والأضلاع والحنجرة واللسان والعين وعضلات الأطراف وتموت الاناث البالغة بعد
شهرين وبعد نفثها لذريتها الخبيثة في مختلف أنحاء الجسم وتضع كل أُنثى في
حياتها عدداً من اليرقانات يصل أحياناً إلى عشرة آلاف يرقانة «Nobli and Nobli 1976».
وتظهر أعراض المرض في الأسبوع الثاني عادة بعد تناول اللحم المصاب، وتكون للأعراض مرحلتان:
الأولى: تتميز بالاضطرابات المعدية والمعوية والإسهال الشديد المصحوب بحمى وضعف عام أحياناً.
والمرحلة الثانية: التي تنتشر فيها
اليرقانات في الجسم تكون غالباً قاتلة، تتميز بانتفاخ الجفون وما تحت
العينين وبآلام عضلية روماتيزمية شديدة، يصحب ذلك حمّى شبه مستمرة وعرق
غزير وهذيان ونزف تحت الأظافر.
وفي هذه المرحلة توجد اليرقانات في السائل الدماغي الشوكي وقد تظهر بعض أعراض الدماغ والسحايا.
وفي المرحلة الثالثة المصاحبة لتكلس الحويصلات والتي تبدأ بعد
ستة أسابيع من بدء العدوى تقريباً تشتد الأعراض السابقة وينتشر الارتشاح
في الوجه والبطن والذراعين والرجلين ويصاب المريض بضعف عام شديد وطفح جلدي
وفقر في الدم ونزف في الأحشاء وتضخم في الطحال واضطرابات عصبية وعقلية،
وأغلب الوفيات تكون بين الاسبوعين الرابع والسادس.
والخلاصة أن دودة الخنزير الشريطية والديدان المثانية تنتشران
في البلدان التي تقوم على تربية الخنازير وتتناول لحومها، وانتشارها واسع
في أوربا وجنوبي آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.
ويقرر لاباخ «1961» أنّ دودة لحم الخنزير الشريطية نادرة الوجود في البلاد التي لا يؤكل فيها لحم الخنزير كما في البلاد الإسلامية.
ويقرر نلكوكس، ومانسون بار في الطبعة السابعة عشرة من كتابهما
المشهور عن طب المناطق الحارة أنّ هذه الدودة غير معروفة بين المسلمين
واليهود([20]).
ويذكر تشاندلر، وريد في كتابهما الشهير في علم الطفيليات:
«أمّا في البلاد اليهودية والإسلامية، حيث يعد أكل لحم الخنزير خطيئة دينية
خطيرة فليس لهذا الطفيلي إلاّ أدنى الفرص للبقاء»، وهو دليل فاضح على فساد
الأخلاق عند حدوثه.. «Chandler & Read 1965,p.355»
ويستقر نلسون عن سبب ادمان العالم الغربي على أكل لحم الخنزير فيقول:
«أمّا العلة في ادماننا ـ نحن أهل العالم الغربي ـ أكل لحم الخنزير فإنّها
لغز محيّر، وخاصة أننا نُذكّر على الدوام بمخاطر هذا ونحن نقرأ الكتاب
المقدس...
أمّا اليهود المتلزمون وأتباع محمد (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) فإنّهم مضوا في نفورهم من الخنازير وعدم استساغتهم لحومها، ومن ثمَّ
خلت جماعاتهم من مرض التريكنيا خلواً تاماً»([21]) .
قال تعالى يصف حال الكفار وأعمالهم والظلمات التي تكتنفهم:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى
إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ
لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ
يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}([22])
يقسّم علماء البحار الأعمال في البحار إلى قسمين حسب العمق
للمنطقة البحرية، ابتداء من شاطئ البحر يبدأ العمق بتدرج بميل بسيط حتّى
يصل إلى عمق 200م وهذه المنطقة يكون الضوء فيها واضحاً وقاعها غير مظلم.
والحيوانات البحرية في هذه المنطقة تستعمل عيونها، وتمتد هذه
المنطقة إلى مسافة 1000 متر عن الشاطي وتسمّى منطقة الرصيف القاري، وبعد
هذه المنطقة ينحدر قاع البحر انحداراً شديداً فجأة يصل إلى قرابة 11 كم تحت
سطح البحر.
وأعمق نقطة في المحيط الهادي قرب جزيرة «مندناو» من جزر
الفليبين يبلغ عمقها «36201 قدم»، وعند جزيرة غوام في المحيط الهادئ أيضاً
تصل إلى عمق 8‚6 ميل تقريباً.
وفي تلك الأعماق السحيقة تنعدم الرؤية تماماً لانعدام الضوء
حيث الظلام الدامس، لقد اكتشف علماء البحار أنّ الضوء يتناقص تدريجاً في
أعماق البحار كلّما ابتعدنا عن سطح البحر حتّى ينعدم بعد «1كم» وهناك تنعدم
الرؤية وهذه الحالة لا تكون في البحر القاري الذي عمقه 200م وإّنما تكون
في القسم الثاني من البحر الذي تطلق عليه الآية الكريمة صفة {لجّي}.
قال ابن منظور في لسان العرب: «ولُجّةُ البَحْر: حيث لا يدرك
قعرُهُ... ولُجُّ البحر: الماء الكثير الذي لا يُرى طرفاه... ولُجَّة
الماء: معظمه، وخصَّ بعضهم به معظم البحر وكذلك لجّة الظلام... ولُجَّ
الليل: شدة ظلمته وسواده، وبحرٌ لُجاجٌ ولُجِّي: واسع اللج».
فالآية الكريمة تتحدث عن ظلم البحر الذي صفته {لجّي}
ومن معاني اللجي: الذي يحوي معظم الماء، ولا شكّ أنّ الذي يحوي معظم الماء
هو القسم الثاني العميق وليس القسم الأول القاري، والآية تتحدث هناك عن
أشد الظلمة لتشبّه بها حالة الكافرين:
{أو كظلمات في بحرٍ لجّي}.
ووصول الإنسان إلى أعماق البحار السحيقة بوسائله الحديثة لم يكن قديماً بل ذلك في قرننا الحالي بشكل أكثر عمقاً.
والناس لم يعرفوا صفة البحر وانقسامه إلى بحر قاري ولجّي إلاّ
حديثاً فلم يكونوا يعرفوا ذلك في عصر نزول القرآن الكريم ولا في القرون
التي تلته وإنّما عرف ذلك حديثاً، وكذلك الظلمة التي في البحر اللجّي لم
تعرف إلاّ حديثاً. والسر العجيب الذي تكشفه الآية الكريمة عن عالم البحار
أنّها تتحدث عن نوعين من الأمواج فتقول:
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ}
فالهاء تعود إلى البحر اللجي، والموج الأول يغشى البحر اللجي
الذي هو في عمقه تحت 200 م ومن ذلك الموج موج آخر، وهو الموج الذي على سطح
البحر، وكل من هذين الموجين يشكل تحته ظلمه فتزيد ما تحته ظلاماً ومن فوق
هذا الموج الأخير سحاب يحجب أشعة الشمس ويشكل ظلاً تحته.
والسر في الآية الكريمة حديثها عن الموج الأول الذي يغشى
البحر اللجي فهذا النوع من الموج الذي يتكون بسبب التيارات البحرية أو
الهزات الأرضية المستمرة لم يكتشف إلا حديثاً، والتيارات البحرية على
قسمين:
1- تيارات دافئة مثل «تيار الخليج».
2- تيارات باردة مثل «تيارات لابرادور».
وبسبب هذه التيارات العظيمة تتحرك المياه داخل البحار فتسخّن
الماء عند خط الاستواء، وتبرّده عند القطبين، ونتيجة للتفاوت الحراري بين
الماءين يجري الماء البارد نحو الدافئ فيحصل التيار المائي الجاري بشكل
سريع، وتيار الخليج القادم من خط الاستواء يجري بسرعة 15 كم في الساعة
مستغرقاً حجماً بحرياً سعته 145 كم و800م عمقاً.
أمّا تيار لابرادور البارد فيأتي من القطب، وتعمل هذه
التيارات المتعددة على تنقية مياه البحار والمحيطات وتنظيفها، وبذلك تحميها
من التفسخ والتأسّن، وإلاّ لأصبحت تلك المياه آسنة وتجمعت فيها المواد
السامة ولم تعد صالحة لمعيشة الحيوانات البحرية فيها.
ولدى التدبّر في هذه الآية الكريمة نجد أنّها تشير إلى حقائق
علمية لم تكن مكتشفة من قبل البشرية في تلك القرون ولا إلى قرون قريبة
إلينا.
ومما ينقل أنّ عالم البحار المعروف «كوستو» صاحب الملحمة
المصورة المعروفة باسمه والتي عرضت في مختلف قنوات التلفزيون في العالم وفي
مختلف اللغات أنّ هذا العالم ألَمَّ بالكثير من أسرار البحار وأسلم حينما
تليت عليه هذه الآية الكريمة وعرف معانيها، وأدرك أنّ هذا الكلام لا يمكن
أن يصدر من أي مخلوق عاش في شبه جزيرة العرب في ذلك القرن ولا من الناس في
القرون السابقة.
لانّ الحقائق العلمية التي تتحدث عنها الآية الكريمة لم تكتشف
إلاّ في قرننا الحالي، فأدرك أنّ المتكلم هو المطلع على الحقائق وأنّه
المرسل لصاحب هذه الرسالة «القرآن الكريم» وإنّه هو خالق البحار والعالم
بأسرارها.
«لم يجد العالم الفرنسي موريس بوكاي في القرآن الكريم حتّى معلومة واحدة تناقض النظرية العلمية الحديثة في مختلف جوانب العلوم».
«ولم يكتف هذا الباحث في اثباته أنّه لا يوجد معلومة في
القرآن تناقض العلوم الحديثة بل ذهب إلى أبعد من ذلك فشرع يبحث هل توجد في
القرآن الكريم نظريات علمية لم تكتشف إلا بعد نزول القرآن الكريم».
إنَّ قضية الاعجاز العلمي في القرآن الكريم حقيقة علمية ثبتت
بالدليل والبرهان، ولم يقتصر تناول هذه المسألة على الباحثين المعاصرين من
المسلمين بل إنّ بعضاً من الذين بحثوا في هذا المجال من علماء الغرب قد
تناول هذه القضية.
خذ مثلاً على ذلك العالم الفرنسي موريس بوكاي صاحب كتاب
«دارسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» وقد استغرق في بحثه هذا عشر
سنوات، بحث أثناء تلك الفترة عن معلومة واحدة ذكرت في القرآن وتتناقض مع
المعارف العلمية الحديثة فلم يجد ولا مسألة واحدة من المسائل العلمية في
مختلف جوانب العلوم تناقض النظريات العلمية الحديثة، فوجد كثيراً من
الحقائق العلمية تعرّض لذكرها القرآن الكريم ولم تكتشف إلاّ مؤخراً.
ثم عقد هذا الكاتب في بحثه مقارنة بين التوراة والإنجيل
والقرآن في هذا المجال فاستعرض بعض ما ورد من القضايا العلمية التي تعرضت
لهذه الكتب الثلاثة، فوجد أنّ في التوراة والإنجيل «طبعاً المعاصرين» بعض
القضايا العلمية غير متفقة مع الحقائق العلمية المعاصرة.
إنّ القرآن الكريم يحمل شهادة صدقه وأنّه من الله سبحانه
وتعالى في ثنايا آياته الكريمة، وقد ذكر الله تعالى هذه الحقيقة في قولـه
تعالى:
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ
شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ...}([23])
ثم يتبع ذلك بآية اُخرى وهي قولـه تعالى:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ...}([24])
ثم يشدّد النكير على الذين يفترون على الله، أو يكذبون بآياته فيقول تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}([25])
إذن فشهادة الله الكبرى مذكورة في هذا القرآن، فأين هذه
الشهادة؟ وكيف يشهد الله تعالى على صدق القرآن وأنّه منه تعالى؟ هذه
الحقيقة وهذه الشهادة تبرز في القرآن بعدة أُمور منها اعجازه البلاغي ونظمه
وبيانه والتي تحدّى بها فطاحل البلغاء والفصحاء وقت نزوله ولا زال يتحدى،
ومنها إخباره بالمغيبات التي تحققت مثل قولـه تعالى:
{غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى
الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ
سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}([26])
هذه الآيات الكريمة تتحدث عن حدث سوف يقع في أقل من تسع
سنوات، ووقتها خروج الروم من الحرب مع الفرس منهزمين هزيمة عسكرية ساحقة،
فكيف يتوقع لمثل هؤلاء الانتصار ويرافق يوم انتصارهم انتصار المؤمنين
وفرحهم بنصر الله، وإنّ هذا الأمر وعد من الله تعالى، لا بدّ أن يتحقق،
ويتوقف على هذا الأمر تصديق الرسول والرسالة أو تكذيبها.
حين غلبت فارس الروم فرح المشركون وحزن المسلمون لأنّ النصارى
أقرب إلى المسلمين من المجوس، وقد أخبر الله رسوله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) بهذا الإخبار المغيّب وهذا المغيب يخبر عن حدوث أمرين كل منهما
مستبعد الحصول وفقاً للمقاييس العسكرية والسياسية فالروم دولة ضعيفة جداً
بلغت من الضعف أنّها غزيت في عقر دارها وهزمت، وغلب سابور ملك الفرس على
بلاد الشام وما جاورها من بلاد الجزيرة، وحاصر هرقل بعد أن ألجأه إلى
القسطنطينية.
ففي مثل هذه الأحوال النصر لمثل هذه الدولة مستبعد، ثم إنّ
القرآن الكريم لم يكتف بهذا الوعد بل عزَّزه بوعد آخر وهو أنّه يوم انتصار
الروم على الفرس يتم انتصار المؤمنين على المشركين، وكان المسلمون وقت نزول
هذه الآيات في مكة المكرمة قوماً مضطهدين وانتصارهم على جبروت قريش
وطواغيتها أمر مستبعد في الفكر العسكري والسياسي، ومع كل ذلك تحقق وعد
الله، وانتصر الروم على الفرس في نفس اليوم الذي انتصر فيه المسلمون على
المشركين في غزوة بدر الكبرى فقد أخرج أصحاب الصحاح عن أبي سعيد قال: «لمّا
كان يوم بدر ظهرت الروم على الفرس».
وفي هذا الصدد يقول المؤرخ إداورد جيبون في كتابه «تاريخ سقوط واندحار الامبراطورية الرومانية»:
«في ذلك الوقت حين تبنأ القرآن بهذه النبوءة لم تكن آية نبوءة
يظن أنّها أبعد وقوعاً منها لأنّ السنين الاثنتي عشرة الاُولى من حكومة
هرقل كانت تؤذن بانتهاء الامبراطورية الرومانية» وبهذه المناسبة أقول: أرجو
من اخواني السياسين المسلمين الذين يشعرون باستبعاد النصر حينما ينظرون
إلى طاقاتهم المادية، فيرمون ثقلهم في المناورات السياسية مع أعداء الإسلام
حرصاً منهم على النصر القريب وتضحية منهم لينتصر الإسلام، أرجو منهم أن
يتدبروا في هذه المعجزة العظيمة وأن يستذكروا قولـه تعالى:
{... وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...}([27])
وقوله تعالى:
{... إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}([28])
{إن تنصروا الله}
هذا هو الشرط لم يقل إنْ يكن عندكم كذا طائرة أو كذا دبابة أو كذا مناورة
سياسية، المهم إن تنصروا دين الله وتخلصوا بهذا النصر لله، فحينئذ سيتحقق
لكم النصر.
نعود للآية الكريمة فإنّ فيها اعجازاً علمياً غير الاعجاز بالإخبار بالمغيّبات الذي ذكرناه وهذا الاعجاز العلمي يكمن في كلمة، {أدنى} والآية الكريمة تحدد وقوع غلبة الروم في مكان تعبّر عنه {أدنى الأرض}
والهزيمة حصلت قرب منطقة البحر الميت، وأدنى الأرض، الأدنى: الأقرب وأقرب
الأرض عكس أعلاها، فأدنى الأرض أخفض الأرض، وأخفض نقطة في الأرض اكتشفت
حديثاً هي البحر الميت الذي ينخفض 1300 قدم عن مستوى سطح البحر ولا توجد
بقعة من الأرض أدنى منه مستوى عن سطح البحر فهو أدنى الأرض.
وهذا اعجاز علمي للقرآن تضمنته الآية الكريمة وشعَّت أنوار اعجازه مع بريق تحقق النبوءات الذي يخطف الأبصار لشدة وضوحه ولمعانه.
إنَّ حركة التطور في العلوم والفنون دائمة، وعجلة التقدم
فيهما لا تتوقف حتّى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه الحقيقة ملموسة لكل من
تتبع تأريخ الحضارات في العالم، والأحداث العلمية والمكتشفات والمخترعات
التي تتعاقب على سطح هذا الكوكب.
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}([29])
وسنّة ازدياد العلوم البشرية وتطوّرها يكشف لنا عن حقيقة
مهمة، وهي أنّ البشر أفراداً وجماعات ونتيجة لحركة التطور العلمي، كلّما
وصلوا إلى درجة علمية معينة فإنّهم سوف يكتشفون علماً جديداً ونتيجة لهذا
العلم الجديد سوف يكتشفون بعد حين نقصاً في بعض تلك العلوم أو ما يحيط بها،
ويشعرون بذلك النقص وبعجزهم عن الاحاطة التامة بحقائق الكون.
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً}([30])
{... وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}([31])
{... وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}([32])
لذلك فإنّ العلماء والفلاسفة حينما يؤلفون كتباً فإنّهم بعد
حين يكتشفون أخطاءهم فيما كتبوه وألّفوه، وإن فاتهم ذلك، فإنّه سوف يأتي من
بعدهم من يكتشف أخطاءهم ويشير إلى صوابهم، ونضرب مثالاً على ذلك أنّ طالب
العلم في هذا العصر ومع توفر الاتصالات الميسّرة والمواصلات المقدمة، وكثرة
الكتب ووفرة الدوائر العلمية والمعرفية، وتوفر وسائل الطباعة الجيدة وحفظ
المعلومات وآلات التسجيل الصوتي والمرئي مع كل هذه الامكانيات الهائلة التي
لم تكن موجودة من قبل فإنّ الطالب حينما يكتب رسالته للماجستير أو
الدكتوراه في مختلف العلوم وتشرع لجنة المناقشة في مناقشته فإنّها تنقده
بعشرات الأخطاء، والطالب ذاته بعد حين عندما يزداد علماً وفهماً يعجب
أحياناً من نفسه كيف كتب الفقرة الفلانية وكيف فاته الأمر الفلاني ويشعر
بالنقص والعجز أمام الكم الهائل من الكشوفات العلمية المتوالية، وما
اكتشفته البشرية لحد الآن يعتبر الغاية القصوى بالنسبة لنا وللأجيال
الماضية إلاّ أنّ من يأتي بعدنا من الأجيال قد يعجب من بعض أفكارنا عن
الكون والحياة ويستقل ما توصلنا إليه من العلوم.
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً}([33])
وتأتي الأجيال القادمة لتشير إلى أخطائنا في مختلف العلوم
والفنون التي كشفتها البشرية، هذه الظاهرة سنَّة ثابتة في المسيرة البشرية،
وقانون لا ينكر.
وحينما تجد كتاباً يشذّ عن هذه القاعدة ويخرج عن ذلك القانون،
ويخرق تلك السنة، فهذا يعني أنّ ذلك الكتاب معجز وخارق للعادة والسنَّة.
وإنّ البشر في مختلف العصور لم يتمكنوا من ذلك، أمّا القرآن الكريم فقد حقق هذا الخرق للعادة.
والمعجزة «ثبوت ماهو ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق
العادة ومطابقة الدعوى» وهذا الخرق للعادة حققه القرآن بخلوّه من أي خطأ
علمي رغم مرور أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، علماً أنّ القرآن الكريم
تعرض إلى كثير من العلوم الكونية، وخلق النبات والحيوان، والسنن
التاريخية، وخلق السموات والارض، وحركة الأجرام السماوية والنجوم والكواكب
ومع حديثه عن كل هذه الأمور ومع أنّ الناس في عصر التنزيل كانوا يعيشون في
تخلّف علمي كبير ومع مرور أكثر من أربعة عشر قرناً وتقدّم العلوم هذا
التقدّم العظيم مع كل هذا وذاك لم يكتشف أعداء القرآن فضلاً عن أتباعه أي
معلومة وردت في القرآن تخالف المعارف الحديثة، قال تعالى:
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}([34])
لكنّه من عند الله إذن فلا اختلاف ولا خطأ ولا معلومة تناقض
اليقين من العلوم الكونية، وهذا ما حققه القرآن بشكل قاطع وأثبت فيه بما لا
يدع مجالاً للشك والاحتمال اعجازه وصدقه وأَنّه من عند الله تعالى، لأنّ
البشرية مهما أُوتيت من طاقة، ليس في استطاعتها أن تؤلف كتاباً يخلو من
الخطأ على مر العصور والدهور.
ما تقدم من الكلام يخص الناحية الإيجابية فيما أورده من
المعلومات، إلاّ أنّ في القرآن قضية اعجازية أُخرى وهي الناحية السلبية من
ذكر المعلومات السائدة في عصره، حيث أنّ القرآن نزل في مجتمع متخلف في كثير
من شؤون الحياة، وتسوده كثير من المعتقدات الخاطئة والأساطير والخرفات،
حتّى الديانات السماوية التي حرّفت دخلها كثر من المعتقدات الخاطئة
والاساطير المضحكة والخرافات، ونظرة إنسان ذلك العصر وتفسيره لبعض الأحداث
الكونية مع كثرة الأخطاء في كل ذلك خلال عصر التنزيل لم ينقل القرآن ولا
معلومة واحدة خاطئة في آياته وسوره ولك ما أقرّه وأثبته يتطابق تماماً مع
المتيقن من العلوم الحديثة.
فكيف يتسنى لأي مؤلف أن يتجنب أخطاء عصره وهي في حينها حقائق
مسلّمة وليست أخطاءاً، إنّ من يفعل ذلك يخرج عن دائرة التفكير البشري،
وبمعنى آخر أنّ البشرية يستحيل عليها أن تفعل ذلك لعجزها ومحدودية قالبيتها
ونضرب مثالاً على ذلك، نظرة البدوي إلى الأرض وهو ساكن تلك الصحراء
الممتدة، فإنّه لا شك أنّ ذهنه خالٍ من أدنى تفكير أو احتمال عن حركة الأرض
وكرويتها وما يعتقده عنها أنّها ثابتة لا تتحرك، واعتقاده هذا عن عدم حركة
الأرض يعتبر آنذاك من الضروريات التي لا تقبل التشكيك.
«وكان أهل الهند الأقدمون يؤمنون بأنّ الأرض محمولة على أحد
قرني «البقرة الأُم»، وهي حين تقوم بنقل الأرض من قرن إلى آخر يحدث زلزال
على البسيطة»([35]).
أمّا أهل اليونان فكانوا يصرّون على ثبات الأرض وانّ الشمس هي
التي تدور حول الأرض، واستمرت هذه العقيدة لديهم حتّى مجيء الفلكي
الإيطالي «غاليلو» الذي اكتشف حركة الأرض حول الشمس وانّ الشمس مركز
الكواكب، وهدد بالإحراق بالنار من قبل الكنيسة فاضطر لاعلان التوبة من ذلك
الاعتقاد، وكان في وقت توبته يخط على الأرض عبارته المشهورة «توبة غاليلو
لا توقف الأرض عن دورانها».
ولد غاليلوا عام 1564م وتوفى عام 1642م وكان من كبار العلماء
بالحساب والفيزياء والفلك وهو أوّل من اكتشف التلسكوب «المنظار الفلكي» وبه
تمكن من مشاهدة حركة الأرض بدقة محسوسة، وحكم عليه بالسجن لمدة طويلة اثر
اعلانه الاكتشاف المغاير لعقيدة الكنيسة في ثبات الأرض وأنّها المركز.
الخلاصة: أنّ البشريّة لم تكن تعرف شيئاً عن حركة الأرض
ودورانها لغاية القرن السادس عشر الميلادي في حين تحدث القرآن عن حركة
الأرض قبل ذلك بعشر قرون.
قال تعالى:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً}([36])
«فقد استعار للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع ويُهز بهدوء
لينام فيه مستريحاً هادئاً، وكذلك الأرض، مهدٌ للبشر، وملائمة لهم من جهة
حركتها الوضعية والانتقالية.
فإنّ الغاية من حركتها اليومية والسنوية، تربية الإنسان، بل
وجميع ما عليها من الحيوان والنبات والجماد، وإنّما أشار إلى الحركة ولم
يصرّح بها، لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها»([37]).
وبعض معاني صاحب الإلهيات وتعبيراته سبقه بها السيد الخوئي
(قدّس سرّه) في كتابه البيان في تفسير القرآن حيث يقول بعد إيراده الآية
الكريمة:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً}([38])
«تأمل كيف تشير الآية إلى حركة الأرض إشارة جميلة لم تتضح
إلاّ بعد قرون، وكيف تستعير للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع، يهتزّ
بنعومة لينام فيه مستريحاً هادئاً وكذلك الأرض مهد للبشر وملائمة لهم من
جهة حركتها الوضعية والانتقالية.
وكما أنّ تحرك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته فكذلك
الأرض، فإنّ حركتها اليومية والسنوية لغاية تربية الإنسان بل وجميع ما
عليها من الحيوان والجماد والنبات، تشير الآية المباركة إلى حركة الأرض
إشارة جميلة، ولم تصرّح بها لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على
سكونها حتّى أنّه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك»([39]).
وهناك آية ثانية تدل بوضوح على حركة الأرض وهي قولـه تعالى:
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}([40])
ومن الطبيعي أنّ الجبال لا تتحرك لوحدها بل إنّ حركتها تبعاً
لحركة الأرض، وقد شبّهت حركة الجبال في هذه الآية بحركة السحاب لاشتراكهما
في وجه الشبه الهدوء والطمأنينة فالأرض تتحرك بهدوء وطمأنينة بكل ما عليها
من جبال وبحار وكذلك السحاب يتحرك بهدوء وبدون ضجيج.
تدور الأرض حول نفسها فتقطع دورتها في مدة قدرها ثلاث وعشرون
ساعة وست وخمسون دقيقة و09/4 ثانية وهذه المدة هي الفترة بين ظهور نجم محدد
مرتين متتاليتين على نقطة محددة على الأرض وتسمّى باليوم النجمي وفيه تقطع
الأرض دورة كاملة حول محورها.
أمّا اليوم الشمسي ومدته 24 ساعة وهو اليوم العالمي للتوقيت
فهو ظهور الشمس مرتين متتاليتين على خط زوال معين على سطح الأرض، وسرعة
دوران الأرض حول نفسها عند خط الاستواء تعادل «1040» ميلاً في الساعة
وكلّما اتجهنا نحو القطبين تقل السرعة حتّى تصل عند القطبين إلى الصفر،
وللأرض دورة ثانية وهي حول الشمس تتمها في 365 يوماً وربع اليوم تقريباً
تقطع في دورتها فلكاً طوله نحو 580 مليون ميل بسرعة معدلها 66 ألف ميل في
الساعة، وللأرض حركة ثالثة تتحرك مع الشمس بسرعة 30 كيلو متراً في الثانية
ضمن المجرة باتجاه نجم يسمّى بـ«الجاثي على ركبتيه» تمر خلالها ببروج قسّمت
إلى اثني عشر برجاً.
* * *
لم يقتصر القرآن الكريم على لون واحد من ألوان الاعجاز والتحدي، بل تعددت أوجه الاعجاز فيه وتنوعت.
ورغم أنّ القرآن الكريم جاء دستوراً للبشرية، ووظيفته تزكية
الإنسان وارساء الاُسس العقلية، بحيث عمل بنجاح لأن يتربّع العقل على عرش
التفكير الإنساني، ويبعده عن الخرافات والأساطير، ورغم أنّ المحور الحقيقي
الذي يهدف إليه القرآن هو السعادة الاخروية، ورغم أنّه نزل في عصر يجهل فيه
الإنسان كثيراً عن الطبيعة وعلومها، رغم ذلك فإنّه تكلم بلغة العلم في أوج
تطورها وفي قمة مراحلها، قبل الكشف عن كثير من العلوم والفنون.
ومن اعجاز القرآن في تحدثه بلغة العلم أنّه يستعمل كلمات
وأساليب لم تعد غريبة لأذواق معاصريه عند نزوله ولا مستنكرة نسبة لمعارفهم،
وفي نفس الوقت فهمها جيل عصر الكشوفات العلمية، كل جيل بما يتلاءم والشوط
العلمي الذي ارتقى إليه.
هذا اللون من الاعجاز القرآني يواكب الآيات العلمية التي
تتحدث عن الطبيعة وأسرارها، وقد تأتي أحياناً وكأنّها من الآيات المتشابهة،
كالذي يريد أن يعبّر عن الطائرة الحديثة لإنسان عاش في عصر التنزيل فإنّه
سوف يقول لـه مثلاً: قربة كبيرة منفوخة يركب بها الناس ولها جناحان.
وحينما يعبّر عن التلفزيون فإنّه يقول صندوق مقفل تظهر فيه
صور الناس والمناظر القريبة والبعيدة، إلاّ أنّ هذا التعبير عن الطائرة
والتلفزيون رغم أنّه مقبول لجيل عصر النزول ورغم أنّه من عندنا نحن الذين
نعرف حقيقة الطائرة والتلفزيون إلاّ أنّ هذا التعبير لا ينطبق على حقيقة
هذين المخترعين لأنّ الأجهزة التي في الطائرات والدوائر الكهربية التي في
التلفزيون لم يشر إليها التعبير من قريب ولا من بعيد.
هذا المثال البسيط يقرب لنا معنى المتشابه والمحكم من جهة،
كما أنّه يقرّب لنا كيف أنّ القرآن الكريم استعمل كلمات وتعابير علمية
ألفها الناس في ذلك الوقت وانطبقت تمام الانطباق على ما اكتشفته البشرية من
نظريات وقوانين الطبيعة في هذا العصر، ونفس هذا الاستعمال لتلك الكلمات هو
لون من ألوان الاعجاز، ولنأخذ مثلاً على ذلك قاله الله تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}([41])
وفي آية أُخرى يقول الباري تعالى:
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ...}([42])
فذهن الإنسان في ذلك العصر يدرك أنّ الشيء المرتفع عن الأرض لا بدّ أنّه يستند على قوائم «أعمدة» يرتفع عليها.
فالسموات بنجومها وشمسها وقمرها مرتفعة، ولكن بأي شيء ترتفع
وأين الأعمدة التي تثبّتها في هذا الفضاء، هناك أعمدة إلاّ أنّها غير
مرئية، وكأنّ الآية تريد أن تقول أنّ السموات مرتفعة بعمد غير مرئية.
فالآية الكريمة تشير إلى الجاذبية التي اكتشفها نيوتن
«1642-1727م» وتشير أيضاً إلى القوة الطاردة التي تحفظ للنجوم والكواكب
والأجرام السماوية مواقعها وأبعادها عن بعضها، لأنّ الجاذبية لو عملت
لوحدها لانجذب كل جسم نحو الآخر وأصبح الكون كله كتلة واحدة، إلاّ أنّ
الكون ليس كذلك فكل جسم فيه لـه موقعه وكل نجم لـه بعده وفلكه.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}([43])
لذلك فإنّ القوة الطاردة عن المركز بتعادلها مع القوة
الجاذبية تحفظ للأجسام توازنها وأبعادها ومواقعها، وهاتان القوتان تحكمان
كل الأجسام من الذرة إلى المجرة، فالإلكترون مثلاً يدور حول نواة الذرة
تجذبه النواة إليها وفي نفس الوقت فهو يبتعد عن النواة نتيجة للقوة الطاردة
التي تطرده عن مركز النواة.
فلو انفردت القوة الجاذبية في التأثير عليه لالتصق بالنواة
وأصبح كتلة واحدة، ولو انفردت القوة الطاردة في التأثير عليه لانفلت
منطلقاً بعيداً عن النواة، إلاّ أنّه بتعادل هاتين القوتين بقي محافظاً على
بعده عن النواة فسبحان من حفظ الكون كلّه بهاتين القوتين غير المرئيتين.
فالقوة الجاذبة عمود غير مرئي يشد الجسم، والقوة الطاردة عمود
غير مرئي آخر يبعد الجسم، وهذا في كل النجوم والكواكب والأجرام والأجسام
صغيرها وكبيرها فالسماء مرفوعة بعمد لا ترى.
ولعلّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)
يشير إلى هاتين القوتين في حديثه الشريف عن النجوم حيث يقول: «هذه النجوم
التي في السماء مدائن، مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كل مدينة إلى
عمودين من نور»، وفي رواية «إلى عمود من نور»([44]).
وما أروع هذا التعبير الذي لا يستوحشه إنسان ذلك العصر وينطبق
تماماً مع مكتشفات العصر الحديث فالجاذبية نوع من أنواع الطاقة والنور
أيضاً نوع من أنواع الطاقة، ثم إنّ الامام الرضا (عليه السّلام) يكشف حقيقة
هذه الأعمدة غير المرئية لما لا يدع مجالاً للشك أنّها هي المقصودة في
قولـه تعالى:
{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}
فقد أخرج الصدوق في البرهان: ج2، ص278 عن أبيه عن الحسين بن
خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال: قلت لـه: «أخبرني عن قول الله
تعالى: {... رفع السموات بغير عمد ترونها} فقال: «سبحان الله، أليس يقول: {بغير عمد ترونها}؟ فقلت: بلى، فقال: ثمَّ عَمَد، ولكن لا تُرى» و«ثمَّ» معناها: هناك.
وأخرج الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية من سورة الرعد عن
ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة أنّهم قالوا: «لها عمد ولكن لا ترى» فهل
أدلّ وأصدق من هذا يشهد على اعجاز القرآن الكريم سواء بسبقه للكشف العلمي
وحديث عن هذين القانونين أم بطريقته المعجزة في التعبير لإيصال المعنى لكل
الأجيال رغم البعد الزمني بينها.
«نهاية الكوكب تختلف عن نهاية النجم، وقد لاحظ علماء الفضاء
نهاية بعض الكواكب كما أنّهم لاحظوا نهاية بعض النجوم، فاكتشفوا أنّ نهاية
الكواكب تنتثر وتصبح أجساماً متفرقة وأجزاءاً متناثرة، أمّا النجوم فإنّ
نهايتها أنّها تطمس وتتحول إلى كتل سوداء لا ضوء لها، قال تعالى:
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ}([45])
عندما ينظر العربي في ليل الصحراء الممتدة الأطراف وفي سمائها
الصافية فإنّه يرى في السماء نقاطاً مضيئة يطلق عليها النجوم، وفي النهار
يرى الشمس فيميزها عن النجوم وعن القمر، فالمميز ثلاثة أُمور: النجوم
والشمس والقمر، في حين يميّز القرآن الكريم بين النجوم والكواكب، فهناك في
السماء نجوم وهي السراج المتوهج المشتعل، أمّا الكواكب فلا تشتعل ولا تتوهج
وإنّما تنير وتعكس ما يسقط عليها من نور تلك النجوم، قال تعالى:
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}([46])
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}([47])
إذن فالسماء مزينة بشيئين وهما الكواكب والمصابيح، فما الفرق بين الكواكب وبين المصابيح؟
المصباح مضيء بذاته ويضيء الأجسام الاُخرى، أمّا الكوكب فهو
يقتبس من نور المصباح، ليس هذا الفرق الوحيد بين الكواكب والنجوم
«المصابيح» وإنّما هناك فرق آخر يذكره القرآن الكريم في نهاية كل من الكوكب
والنجم.
فللكوكب نهاية تختلف عن نهاية النجم، وقد لاحظ علماء الفضاء
نهاية بعض الكواكب كما أنّهم لاحظوا نهاية بعض النجوم، فاكتشفوا أنّ نهاية
الكواكب تنتثر وتصبح أجساماً متفرقة وأجزاءاً متناثرة، أمّا النجوم فإنّ
نهايتها أنّها تطمس وتتحول إلى كتل سوداء لا ضوء لها، قال تعالى:
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ}([48])
أمّا عن نهاية النجوم فيقول الباري تعالى:
{وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ}([49])
وفي آية أُخرى يقول تعالى:
{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ}([50])
والسؤال الذي يطرح نفسه من أخبر نبيّنا محمداً (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) أنّ في السماء نجوماً وكواكب، وأنّ كلاً منهما يختلف عن
الآخر من حيث الإضاءة والنهاية، وفي حين أنّ هذه الأمور لم تكتشف إلاّ في
قرننا الحالي؟ إنّه علاّم الغيوب خالق الكواكب وخالق النجوم وهو المفيض على
الجميع تيار الوجود ابتداء ودواماً، وأنّ المتكلم بهذه الآيات الكريمة هو
ربّ العالمين سبحانه وتعالى.
ويستحيل على أي إنسان في عصر نزول هذه الآيات أن يعرف هذه
المعلومات التي نطقت بها هذه الآيات الكريمة، ليس هذا فحسب بل إنّ القرآن
الكريم يميّز بين أبعاد النجوم المترامية الشاسعة التي تحيّر العقول.
ولا يمكن للإنسان أن يحدّد بفكره المحدود تلك المسافات
الممتدة والتي تقاس بملايين السنين الضوئية، فنجد أنّ القرآن الكريم يعظم
مواقع النجوم فيقول الباري تعالى:
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}([51])
في حين لم يرد قسم معظّم عن مواقع الكواكب، كما لمواقع
النجوم، وإنّما هناك قسم في نفس بعض الكواكب «أو كلّها» حسب معنى الآية
الكريمة وليس بأبعاد تلك الكواكب ومواقعها، قال تعالى:
{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}([52])
قال في الميزان: «الخنّس جمع خانس كطُلَّب جمع طالب، والخنوس الانقباض والتأخر والاستتار، والجواري جمع جارية... وتعقّب قولـه: {فلا أقسم بالخنّس} الخ بقولـه: {والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس}
يؤيد كون المراد بالخنس الجوار الكنّس الكواكب كلّها أو بعضها، لكن صفات
حركة بعضها أشد مناسبة وأوضح انطباقاً على ما ذكر من الصفات المقسم بها
الخنوس والجري والكنوس وهي السيارات الخمس المتحيرة: زحل والمشتري والمرّيخ
والزهرة وعطارد...
وقيل: المراد بها مطلق الكواكب وخنوسها استتارها في النهار
تحت ضوء الشمس وجريها سيرها المشهود في الليل. وكنوسها غروبها في مغربها
وتواريها»([53]).
إذن فالنجوم في القرآن مصابيح متوهجة مشتعلة فهي سراج وهذه
الكلمة كلمة سراج لها علاقة كبيرة بوصف القرآن للشمس حيث يصفها بأنّها سراج
وهّاج، قال تعالى:
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً}([54])
وقال تعالى:
{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً}([55])
وقال تعالى:
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}([56])
إذن فالنجوم مصابيح تتوهج وتحترق والشمس مصباح يتوهج ويحترق
بل إنّ هناك آية تشير بوضوح إلى صفة النجم الثاقب المحترق أو الشهاب
المحترق، قال تعالى:
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ}([57])
والثقب في الأصل بمعنى الخرق ثم صار بمعنى المضيء لأنّه يثقب الظلام بشعاعه وقال تعالى:
{إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}([58])
وقال تعالى:
{... فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}([59])
والشهاب شعلة نار ساطعة... والشهاب الذي ينقض بالليل شبه الكوكب، وهو في الأصل الشعلة من النار([60])، هذه الشهب تحفظ السماء من استراق السمع وهي من النجوم المصابيح قال تعالى:
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}([61])
ومن هذه المصابيح النجم الثاقب ومنها الشهب، وهذا التمييز في
القرآن الكريم بيّن وواضح وهو بذلك يختلف عن التوراة التي تصف الشمس والقمر
بمنيرين، ولا تفرق في الوصف بينهما وهذا مخالف للمعارف الحديثة، في حين
أنّ القرآن الكريم يصحح هذا المفهوم في التوراة المحرفة، وتصحيح القرآن
الكريم للتوراة والانجيل المحرفين لم يقتصر على المفاهيم العلمية وإنّما
يشمل ذلك تصحيح المفاهيم العقائدية والأحكام التشريعية ومفهوم العدالة
وقضايا الجهاد والتغيير وقضايا المال والاقتصاد والديات والحدود إلى غير
ذلك من الأحكام الشاملة التي استوعبها القرآن الكريم وتطرق إليها.
من الاعلام الإلحادي اطروحة «أطفال الأنابيب» التي طبّلوا لها
وزمّروا وكأن الطفل ينمو في الانبوبة والانبوبة تحمل وبعد تسعة أشهر تلد.
في حين أنّ واقع الأمر ليس كذلك وإنّما يؤخذ من منّي الرجل
وبويضة المرأة ويجتمعان في الأنبوبة ثم يرجعان إلى رحم الأم بعد دقائق، فهم
لا يريدون أن يقولوا منيُّ الأنابيب لأنّ ذلك لا يثير ضجّة اعلامية وموجة
من التشكيك.
بل يقولون: «طفل الأنابيب» فإنّ ذلك أوقع في النفوس للتشكيك وأكثر ضجة في سوق الاعلام وأكثر خدمة للتيار الالحادي في نظرهم.
وكل ما يقومون به هو أنّهم يسهلون عملية اتصال الحويمن من
النطفة بالبويضة لأنّه ربّما تكون هناك عوائق تعيق وصول الحيامن للبويضة
داخل القناة المؤدية للرحم وربما كانت حيامن الرجل ضعيفة تموت قبل أن تصل
للبويضة فهم يعجّلون بوصولها قبل موتها وهكذا فإنّ العملية لا دخل لها في
نمو الحيمن داخل المني في الانبوب، وليس لها دخل في نمو البويضة.
وأحياناً يتحدث بعضهم عن تصنيع البروتين بهدف الوصول إلى
تكوين الخلية، وتصنيعها على حد زعمهم، وبين الفينة والأخرى تسمع صيحات هذه
الادعاءات الباطلة، ثم يخفت صوتها وتخرس، وتعود مرة أُخرى للضجيج، ثم تصمت
ولم تفلح في دعواها.
إلاّ أنّ القرآن الكريم قد حسم هذا الأمر قبل أكثر من أربعة
عشر قرناً، وقرَّر أنّ الكائن الحي يستحيل تخليقه من قبل المخلوق لوحده،
قال تعالى:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ *
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}([62]).
فتخليق المنيُّ أمر مختص به تعالى، وليس لأحد سواه هذا
التخليق، ثم إنّ الآية تشير إلى قضية تخليق في نفس المني، فما هو سر هذا
التخليق؟
الإنسان العربي في عصر التنزيل ينظر إلى المنيّ فيجده سائلاً
بلونه المعروف ولا يعرف عنه أكثر من ذلك وهذا الأمر لا يختص بالعربي لوحده
بل أي إنسان على البسيطة في ذلك الوقت ينتمي لحضارة الفرس أو الروم لا يفهم
عن المنيّ أكثر من ذلك.
إلاّ أن القرآن الكريم يصرح وبكل وضوح أنّ هناك عملية تخليق تتم في المني ذاته {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}.
إذن فالمني في نظر القرآن ليس ماءً فحسب بل فيه كائن مخلّق،
وصمّم العلماء الميكرسكوب وتطور هذا الجهاز وبدأ يكبّر النطفة إلى آلاف
أضعافها وإذا بالعلماء يكتشفون أنّ هذا المنيّ ليس سائلاً فحسب بل إن فيه
شعباً كاملاً من الحيوانات المنوية تترواح في كل قذفة يقذفها الرجل ما بين
200 مليون إلى 400 مليون حيوان منوي، وواحد فقط من هذه الملايين هو الذي
يلّقح البويضة ويتكون من ذلك التلقيح الإنسان.
إذن فالقرآن يشير إلى أنّ في ذلك المنيّ شيئاً يُخلَق، ثم إنّ
المني الذي يتكون منه الإنسان بل يتكون الإنسان من جزء من هذا المني وإلى
هذا الجزء تشير الآية الكريمة في قولـه تعالى:
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}([63])
وقال تعالى:
{أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى}([64])
فالحرف «من» عندما يأتي للتبعيض فحينئذٍ يكون معنى الآية بعض مني.
ومن الاعجاز العلمي في القرآن الكريم أنّ القرآن يعلن بأن
الإنسان مخلوق من تراب، ومحتويات التراب بعد تحليله العلمي حديثاً تبين
أنّه يتألّف من ستة عشر عنصراً بضمنها الاوكسجين والهيدروجين اللذين يتكون
منهما الماء، وأحياناً أُخرى يصرّح القرآن الكريم أنّ الإنسان مخلوق من
صلصال وتراب، قال تعالى:
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}([65])
وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ...}([66])
وقال تعالى:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ}([67])
والطين والتراب والصلصال كلها من تركيبة واحدة من العناصر
الفلزية واللافلزية، وتحليل جسم الإنسان علميّاً يتكون من نفس العناصر
الستة عشر التي يتكون منها التراب أو الطين أو الصلصال لم يزد عليها عنصر
ولم ينقص عنها عنصر.
وهذه الحقيقة التي أثبتها العلم الحديث في عصرنا هذا، صرّح
بها القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، ولم يأت العلم الحديث بشيء
زيادة على ما في القرآن الكريم.
وهذا السبق الذي بيّنه القرآن الكريم يثبت بدليل قاطع أنّ هذا
القرآن من لدن خبير بكل ما في الأرض وبكل مكونات جسم الإنسان، عليم بكل
خلقه وتدبيره، وأنّه هو الذي أنزل هذا القرآن على الحبيب المصطفى (صلّى
الله عليه وآله وسلّم).
* * *
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}([68])
كان الإنسان منذ وجوده على هذا الكوكب ولا يزال يبحث عن
مكونات هذا الكون الذي يعيش فيه، وعن العناصر المشتركة بين أجزاء هذا
الكون، وهل أنّ النجوم والكواكب تتألف من نفس العناصر التي تتألف منها
الأرض؟ وما هي علاقة الأرض بالسماء من حيث التكوين المادي؟ سواء كان ذلك في
الماضي السحيق، أم في زمننا المعاصر، هذه الأسئلة وغيرها من التساؤلات
تراود ذهن الإنسان ويحاول من خلال بحوثه العلمية في العصر الحديث الإجابة
عليها بشكل مقنع.
كانت النظرية السائدة إلى عهد قريب أنّ الأرض والسماء كانتا
شيئاً واحداً دخاناً سديمياً، ثم تجمعت كتلة الأرض من جهة وتجمعت كتل
الاجرام السماوية المتناثرة في هذا الكون المترامي الاطراف ثم انفصلت كتلة
الأرض عن بقية الاجرام السماوية بعد أن كان الجميع مادة واحدة هي الدخان.
هذه هي النظرية السائدة في تفكير العلماء في أغلب أبعادها.
أمّا في البحوث العلمية الأحدث فقد تبيَّن لهم بعد فحص
الاشعاعات الصادرة من النجوم أنّ الأمر مختلف عمّا كان سائداً في تفكير
علماء الفضاء حيث وجدوا أنّ نجوم السماء كانت دخاناً ومن هذا الدخان
المنتشر في السماء لا زالت تتكون بعض النجوم حديثاً، وقد شوهد تكون بعض
النجوم، كما شوهدت نهايات بعض النجوم وكأنّ للنجوم ولادة ووفاة.
وقد وجد العلماء أنّ عناصر الأرض تختلف عن عناصر النجوم فالأرض تتكون من عناصر فلزية ولا فلزية تزيد على مائة عنصر.
أمّا النجوم فانها تتكون من عناصر قليلة جداً، وأهم عنصر تتكون منه النجوم هو الهيدروجين الذي يشكل 99% من تركيب النجوم.
أمّا تركيب الأرض فيختلف من حيث النسب والعناصر، فمثلاً أنّ
الحديد يستحيل أن يتكون في النجوم في ظل الظروف السائدة فيها من حرارة
وضغط، وحيث أنّ الحديد لا يتكون إلاّ في ظل درجات حرارية عالية جداً وضغط
عالٍ جداً لا يتوفر في النجوم، وهي بهذه الكثافة، كي تولّد ضغطاً هائلاً
تتكون ذرة الحديد في ظله، كما أنّ ذرة الحديد لا يمكن أن تتكون في حرارة
الشمس.
وهذا مؤشر واضح على أنّ الظروف التي تكونت فيها الأرض
بعناصرها التي تزيد عن مائة عنصر بما فيها الحديد تختلف عن الظروف التي
تكونت فيها النجوم، فمن الممكن أن نشاهد الآن وفي ظل هذه الظروف تكوين
النجوم، أمّا أن تتكون أرض في ظل نفس هذه الظروف فهذا شيء مستبعد علمياً،
وهذا يعني أنّ الأرض انشئت وكونت في ظل ظروف معينة خاصة ثم خلقت النجوم في
ظروف تختلف عنها.
وانّ الأرض خلقت أوّلاً وخُلقت النجوم، أي انّ خلق الأرض أقدم
من خلق النجوم، لأنّهم وجدوا أنّ أصل جميع العناصر هو الهيدروجين، ومن هذا
الهيدروجين تكونت العناصر إلاّ أنّ عناصر الأرض أكثر بكثير من عناصر الشمس
والنجوم، فاستدلوا على أنّ الأرض تكونت قبل النجوم وإن كانت الأرض والنجوم
بالأصل كتلة واحدة وهذه قضية متفق عليها علميّاً.
إذن فأحدث الدراسات العلمية الفلكية تقول: أنّ الأرض والسماء
كانتا شيئاً واحداً، وأنّ الظروف التي تكونت في ظلها الأرض تختلف تماماً عن
الظروف التي تتكون فيها النجوم.
وبعد هذه المقدمة لنستمع إلى القرآن الكريم وهو يتحدث عن
تكوين الأرض والسماء ونلاحظ مدى التطابق بين ما قرَّره القرآن الكريم وبين
أحدث ما توصل لـه العلم الحديث يقول الله تعالى:
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً
ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا
وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ}([69])
ومن الجدير بالذكر أنّ علماء الفلك كانوا يستعملون سابقاً
لفظة الضباب «السديم» وقد انتقدهم علماء المسلمين على هذا الاصطلاح لأنّه
لا يصلح للدلالة على المادة التي تكونت منها النجوم وذلك لأن السديم هو
عبارة عن غازات عالقة فيها مواد صُلبة معتمة حارة.
هذا التعريف للسديم ينطبق تماماً على الدخان أمّا الضباب
فإنّه ليس حارّاً كما أنّه لا يضم هذه المحتويات. إذن فإنّ اصطلاح الضباب
الذي يستعمله علماء الفلك إلى وقت قريب جداً ليس صحيحاً، لذلك عدلوا عن هذا
الاصطلاح إلى كلمة دخان، في حين نجد أنّ القرآن الذي نزل على النبي الأُمي
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقبل أكثر من أربعة عشر قرناً يستعمل اللفظة
الصحيحة الدقيقة للمادة التي تكونت منها السماء «النجوم» وهي كلمة «الدخان»
قال تعالى:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}([70])
هكذا يقرر القرآن ويبقى قراره ثابتاً من دون تغيير ولا تبديل
رغم تغيرات النظريات العلمية بشأن تكوين النجوم، ورغم تبديل المصطلحات
العلميّة كلّما جدَّ جديد كي ينسجم المصطلح الجديد مع الاكتشاف الجديد ومع
النظرية العلمية الجديدة تخلصاً من التناقض والتضاد بين ما استعمل من ألفاظ
قديمة وبين المكتشفات الجديدة، قال تعالى:
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}([71])
لكنّه من عند الله اذن فلا اختلاف ولا تبديل ولا تغيير، بل
إنّ بعضه يؤيد بعضاً، وهو معجز في بعضه كما أنّه معجز في كله، وانّ أوسطه
كطرفيه في اعجازه، لأنّه من لدن لطيف خبير.
يفتخر الأمريكيون أنّهم أوّل من هبط على سطح القمر وأنّهم
جلبوا بعد عودتهم إلى الأرض بعضاً من تربة القمر وصخوره، وأدخلوها بأعقد
المختبرات لتحليلها ومعرفة العناصر التي تكوّن القمر، وما هي الأدوار التي
مرّ بها القمر إلى أن وصل إلى الحالة التي نراه عليها الآن.
وبعد جهد بالغ اكتشفوا جيولوجياً القمر، أي مكونات قشره
القمر، ثم أرادوا أن يعرفوا باطن القمر، فبعثوا بالمختبرات الفضائية إلى
سطح القمر لإحداث تفجيرات «زلازل اصطناعية» وجعل موجات هذه الهزات تمر
بباطن القمر فاكتشفوا أنّ مكونات القمر هي نفس مكونات الأرض، وأنّ القمر
كان كتلة مثقلة ملتهبة ثم بردت، وأنّ باطن القمر لا يزال مشتعلاً.
والنتيجة التي خلصت اليها هذه الأبحاث القيمة أن القمر كان
مشتعلاً مضيئاً ثم خمد وانطفأ، ومعنى ذلك أنّ القمر كان يبعث بضوئه إلى
الأرض والى ما حولـه من الكواكب.
إذن حينذاك كان القمر مشتعلاً مضيئاً، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة من سورة الاسراء بكل دقة ووضوح، وهي قولـه تعالى:
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ
النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}([72])
فالآية الكريمة تشير إلى آيتين وهما آية الليل وآية النهار،
وهذا أحد تفسيرات الآية لدى المفسرين فآية الليل هي القمر وآية النهار هي
الشمس، فمحونا آية الليل وهي القمر أي طمسنا نورها بما جعلنا فيها من
السواد.
عن ابن عبّاس {وجعلنا آية النهار} يعني الشمس {مبصرة} أي نيرة مضيئة([73]).
«وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قولـه {وجعلنا الليل والنهار آيتين} قال: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل والشمس آية النهار {فمحونا آية الليل} قال: السواد الذي في القمر...
وأخرج ابن عساكر عن علي بن زيد (رضي الله عنه) قال: سأل ابن
الكوا عليّاً (عليه السّلام) عن السواد الذي في القمر، قال: «هو قول الله
تعالى، فمحونا آية الليل»([74]).
فالقمر إذن كان مضيئاً كالشمس ثم خمد وانطفأ أي أنّه طمس، فذهب ضوؤه، والحقيقة أنّه برد ظاهره أي قشرته وبقي باطنه مشتعلاً.
والدليل على أنّ القمر كان مشتعلاً ثم انطفأ هو السواد الذي
نراه الآن كما يشير إلى ذلك الامام علي (عليه السّلام) في بعض الروايات، ثم
إنّ السواد هو ظل الجبال البركانية التي على ظهر القمر، والبركان دليل على
أنّ باطن القمر مشتعل، واشتعال باطن القمر، يدل على أنّ ظاهره كان مشتعلاً
أيضاً ثم برد، واشتعاله دليل على أنّه كان مضيئاً كالشمس.
وهذا ما تشير إليه احدى الروايات عن ابن عبّاس رضي الله عنهما
عن النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) قال: «إنّ الله خلق شمسين من نور
عرشه، فأمّا ما كان في سابق علمه أنّه يدعها شمساً، فإنّه خلقها مثل الدنيا
على قدرها ما بين مشارقها ومغاربها، وأمّا ما كان في سابق علمه أنّه
يطمسها ويجعلها قمراً، فإنّه خلقها دون الشمس في العظم، ولكن إنّما يرى
صغرها لشدة ارتفاع السماء وبعدها عن الأرض»([75]).
لاحظ هذه الرواية الشريفة فإنّها تشير إلى عدة حقائق، منها
أنّ القمر كان مضيئاً مثل الشمس وهذا لا شك أوّل انفصاله عن الأرض التي
كانت هي الاُخرى ملتهبة أيضاً لأنّها منفصلة عن الشمس التي لازالت ملتهبة
في حين بردت الأرض وبرد القمر، وسطح القمر مليء بالفوهات البركانية
الخامدة، التي تدل على أنّ سطح القمر كان فعّالاً بالبراكين ثم خمدت.
ومما تشير إليه الرواية أنّ حجم القمر بحجم الأرض [ما بين
مشارقها ومغاربها] ولو أخذنا مساحة اليابسة على الأرض لوجدناها 21 بالمائة
من مساحة الأرض تقريباً أي أن مساحة اليابسة من المشرق إلى المغرب تساوي
خمس مساحة الكرة الأرضية تقريباً، ولو أخذنا حجم القمر نسبة إلى حجم الأرض
لوجدناه يساوي خمس حجم الأرض.
فمن علّم ذلك الأُمّي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علم الفضاء وأحجام الكواكب وما مرّ على القمر من مراحل، إنّه من لدن عليم خبير.
أمّا على التفسير الثاني الذي يشير إلى أن آية الليل هي ظلامه، وقولـه تعالى: {فمحونا آية الليل}
أي طمسنا الليل، أي اشتد ظلام الليل، وهذا معناه: أنّ الليل لم يكن مظلماً
بهذا القدر، بل كان فيه ضوء فمحونا ذلك الضوء وجعلناه أكثر ظلاماً، {وجعلنا آية النهار مبصرة} وهذا التفسير ينسجم مع أمرين:
الأمر الأوّل: أنّ القمر كان مضيئاً فطمس وذهب ضوؤه فأصبح الليل أشد ظلاماً بعد أن كان فيه الضوء.
الأمر الثاني: ما يؤكده العلماء حيث يقولون إنّ ليل الأرض كان
مليئاً بالأشعة والتوهج نتيجة للشهب والنيازك [فمحونا آية الليل] أي ذهب
ذلك الضوء الذي كان في الليل شديداً وضعف، وذلك لاستقرار الكواكب وبرودتها
بعد انفصالها عن الشمس فقلت الشهب والنيازك ولم تكن بعد برد الكواكب بتلك
الفاعلية والشدة، فذهب ذلك الضوء الذي كانت تسببه تلك الشهب والنيازك فتحيل
فيه الليل نهاراً.
فالآية الكريمة تحتمل كلا المعنيين بل لعلها تجمعهما وتزيد
عليهما بما لا نعلمه، لأنّ اللفظ القرآني يجمع أحياناً معاني عدة في لفظ
واحد، لأنّه من خالق الكون وخالق اللفظ من عالم السر والعلن.
القرآن يتحدث عن الماضي والمستقبل، يذكر حقائق علمية، يتحدث
عن الدنيا والآخرة، عن العلاقات بين الناس، بين الفرد وربّه، بين الدولة
الإسلامية والدول الاُخرى، يتحدث عن البعد الشخصي والموضوعي، وعن البعد
الزماني والمكاني، وهو مع كل ذلك صادق في كل ما يذكر ويقول، وصدقه المطلق
هذا شهادة على أنّه من عند الله وأنّه حق.
أرسل الله تعالى العديد من الرسل لهداية الناس إلى الدين الحق الإسلام:
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ...}([76])
وكأنّ الله تعالى يؤيد من يرسله بالمعجزات تصديقاً لدعوته واثباتاً للناس أنّها من عند الله سبحانه.
وقد تنوعت هذه المعجزات وفقاً للمرحلة التي يحياها ذلك النبي،
وتبعاً للظروف الموضوعية التي تمرّ بها الرسالة، فهناك إحياء الموتى
وانشقاق البحر وجعل النار برداً وسلاماً، وتحول العصا إلى ثعبان، وارتفاع
الجبل فوق بني اسرائيل و. و... الخ من المعجزات التي أثبتت في وقتها صحة
ادعاء كل نبي ورسول.
وكان كل نبي لاحق يؤكد على صدق النبي السابق، ويؤيد حججه
وبراهينه ويصدق معجزاته، ما دام دور الأنبياء في تزكية البشرية وتبليغها
أمر الله تعالى والقيام بأمر الانذار والبشارة مستمراً، وانهاء معجزة نبي
من الأنبياء في وقتها يؤدي تماماً الغرض من المعجزة، ولم يبق على النبي
اللاحق سوى التصديق لما مضى من الأنبياء والرسل والكتب السماوية.
وإذا لم يفترض وجود نبي لاحق فحينئذ لم يتملك الناس اللاحقون
دليلاً على ذلك الصدق سوى النقل المتواتر في حالة بقاء الناس على دين النبي
السابق وعدم انحرافهم عنه، وفي حالة الانحراف لم يبق دليل على صدق ذلك.
ولمّا ختمت الرسالات برسالة نبينا محمّد (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)، فلا نبي بعده، فما الذي يحتج به الناس على صدق دعوى الأنبياء
جميعاً لو لم نفترض وجود معجزة دائمة مستمرة غير منقطعة، علماً أن غير
المسلمين لا يعتبرون النقل المتواتر للمعجزات من قبل المسلمين حجة عليهم،
فلا بدّ إذن من حجة بالغة، وهذه الحجة لا بدّ من أن تحمل اثبات صدقها
واعجازها دلّ على صدق كل ما تدعيه وتحمله.
وهذا ما ينطبق تماماً على القرآن الكريم فإنّه يحمل دليل صدقه
واعجازه وإنّه من عند الله تعالى بنفسه، ومجرد وجود القرآن يعتبر حجة
كافية على الناس مع وجود الحافظ لهذا القرآن، لأنّ وجود القرآن مع فرض عدم
وجود الحفظ لا يعتبر حجة كاملة، وكفاية القرآن بالاحتجاج يشير إليه قولـه
تعالى:
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}([77])
فأين تكمن هذه الكفاية؟ انّها تكمن في القرآن وتلاوته الحقّة،
بألفاظه ومعانيه، فالقرآن يتحدى الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله، إلاّ
أن المشركين من العرب هرعوا إلى القتال والنزال لعجزهم عن الاتيان بسورة
من مثل القرآن، وعجز الأوائل من البلغاء حجة على الأواخر، مع أنّ التحدي لا
يزال قائماً حتّى تقوم الساعة.
وهذا القرآن يتلى ويسمع في الشرق والغرب، حتّى في اذاعات غير المسلمين، وهو ينادي بين الناس:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}([78])
ثم إنّ القرآن يحمل الشهادة على صدقه وأنّه من عند الله تعالى
بنفسه، ويطلب من كل من بلغه هذا القرآن أن يعلم بهذه الشهادة، قال تعالى:
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ
شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ...}([79])
ثم يؤكد القرآن الكريم أنّ هذا القرآن يصدّق به الذين أُوتوا العلم ويعلمون أنّه الحق، قال تعالى:
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ
لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ}([80])
وقال تعالى:
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}([81])
القرآن يقول إنّ السماء كانت دخاناً، وإنّ السماء والأرض
كانتا شيئاً واحداً ثم فصلتا، وهذا خبر أحداث ماضية يستحيل على الإنسان أن
يعلمه إلاّ بتعليم من الله تعالى دفعةً واحدة أو بعد أن يقطع الإنسان شوطاً
طويلاً في المعرفة قال تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا...}([82])
وقد أثبت العلم الحديث أنّ الأرض والمجموعة الشمسية والنجوم كانت كتلة واحدة ثم تجزأت.
وفي عام 1967 التقطت سفينة الفضاء الأمريكية فايكن صورة لنجم يولد ويتكون وأنّ أصله دخان.
فمن أخبر النبي الأمّي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ أصل النجوم دخان، قال تعالى:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}([83])
فالمتعارف عند الناس أنّ الدخان يأتي من النار، وليس العكس أن
تأتي النجوم التي هي كتلة ملتهبة من الغاز أن تولد من الدخان، فهذا ما لا
يتصوره حتّى علماء الفلك والفيزياء والفضاء الذين عاشوا في القرن الماضي
إلاّ أنّ القرآن الكريم يعلم ذلك، ويصرح أنّ النجوم كانت دخاناً.
يقول فرانك بريس مؤلف كتاب «الأرض» والمستشار للرئيس الأمريكي
الأسبق كارتر: «في بداية تكوين الأرض أثبتت الدراسات ما يلي: أنّ الأرض في
بداية تكوينها كان باطنها منصهراً ورفعت هذه المادة المنصهرة بواسطة
البراكين ومدت على القشرة الأرضية وتحت المحيطات، فامتدت الأرض بتلك المادة
المنصهرة، وبنفس تلك العملية خرج الماء من باطن الأرض إلى المحيطات، أي
أنّ كل ماء المحيطات كان في داخل الأرض، وبنفس العملية خرج ثاني أوكسيد
الكاربون الذي كان شرطاً ضرورياً في تكوين النبات في عمليّة التركيب
الضوئي، وبنفس العملية ارسيت الجبال وتكونت، ثم استغرقت الجبال وقتاً إلى
أن استقرت وثبت جذرها».
هكذا كان يصف فرانك بريس وفقاً لما توصل لـه من أدلة علميّة
على تكوين الأرض، والآن تعال معي عزيزي القارئ لنستمع إلى القرآن الكريم
وهو يصف هذه العمليات المتعاقبة.
قال تعالى:
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ
السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ
لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا *
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا *
مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}([84])
ولفظ {دحى}
يعطي معنى: مدّ، وألقى، وهذا اللفظ يغطي عمليتين وهما عملية مدّ سطح الأرض
وتغطيته بالقشرة الارضية وعملية القاء الجبال وتثبيتها داخل تلك القشرة.
ثم لاحظ كلام فرانك بريس: «وبنفس تلك العملية خرج الماء من باطن الأرض إلى المحيطات» ولاحظ قولـه تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها}،
فأنّى لمخلوق، لم يعلم من قبل الله تعالى أن يخبرنا بالطريقة والعمليات
والمراحل التي مرّت بها الأرض أثناء تكوينها، وكأنّ كلام فرانك بريس يفسر
بعضاً من الآيات الكريمة السابقة.
* * *
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ...}([85])
القرآن الكريم ليس كتاباً كيمياوياً ولا فيزياوياً وإنّما هو كتاب هداية للبشرية جمعاء يهديهم لما يصلحهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...}([86])
ثم إنّ هذا القرآن شفاء لما هو في الصدور.
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاّ خَسَاراً}([87])
فالإنسان باتباعه لتعاليم القرآن لا يبقى لديه أي مرض نفسي، فلا يبقى لديه القلق ولا الحزن ولا الخوف وتصبح نفسه مطمئنة.
والوصول بالنفس إلى حالة الاطمئنان أحد الأهداف السامية
العظيمة التي يهدف إليها القرآن الكريم من خلال تربيته للنفس الإنسانية،
لأنّ اتّباعه يوصل إلى أن يكون الإنسان ولياً من أولياء الله، وأولياء الله
نفوسهم مطمئنة تغمرها السكينة، فلا تردد ولا قلق ولا همّ ولا غمّ ولا حزن
ولا خوف، قال تعالى:
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}([88])
ومن المعلوم أنّ الحزن انّما يحدث على ما مضى من الأحداث،
أمّا الخوف فيحدث لما يستقبل من الأحداث والنفس القرآنية منفية عنها كلا
الحالتين وكل اضطراب نفسي إنّما يرجع إلى هاتين الحالتين الخوف والحزن.
وإذا ارتفع الاضطراب والقلق من النفس حلت السكينة عليها فيكون
الإنسان هادئ البال، واثقاً كل الوثوق بخطواته لأنّه يشعر أنّه يتحرك في
رحمة الله تعالى وفي أمانه.
وهذه الحالة الصحية التي يصل اليها الإنسان باتباعه السلوك
القرآني، لا يمكن أن تصل إليها كل أدوية العلم الحديث وكل ما ينفقه من
المليارات في سبيل العلاج النفسي.
بل نجد العكس هو المهيمن على شعوب العالم غير المسلم، فتجد
حياة الضياع، وكثرة حالات الانتحار، وكثرة الأمراض النفسية، ولعل العيادات
للطب النفسي والمصحات النفسية تضاهي عيادات الطب البدني.
وهذه الظاهرة ليست نتيجة للتقدم الحاصل في الغرب وإنّما نتيجة
لكثرة الأمراض النفسية التي يعاني منها المجتمع الغربي، في حين يكاد أن
يخلو منها المجتمع المسلم.
ففي الوقت الذي لا تخلو فيه الصحف اليومية الغربية من ذكر عدة
حالات للانتحار وعلى مختلف مراحل العمر ولمختلف الأجناس، نجد أنّ هذه
الظاهرة ضئيلة جداً في المجتمعات الإسلامية.
وهذا كلّه بفضل الاطمئنان الذي تتركه التربية القرآنية على النفس المسلمة:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ}([89])
{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}([90])
{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}([91])
قلنا إنّ القرآن ليس كتاباً كيمياوياً ولا فيزياوياً ولكنّه بما أنّه من الله تعالى والله سبحانه هو العالم بأسرار هذا الوجود.
لذلك عندما يتعرض إلى حقيقة من حقائق هذا الوجود، فإنّها
تنطبق تمام الانطباق على الواقع، فيأتي الانسجام التام بين اللفظ القرآني
والحقيقة العلمية الموجودة في الكون، فمثلاً يقول الباري عزَّ اسمه:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}([92])
والحديث هنا عن كلمتين فقط في هذه الآية الكريمة وهما كلمة {قرار} وكلمة {مكين}.
فمن المعلوم أن جسم الإنسان يطرد كل جسم غريب يدخله، ونطفة
الرجل جسم غريب، إلاّ أنّ جسم المرأة يستقبل هذه النطفة ويحتضنها وينسجم
معها بدلاً من أن يطردها، أي أنّ كل عوامل استقرار النطفة في الرحم تبدأ
تعمل بمجرد وصول النطفة، وتبدأ النطفة تغوص في جدار الرحم وتغيض فيه:
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}([93])
فتجد النطفة في أول دخولها الرحم وطيلة الفترة ما بين 7-10
أيام كما تذكر كتب علم الأجنة، أنّ النطفة ليس لها عمل في هذه الفترة إلاّ
التعلق والاستقرار في الرحم، يبدأ جزء منها يرتبط بالمشيمة بواسطة عصا
صغيرة «بود ستوك» ثم تكبر هذه العصا وتصبح العلقة مثل الكمثري ويعبر عنها
القرآن الكريم بالعلقة، وبعد مرحلة التعلق يتغير شكلها وهذه المرحلة مرحلة
الاستقرار يلخصها القرآن الكريم بلفظة {قرار} ثمّ لفظة {علقة}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ...}([94])
والمراحل التي يمرّ بها الجنين محسوبة في علم الأجنّة
بالساعات والأيام، والقرآن الكريم يذكر هذه المراحل بدقة علمية فائقة،
وبالفاظ دقيقة تنطبق تمام الانطباق على المرحلة التي يمرّ بها الجنين.
والقرآن يذكرها متسلسلة كما هي في خلقتها التي فطرها الله
تعالى عليها، وسنورد تفصيل ذلك في مواضع قادمة بإذنه تعالى، ونعود للكلام
على لفظة {قرار} فمن الملفت للنظر كيف يتم التلاحم بين النطفة وبين جدار الرحم وكيف يحدث هذا التعلق العجيب من جسم الإنسان الطارد لكل جسم غريب.
وعملية طرد جسم الإنسان لكل جسم غريب قضية يعاني منها الأطباء
خاصة في عمليات نقل الأعضاء وفي عمليات الترقيع والتجميل، إلاّ أنّ الأمر
هنا مختلف تماماً، فجدار الرحم تغوص فيه النطفة، وتلتحم كروموسومات الحويمن
الذكري مع كروموسومات البويضة الانثوبة مكونة الشبكة التي تحمل خارطة
الإنسان الجديد أو مشروع وليد جديد.
ويتنازل جسم الإنسان عن خاصة طرده للأجسام الغريبة، لأنّ
القدرة الإلهية قررت أن يستقبل الرحم النطفة ولا يطردها، ونفس القدرة اطلقت
اللفظ الذي يحتوي هذه المرحلة تماماً هو لفظ {قرار} ثم وصفه باللفظ {مكين} فهو متمكن من حفظ هذا الاستقرار وديمومته حتّى يؤدي الهدف كاملاً من نمو الجنين في مختلف مراحله.
فسبحان الله الذي جعل قرار النفس واطمئنانها بالعلاج القرآني والتربية القرآنية وجعل قرار النطفة بالرحم على أبدع ما يكون:
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}([95])
* * *
يلفت القرآن الكريم أنظار الناس إلى آيات الله تعالى في الكون
ليستدلوا بها عليه تعالى وعلى وحدانيته وعلى رحمته، وليزدادوا يقيناً
وإيماناً أن هذا الكون من تدبير عزيز حكيم، وأنّ كل ذرة فيه تسير وفق نظام
بديع ينسجم مع بقية ذرات الكون، قال تعالى:
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ
يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}([96])
فالخلق كلّه مسخر بتقدير الله العزيز العليم، وكل يؤدي دوره
في الوجود وفق نظام دقيق، وما أعطاه الله تعالى لهذا الإنسان من ارادة
واختيار في دائرة محددة في طول ارادته تعالى أعطاه معه التشريعات التي
بلغها الأنبياء (عليهم السّلام) كي تنسجم الارادة التشريعية مع الارادة
التكوينية في ارادة واحدة وفي خط واحد وفي نظام واحد لأنّه لا تفاوت ولا
اختلاف في خلق الله ولا في سنن الله تعالى.
يخبرنا علماء الأجنّة أنّ كل قذفة من مني الرجل تنزل في الرحم
تحتوي على عدد من الحيامن الذكرية يترواح ما بين 200 مليون إلى 400 مليون
حيمن وإذا قل عدد الحيامن يكون هناك قصر في الإنجاب وهذا الجيش من الحيامن
يسلك طريقه في قناة فالوب متجهاً نحو البويضة الانثوية، وهي هدفه في مسيرته
في تلك الظلمات.
إلاّ أنّ هذا العدد الضخم من الحيامن كلّها تموت باستثناء ما
يقارب خمسمائة حيمن فإنّها تنجو من الموت وتصل إلى جدار البويضة وتحيط بها
كالأكليل.
ومن المعلوم أنّ حيمناً واحداً فقط هو الذي يفتح لـه جدار
الرحم، أمّا بقية الحيامن فتموت أيضاً ولا ينفتح لها الجدار، والكلام هنا
عن حركة البويضة السابحة في فضاء الرحم، وهي حرّة الحركة غير مقيدة داخل
الرحم باي تعلّق.
فإنّ الحيامن التي يترواح عددها الخمسمائة حينما تصل إلى
البويضة وتحيط بها كالأكليل تبدأ تتحرك بحركة دائرية تتجه فيها من الغرب
إلى الشرق عكس عقارب الساعة وهذه الحركة مصورة وممكن رؤيتها بوضوح وأنّها
لآية عظيمة من آيات الله تبارك وتعالى لأنّها تنتظم في حركات الكون ووحدة
حركته، وهذه الحركة ثابتة ومحددة الاتجاه في كل الأرحام ولم تقتصر على رحم
دون رحم.
ومن الملفت للنظر أنّ الالكترونات لها دورتان دورة حول نفسها
ودورة حول نواة الذرة وهي تنتج بهاتين الدورتين الطاقة الكهربية والجاذبية
وهي تدور بنفس الاتجاه أيضاً أي عكس عقارب الساعة حول النواة المكوّنة من
البروتونات والنترونات.
كما أنّ الأرض تدور حول نفسها بنفس الاتجاه من الغرب إلى الشرق وكذلك في دورتها حول الشمس فانّها أيضاً تدور عكس عقارب الساعة.
وكذلك الكلام في دورة الشمس حول نفسها وضمن دائرة المجرة
وكذلك الكواكب في المجموعة الشمسيّة فإنّها تدور حول الشمس عكس عقارب
الساعة.
الكل يدور باتجاه واحد، وهذه الدورات كلّها دورات تكوينية
مسخرة لبارئها سبحانه وتعالى، إلاّ أنّ هناك دورة تشريعية حول الكعبة
الشريفة قبلة المسلمين، وهي بنفس الاتجاه حيث أن حركة الطائف حول الكعبة
أيضاً عكس عقارب الساعة.
فتجد الطائفين حول الكعبة كلّهم ينتظمون بحركة واحدة وباتجاه
واحد ينسجم مع تلك الحركات في الكون من الذرة إلى المجرة ومن حركة البويضة
السابحة في فضاء الرحم إلى حركة الطائف حول الكعبة، وكأنّ الله تعالى يريد
من عباده أن ينسجموا مع حركة الكون، والتكوين وأن تكون حركة المخلوقات في
الحركات التكوينية والتشريعية باتجاه واحد لأنّها جميعاً تدل على محرك واحد
وربّ واحد ومصدرها إله واحد لا إله غيره.
فسبحان الله الذي دلّ على ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقاته، وسبحان الله الذي لا تفاوت في خلقه ولا اختلاف:
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ
الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي
خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ
فُطُورٍ}([97])
* * *
{فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ مِمَّ
خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}([98])
والماء الدافق كما في التفاسير هو المني أي أنّ الإنسان ذكراً
كان أو انثى خلق من ذلك الماء، إلاّ أنّ الخلاف في الضمير المفرد الغائب
في قولـه تعالى: {يخرج} فمن الذي يخرج هل الماء الدافق أم الجنين أي الإنسان؟
فبعضهم يرى أن الذي يخرج من بين الصلب والترائب هو المني، ويفسر الضمير في قولـه تعالى: {رجعه} أنّه يعود على الماء فيقول: «أنّه تعالى على ردّ الماء في الصلب لقادر»([99]).
وبعضهم يُرجع الضمير في قولـه تعالى: {رجعه} على الإنسان «يعني أنّ الذي خلق ابتداء من هذا الماء يقدر على أن يرجعه حيّاً بعد الموت».
وبعض من المحدثين يرى أن لا وصل بين قولـه تعالى: {خلق من ماء دافق} وما بعدها {يخرج من بين الصلب والترائب} ويرى أنّ الضمير في {يخرج} لا يعود على الماء بل على الإنسان وعلى هذا التفسير الذي أيده بعض الأطباء يكون الخارج من بين الصلب والترائب هو الجنين وليس الماء.
وقبل بيان وجه الاعجاز في الآية الكريمة لا بدّ من معرفة معنى
الصلب ومعنى الترائب، فالصلب: عظم من لدن الكاهل إلى العجب، والجمع أصلُب
وأصلاب وصلبه... والصلب من الظهر، وكل شيء من الظهر فيه فقار فذلك الصلب،
أنشد ثعلب:
أما تريني اليوم شيخاً أشيبا
|
|
إذا نهضت أتشكى الأصلبا([100])
|
والترائب: «موضع القلادة من الصدر، وقيل هو ما بين الترقوة
إلى الثنوة، وقيل: الترائب عظام الصدر، وقيل: ما ولي الترقوتين منه، وقيل:
ما بين الثديين والترقوتين، قال الأغلب العجلي:
أشرف ثدياها على التريب
|
|
لم تعدو التفليك في النتوب
|
والتفليك: من فلك الجدي، والنتوب: النهود، وهو ارتفاعه، وقيل
الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة من يسرته... وقال أهل اللغة
أجمعون الترائب موضع القلادة من الصدر وأنشدوا:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
|
|
ترائبها مصقولة كالسجنجل([101])
|
وهناك معان أُخر لسنا بصدد ذكرها.
تذكر الآية الكريمة تدفق الماء وأنّ الإنسان خلق منه وعلى تقدير عود الضمير الغائب في {يخرج} على الماء يكون الماء هو الذي يخرج من بين الصلب والترائب.
ومن المعلوم أنّ ماء الرجل يتكون في الخصية ولواحقها، وبويضة
المرأة تتكون في المبيض، وفي أصل تكون الخصية والمبيض في الجنين فانهما
يتكونان من تحدب بين صلب الجنين وهو العمود الفقري وترائبه وهي الأضلاع، ثم
تتحرك الخصية في الشهر السابع خارج الجسم وينزل المبيض إلى حوض المراة،
إلاّ أنّ تغذيتها تبقى من بين الصلب والترائب حيث تأتي الدماء والأعصاب
واللمف من تلك المنطفة.
وكذلك فإنّ المواد المكونة للحيوانات المنوية في الرجل
ولبويضة المرأة تنبع أيضاً من بين الصلب والترائب، ولا بدّ من الالتفات إلى
الاعجاز العلمي في كلمة {من بين} ولم تقل الآية من الصلب والترائب.
وقد اختلط الأمر على السيد قطب في ظلاله ففسر الماء الدافق
بأنّه الخارج من الصلب، العمود الفقري للرجل، ومن الترائب العظام العلوية
من صدر المرأة، ونسب هذا التفسير خطأ إلى العلم الحديث.
والواقع أنّه لا ينسجم مع آخر ما توصل إليه العلم الحديث.
قال: «فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أيّ شيء صار، إنّه
خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب»، خلق من هذا الماء الذي يجتمع
من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها
العلوية.
لقد كان هذا سرّاً مكنوناً في علم الله لا يعلمه البشر حتّى
كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته وعرف
أنّه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل وفي عظام الصدر العلوية يتكون
ماء المرأة، حيث يلتقيان في قرار مكين ينشأ منهما الإنسان.
وعلى تقدير الصلب العمود الفقري والترائب موضع القلادة من
الصدر يكون خروج المني والبويضة من بينهما وكذلك خروج الماء الدافق من
بينهما.
وهذا تحديد علمي دقيق استوعبته الآية الكريمة ولم يكتشفه العلماء إلاّ حديثاً بعد دراسة المراحل الخلقية التي يمرّ بها الجنين.
* * *
قبل مائة وخمسين عاماً لم يكن الإنسان متمكناً من الطيران في
الجو فضلاً عن الفضاء الخارجي، كما أنّ تفكيره في هذه المسألة لم يكن جدياً
على مستوى القضية.
إلاّ أنّ القرآن الكريم أخبر إخبار الواثق الذي لا ريب في
صدقه بأنّ الإنسان سوف يحاول الوصول إلى السماء وان محاولته هذه على
مرحلتين:
الأُولى: قبل استراق السمع، وهي في جو السماء الدنيا.
والثانية: مرحلة استراق السمع.
ويخبرنا القرآن أنّ المرحلة الاُولى ممكنة حينما تتوفر
الوسيلة اللازمة لذلك الأمر، أمّا المرحلة الثانية: فليست مسموحاً بها،
وإنّما ستصيبهم الشهب ويُرسَل عليهم شواظ من نار ونحاس فيستحيل وصولهم لذلك
الحرم من السماء، وقال تعالى:
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ
وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ}([102])
وقال تعالى:
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ
فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ
لَهُ شِهَاباً رَصَداً * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي
الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}([103])
الآيات الاُولى من سورة الرحمن تتحدث بوضوح عن انطلاق الإنسان
بالجو وبالفضاء الخارجي وعن انطلاقة الجن كذلك، حيث أنّ الخطاب موجّه للجن
والانس {يا معشر الجن والإنس}.
ثمّ عند وصول الجن والانس إلى المنطقة المحرمة من السماء يبين لهما القرآن أنّه يرسل عليهما شواظ من نار ونحاس، {يرسل عليكما} الجن والإنس.
وهذا يعني أنّ ما قبل ارسال الشواظ هناك امكانية للجن والإنس
بالوصول، ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين نعيش المرحلة الاُولى من
التحرك في الجو وفي الفضاء أمّا المرحلة الثانية فالآيات الكريمة تخبرنا
مسبقاً بأنّها ليست ممكنة لنا واي محاولة من هذا القبيل فيه خائبة.
وقد سبقنا الجن في تينك المحاولتين ومُنعوا بالمرحلة الثانية، كما تتحدث عن ذلك الآيات الثانية من سورة الجن:
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً}
ثم تتحدث الآيات عن اماكن الانصات لاستراق السمع وأنّها أصبحت
محرمة، وهناك خلاف بين بعض المفسرين في أنّ الرجم للجن هل حدث بعد مبعث
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أنّهم كانوا يتخذون مقاعد
لاستراق السمع ثم ملئت بالحرس.
قال العلامة الطباطبائي في الميزان 19/43: [قولـه تعالى:
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}
يفيد انضمام صدر الآية إلى الآية السابقة أنّ ملء السماء
بالحرس الشديد والشهب مما حدث أخيراً وأنّهم كانوا من قبل يقعدون من السماء
مقاعد لاستماع كلام الملائكة ويفيد ذيل الآية بالتفريع على جميع ما تقدم
أنّ من يستمع الآن منا بالقعود منها مقعداً للسمع يجد لـه شهاباً من صفته
أنّه راصد لـه يرميه به الحرس].
أما قولـه تعالى:
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا}... الخ.
فيقول صاحب الميزان في تفسيرها: [والمعنى: يا معشر الجن
والإنس ـ وقد تقدم الجن لانهم على الحركات السريعة أقدرـ إنْ قدرتم أن
تفرّوا بالنفوذ من نواحي السماوات والارض والخروج من ملك الله والتخلص من
مؤاخذته ففروا وانفذوا، وقوله:
{لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ}
أي لا تقدرون على النفوذ إلا بنوع من السلطة على ذلك وليس لكم
السلطان القدرة والوجودية، والسلطان: البرهان أو الملك أو مطلق الحجة،
وقيل: المراد بالنفوذ المنفي في الآية النفوذ العلمي في السماوات والارض من
أقطارهما]([104]).
إنّ حقيقة أن يتحدّث القرآن الكريم عن غزو الفضاء ومحاولة
استراق السمع من السماء قضية لها معناها الاعجازي إذا ما لوحظت الظروف
الموضوعية التي نزلت بها الآيات الكريمة التي تحدثت عن هذه الحقيقة في وقت
لم يكن الإنسان يعرف شيئاً عن الطيران في الجو فضلاً عن غزو الفضاء.
أما الحقيقة الفضائية الثانية التي تحدث عنها القرآن الكريم،
فهي قضية كيفية السير في الفضاء الخارجي في الطريق إلى السماء حيث يعبر
القرآن عن ذلك باللفظ «عرج» وعرج في اللغة تعبر عن كل ماله انحناء وانعطاف
مثل: رجل أعرج، وكلمة «العرجون» يعني عذق التمر القديم الذي انحنى كالهلال،
قال تعالى:
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}([105])
والأمر الاعجازي في هذا الصدد أنّ القرآن كلّما تحدث عن موضوع
السير بالفضاء فإنّه يستعمل لفظة «عرج» ومشتقاتها كما في الآيات التالية:
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا
سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}([106])
وقال تعالى:
{...ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}([107])
ومن الملاحظ أن الآية تذكر مدة زمنية هائلة بالنسبة لعروج
الملائكة الذين لا نعلم سرعة اختراقهم للفضاء وهذا دليل على سعة الفضاء
الخارجي بما لا يستوعبه العقل.
كما أنّ الرقم في الآية الكريمة يشير إلى أنّ سرعة الملائكة
أسرع من سرعة الضوء لأنّ السماوات تقطع في مليارات السنين الضوئية والرقم
«ألف سنة أو خمسون ألف سنة» مما تعدّ قليل بالنسبة لتلك المليارات.
والأمر الآخر هو بيان كيفية السير في الفضاء وهي على شكل
معارج منعطفات ومنحنيات أي أنّ السير في الفضاء لا يتم بشكل مستقيم وإنّما
بشكل منحنٍ وهذه حقيقة فضائية لم يعرفها الإنسان إلاّ في القرن الحالي
حينما انطلقت المركبات الفضائية خارج نطاق جاذبية الأرض فوجدت نفسها تسير
على شكل حلزوني تحدده خطوط المجال المغناطيسي للكواكب فالمركبة عندما تنطلق
من كوكب إلى كوكب تسير بشكل متعرج وليس مستقيماً.
والقرآن الكريم يحرص على استعمال هذه اللفظة «عرج» ومشتقاتها
بل إنّ هناك سورة اسمها سورة «المعارج» حتّى المسلمين جميعاً عندما يتحدثون
عن زيارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للسماء فإنّهم يقولون «معراج
النبي» ولم يتعلموا لفظة أُخرى مثل ارتقاء أو صعود أو طيران أو ما شاكل ذلك
اقتداءاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبالقرآن الكريم.
ومن الملاحظ في هذا الصدد أنّ القرآن يفرق بين السير في الجو
«الغلاف الغازي» وبين السير في الفضاء الخارجي، فنلاحظ أنّه يستعمل كلمة
«أسرى» في الانتقال من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. والإسراء السير
ليلاً:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}([108])
ويستعمل كلمة «يصّعّد» في الغلاف الغازي أيضاً:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}([109])
ومن المعلوم أنّ الحديث عن الوصول للطبقات العليا من الغلاف
الغازي حيث يخف الضغط الجوي وتقل كثافة الهواء وهذا اعجاز آخر، في حين
تتحدث الآيات بلفظ «يعرج» ومشتقاتها في السير في الفضاء الخارجي:
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ...}([110])
وهذه حقائق علمية تحدث عنها القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرناً وبوضوح تام.
وهذه الحقائق لم يكن يتسنى للإنسان أن يعرف شيئاً عنها حتّى
في القرن التاسع عشر أو ليس هذا دليل قاطع على الاعجاز القرآني وعلى أنّ
هذا القرآن من لدن حكيم عليم وأنّ محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) رسول من عند الله تعالى؟
الشمس نجم كبير يقدر حجمه بحوالي مليون وثلاثمائة ألف مرة
بحجم الأرض، ويبلغ قطر الشمس مليون و392 ألف كيلو متراً، ويقدر علماء الفلك
تكوّن الشمس منذ ما يقارب خمسة مليارات سنة، وهي الآن في منتصف عمرها أي
أنّها سوف تخمد وتنتهي حرارتها ويذهب ضوؤها بعد خمسة مليارات سنة، قال
تعالى:
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}([111])
وشأن كل نجمة أنّ لها يوماً ولدت به، ولها يوم سوف تموت فيه
وتصل لذلك اليوم بشكل تدريجي حيث تفقد ضوءها وحرارتها بشكل تدريجي، والشمس
تحول كل ثانية ستمائة مليون طن من الهيدروجين إلى الهليوم.
وخلال هذه العملية تنعدم خمسة ملايين طن من الهيدروجين،
وتتولد خلال هذه العملية مختلف أنواع الطاقة من ضوء وحرارة، وتمتد ألسنة
اللهب من سطح الشمس أثناء هذا التحول إلى ما يقارب عشرة آلاف كليومتر.
وهذه التحولات نشبهها بقنابل هيدروجينية تتفجر داخل الشمس
وتصدر خلال تلك الانفجارات أشعة «جاما» وأشعة «أكس»، وتوجد خلال ذلك حقول
الطاقة الكهرومغناطيسية.
فالشمس وفقاً لهذا الوصف العلمي كتلة ملتهبة من الغاز، ويعبر
عنها القرآن الكريم تعبيراً رائعاً ينسجم مع عقول الذين عاشوا في صدر
الرسالة، ومع عقول الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، قال تعالى:
{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً}([112])
وقال تعالى:
{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}([113])
وقال في اللسان: «والسراج المصباح الزاهر الذي يسرج بالليل، والجمع سُرُج، والمسرجة: التي فيها الفتيل»([114]).
وللشمس عدة حركات فهي تدور مع توابعها حول مركز المجرة، وتكمل
دورتها حول مركز المجرة أيضاً في كل «250» مليون سنة مرة واحدة ولغاية هذا
الوقت أكملت الشمس عشرين دورة.
وهذا يعني ـ بناءً على حساب علماء الفلك ـ أنّ أمامها عشرين
دورة اُخرى قبل ان تصل إلى نهايتها وموتها حيث أنّ لهذه الشمس كما للنجوم
والكواكب الاُخرى أجلاً لا بدّ أن تبلغه، حيث تموت وتنتهي عندما تصل إليه،
قال تعالى:
{...وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً...}([115])
وقد تكرّر لفظ «أجل مسمّى» مراراً بالقرآن الكريم، وهناك آية كريمة حددت بالضبط أن للشمس مستقراً سوف تنتهي إليه قال تعالى:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}([116])
ويأتي دور العلم الحديث فيحدد علماء الفلك بالضبط هذا المستقر الذي تنتهي إليه الشمس، ويسمونه «مستقر الشمس» Apex, Solaire، حيث تستمر الشمس في حركتها نحو نقطة تقع في فلك هرقل Constellation، وتلك النقطة التي هي مستقر الشمس حدد العلماء تماماً احداثياتها حيث تقع مجاورة فيجا Vega Lyrae، تتجه الشمس نحو تلك النقطة «المستقر» بسرعة تقدر بحوالي تسعة عشر كيلو متراً في الثانية.
والعلماء يحتاجون في تحديد ذلك المستقر إلى ثلاثة أشياء وهي
سرعة الشمس في الثانية وتحديد الفلك «المدار» الذي تسير فيه الشمس وما
تفقده الشمس من وزنها لأنّ ذلك يؤثر على سرعتها وجاذبيتها حيث يتغير مدارها
تبعاً لذلك، والفلك والجريان بحساب خاص أشار إليه القرآن الكريم فمن حيث
الفلك الذي تتحرك فيه الشمس أشار القرآن إلى أنّ الشمس تدور في فلك، قال
تعالى:
{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([117])
وقال تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([118])
والفلك هو المدار الذي تسير فيه الشمس حتّى تنتهي لمستقرها،
وذكر الفلك بهذه الصراحة في القرآن الكريم وكون الشمس والقمر لكل منهما فلك
يدور فيه أمر في غاية الأهمية حيث كان الاعتقاد السائد في عصر النزول أنّ
الشمس تتحرك مع الأرض كنقطة ثابتة، وهذه النظرية يعود أصلها إلى نظام
المركزية الأرضية السائدة منذ القرن الثاني قبل الميلاد أي منذ عهد بطليموس
إلى القرن السادس عشر للميلاد عهد كوبرنيك.
في حين يؤكد القرآن الكريم أنّ الشمس تجري وفي فلك تسبح فيه،
علماً أنّ كلمة «فلك» كانت تحير المفسرين، فقد جاءت عدة تفسيرات لهذه
الكلمة مثل: «وهو كهئية حديد الرحى، كرة سماوية، مدار، بروج، جري، سرعة،
موج مكفوف» ولو كانت كلمة فلك تعني مفهوماً محدداً لما كثر هذا الاختلاف في
تفسير معناها، وهذا يدلل أيضاً أن معلومات الناس بعيدة جداً عن أن تفهّم
معنى كلمة فلك كما نفهمه نحن الآن، في حين جاءت الآيات الكريمة بذكر الفلك
والجريان والمستقر، أمّا ذكر السرعة والجريان فقد جاء معناهما في آيات
عديدة، وفيها دلالة على الانتظام في السير، وأنّ سير الشمس يتمّ ضمن قانون
ونظام محدود وبحساب خاص قال تعالى:
{...وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً...}([119])
وقال تعالى:
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}([120])
وقال تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}([121])
قال الطبرسي([122]): «دائبين: أي دائمين لا يفتران».
وقال العلامة الطباطبائي([123]): «قال الراغب: الدأب: أدمة السير دأب في السير دأبا، قال تعالى: {وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين} والدأب العادة المستمرة دائماً على حالة، قال تعالى:
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ...}([124])
أي كعادتهم التي يستمرون عليها وهذا يعني أنّ الشمس والقمر
لهما عادة مستمرة ومنتظمة، وعندما نضم هذا المعنى إلى كلمة «حسباناً» وكلمة
«بحسبان» نخرج بمعنى واضح للانتظام بالسير وإلاّ لو كانا غير منتظمين
بالسير لما تمكّنا أن نحسب السنين والشهور والأيام عليهما، قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ
النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}([125])
إذن الشمس والقمر يجريان في فلك وبحساب نتمكن أن نعلم من تلك
الحركة الزمن والحساب، أمّا ذكر الجري فقد جاء معناه مكرراً في القرآن
الكريم:
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً}([126])
والأمر المهم بالآيات تحديد النقطة «الأجل» التي تنتهي إليها
الشمس والتي حددها العلماء وعبّر عنها القرآن بكلمة «لمستقر لها» وهذا أوج
التناسب في أن يفهم من يعيش في عصر النزول الآية وأن يعرف من يعيش في القرن
العشرين وما بعده معنى الآية على ان ينطبق تمام الإنطباق، رغم تفاوت
النظريات في هذه الأمور إلى ما قبل القرن السادس عشر الميلادي إلاّ أنّ
جميع ما كان سائداً آنذاك وقبل القرن السادس عشر لم يكن ينطبق مع ما تناوله
القرآن الكريم من مفاهيم لا من قريب ولا من بعيد.
وجاء العلم الحديث ليؤكد وبشكل قاطع صحّة ما ذكره القرآن
الكريم وبصدق تام ينطبق تمام الانطباق على ما فصّله الوحي وفي آيات عدة،
فهل يعقل أن تأتي هذه الدقة العلمية في حديث عن السماء وأجرامها من إنسان
أُمّي لم يطالع كتاباً ولم يتعلم في مدرسة ويعيش ضمن مجتمع متخلف في شتى
المجالات وإذا به يخرج على العالم بكتاب فيه مختلف العلوم:
{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ...}([127])
وتحدى الجن والانس ولا يزال يتحدى أن يأتوا بمثله وها هو يهتف في كل اذاعات العالم:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}([128])
ولم يتمكن أحد أن يجد فيه خطأة واحدة تخالف العلوم الحديثة،
ألا يدل ذلك دلالة قاطعة أنّه من لدن حكيم عليم وأنّ مبلّغه رسول أمين
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وأنّه معجز حقّاً بكل ما فيه؟
* * *
الذي لديه اطلاع اجمالي على علوم البحار يعرف أن البحار على
قسمين بحر قاري ويتدرج عمقه من 1 متر إلى 200 متر، وبعد ذلك يبدأ عمق البحر
بشكل عميق يصل إلى ما يقارب العشرة كيلومترات وفي أعماقه تنعدم الرؤية،
والأعماق السحيقة في البحار لم يتمكن الإنسان من الوصول إليها إلاّ في
الآونة الأخيرة، في الربع الأخير من القرن الثامن الميلادي حيث اخترع باشنل
الأمريكي عام 1776، أوّل غواصة ذات محرك وقبل هذا التاريخ لم يكن يعرف
الإنسان أي شي عن أعماق البحار وما يجري فيها، وبدأ اكتشاف عالم البحار
بشكل تدريجي منذ ذلك التاريخ.
وفي أوائل عام 1900 اكتشف مسّاحو البحار الاسكندنافيون وجود
أمواج تحت سطح الماء بمسافات عميقة واكتشفوا أنّ هذه الأمواج التي في أعماق
البحار تقذف الغواصات وتغير مجرى سيرها، كما تفعل الأمواج السطحية في
السفن، وفي عام 1975 تمكنت ابولوسيوز تصوير الأمواج الداخلية باطن مياه
المحيط شرقي شاطئ تايلاند.
وحقيقة الأمواج الداخلية كانت قضية مستورة عن الإنسان حتّى
عام 1900، في حين يتحدث القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بشكل واضح في قولـه
تعالى:
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ
لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}([129])
وهناك تيارات بحرية سطحية وأُخرى في أعماق البحار تترواح
سرعتها ما بين 4-7 كم في الساعة، وقد اكتشف العلم الحديث أن سبب حدوث هذه
التيارات هو اختلاف نسبة الملوحة في مياه البحار والمحيطات وترجع لعامل
آخر، فمثلاً نسبة الملوحة في البحر المتوسط تصل إلى 38 بالألف «38 غرام في
الليتر الواحد» في حين أنّ الملوحة العادية في البحار في حدود 36 بالألف
كما هي النسبة لملوحة المحيط الأطلسي.
كما أن لتفاوت درجات الحرارة أثراً في حركة المياه وحصول
التيارات البحرية السطحية والداخلية والتي لها أثر في حصول الأمواج السطحية
والداخلية، ففي مثال المحيط الأطلسي باتجاه البحر الأبيض المتوسط بالمحيط
الأطلسي هو صخرة تشكل سداً يبلغ عمق الماء عنده 320 متراً فقط.
ويوجد هناك تياران أحدهما سطحي بسمك 100 متر والآخر أعمق...
حتّى 320م ويتجه من البحر المتوسط باتجاه المحيط الأطلسي وسرعة التيارين
كبيرة تبلغ حوالي 7 كم في الساعة، ويزيد في سرعة هذين التيارين اختلاف
مستوى الماء بين الأطلسي والمتوسط نظراً لارتفاع المد في الأطلسي ولازدياد
معدل التبخر في المتوسط عن الأطلسي، حيث يصل التبخر في المتوسط إلى حوالي
مائة ألف متر مكعب في الثانية الواحدة صيفاً.
«وقد استغلت البحرية الألمانية الحربية هذه التيارات إبّان
الحرب العالمية الثانية لتفادي كشف تحركاتها من وإلى المتوسط عن طريق أجهزة
التنصت البريطانية المركزية في قاعدة جبل طارق، فكانت الغواصات الألمانية
توقف محركاتها وهي على أعماق قليلة تحت سطح الماء، فيدفعها تيار الأطلسي
السطحي نحو المتوسط، أمّا الغواصات الخارجة فكانت تغوص إلى أعماق أكبر من
مائة متر فيدفعها تيار البحر المتوسط العميق نحو الأطلسي ودون الاستعانة
بالمحركات»([130])
وهذان التياران الناتجان عن تفاوت درجات الحرارة بين مياه
المتوسط والأطلسي وعن تفاوت نسبة الملوحة وذلك بسبب كثرة التبخر في المتوسط
فيؤدي إلى زيادة ملوحته لأنّه بحيرة شبه منغلقة فتصل نسبة ملوحته إلى 38
غرام في الليتر الواحد من الماء.
هذان العاملان وعوامل أُخر منها حركة الأرض وحركة الزلازل،
كلّ ذلك أدّى إلى وجود التيارات البحرية المسببة للأمواج السطحية
والداخلية، ولم يكن يعرف علماء البحار شيئاً عن التيارات الداخلية في أعماق
البحار فضلاً عن الأمواج المتسببة عنها إلاّ عام 1900، فهل يمكن لشخص عاش
في صحراء الجزيرة العربية أن يقرأ المستقبل ويكشف عن نبوءة علمية سوف تظهر
بعد 14 قرناً، ما لم يكن ذلك وحياً من الله تعالى الخالق لهذا الكون
والعالم بأسراره ومكنوناته، بل لو اجتمعت البشرية في تلك العصور من شتّى
الحضارات: اليونانية والهندية والفارسية وغيرها على عقل رجل واحد وطلب أن
ينطق بحقيقة علمية واحدة من هذه الحقائق التي اكتشفت الآن لما تمكن وعجز عن
ذلك.
في حين أنّ القرآن الكريم كشف عن حقائق كثيرة ولا زال يكتشف يوماً بعد يوم:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}([131])
والبشرية عاجزة بأجمعها أن تأتي بمثل هذا القرآن بل بسورة من
مثله وهو الذي يتحداها ويستفزها ولا يزال رغم كل هذا التقدم التكنلوجي ورغم
ترجمة معانيه لمختلف اللغات، وقراءته ليل نهار في كل الأصقاع من الاذاعات
وغيرها، في البلدان الإسلامية وغيرها، يتحدى ويعطي نتيجة العجز سلفاً
بقولـه تعالى:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}([132])
والجدير بالذكر؛ يُنقل أنّ الآية التي تذكر نوعين من الأمواج
عندما تليت على كوستو عالم البحار أعلن إسلامه بعد سماعه لتلك الآية
الكريمة وما تتضمنه من أسرار.
* * *
أُحيطت فكرة تخلّق الجنين بضروب من الأساطير والخرافات تتبدل
بين قرن وآخر على غير هدى وبدون معرفة حقيقة تكشف عن الواقع الموضوعي
لتكوين الجنين.
لقد سادت تلك الخرافات والأساطير قروناً عديدة استمرت بعد القرون الوسطى حتّى عصر هارفي «HARVEY»
الذي يعتبر اكتشافه المرحلة الحاسمة التي تفصل بين الأفكار النظرية التي
لا تعتمد على البحث العلمي التجريبي وبين العصر العلمي، حيث أعلن هارفي عام
1651م أنّ كل حي يأتي من بويضة وأنّ الجنين يتخلق تدريجياً جزءاً بعد جزء.
وحقيقة أنّ الكائن الحي يأتي من بويضة يصرح بها القرآن الكريم في قولـه تعالى:
{... فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ...}([133])
وقوله تعالى:
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى}([134])
وقوله تعالى:
{إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}([135])
أمّا الحقيقة الثانية التي أعلنها هارفي وهي أنّ الجنين يتخلق
تدريجياً جزءاً بعد جزء، فهذه أيضاً صرح بها القرآن الكريم في قولـه
تعالى:
{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}([136])
وقوله تعالى:
{... يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاث...}([137])
وبعد اكتشاف هارفي كان النقاش يدور بين العلماء حول كل من البويضة والحيوان المنوي في تخليق الجنين.
فكان بوفون «BOFFON» العالم الطبيعي يؤيد فكرة دور البويضة بالجنين.
في حين كان بوني «BONNIE» يدافع عن
نظرية اندماج البذور واستمر هذا الحوار حتّى القرن الثامن عشر الميلادي، في
حين أنّ القرآن الكريم حسم هذه القضية قبل عدة قرون وذكر بأنّ خلق الإنسان
يكون في البدء من النطفة ثم من مرحلة أُخرى يكون من نطفة أمشاج «البويضة
الملقحة» قال تعالى:
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى* مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}([138])
ولاحظ الحرف «من» في الآية الكريمة فانّها للتبعيض حيث أنّ
الإنسان لا يخلق من جميع النطفة وإنّما من بعض النطفة وهو الحويمن السابح
في النطفة.
ويقول الباري تعالى في آية أُخرى:
{إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}([139])
وأمشاج معناها أخلاط، فالحويمن من نطفة الرجل يحمل 23 زوجاً
من الصبغيات، والخلية «البويضة» من المرأة تحمل نفس العدد والتقاء هذه
الأعداد من الطرفين تتشكل الشبكة الكروماتية التي يبدأ تخلق الجنين بعدها
وتتكاثر الخلايا بشكل سريع:
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}([140])
بعد هذا الازدواج الذي هو معجز بذاته لأنّ الجسم الانساني
يرفض أي جسم غريب عنه فكيف تتعانق البويضة مع الحويمن بشوق مشكّلة الشبكة
الكروماتية انّه سر من أسرار صنعة الله:
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ...}([141])
ان نطفة الرجل تحوي ما بين 200 مليون إلى 400 مليون حويمن والحيمن هو الذي جعله الله تعالى في تحديد الانوثة والذكورة «YX» أمّا البويضة في الأُنثى فلا تحمل إلاّ عامل الانوثة «X» وعملية التلقيح بين الحويمن والبويضة التي تتم في الرحم تقع بين حيمن واحد من هذه الملايين والباقي يموت.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا لا تختل نسبة التوازن بين
الذكور والاناث على الأرض كأن تزيد أكثر عمّا هي عليه للاناث أو تنقص
كثيراً ما دامت القضية راجعة لقانون الاحتمال؟ وهذا السؤال يطرح على كل
زوجين حيين في هذه الأرض ولم يختص الأمر بالنوع الإنساني، إلاّ أنّ هبة
الله تعالى وارادته هي النافذة في توزيع هذه النسبة قال تعالى:
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ
لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً...}([142])
وما أن تتلقح البويضة حتّى يبدأ التكوين العجيب والانقسام
السريع في الخلايا بشكل لا يتصوره العقل فمن خلية واحدة إلى اثنتين ثم أربع
ثم ثمان وهكذا «1-2-4-8-16-32-64-256...» إلى خمسين انقساماً في الأيام
العشرة الأُولى حتّى تصل الخلية المنقسمة إلى الرحم لتستقر به.
وبامكاننا أن نعرف هذا الانقسام وسرعته وزيادة عدد الخلايا
ووزن الخلية الاُولى معها إذا علمنا أنّ الخلية الملقحة الاُولى يبلغ وزنها
1 من مليار من الغرام وبعد تسعة أشهر يصل وزنها إلى 3250 غراماً أي تصل
إلى ثلاثة آلاف مليار مرة بقدر وزنها الأوّل فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقبل الخوض بالمرحلة الثانية من تخلّق الجنين لا بدّ أن نعرف
أنّ الكلام القرآني يقسم هذا التخلق إلى عدة مراحل وهي: مرحلة النطفة،
مرحلة العلقة، مرحلة المضغة، مرحلة العظام واللحم ثم الخلق الآخر.
وسيكون الحديث في الموضوع القادم إن شاء الله تعالى عن تقسيم القرآن الكريم لهذه المراحل.
* * *
الذي يلقي نظرة على تاريخ الحركة العلميّة في مجال الطب يجد
أنّ البشرية بدأت تحبو في هذا المجال، وعَوَّلّت على استعمال السحر في علاج
الأمراض في عهد الفراعنة، ثمّ أعقب ذلك مرحلة التعليل لبعض الأمراض وإن
كانت أغلب التعليلات تجانب الصواب وذلك في عهد بزوغ عباقرة اليونان.
وبدأت البشرية وبفضل انتشار الإسلام تضع يدها على التعليلات العلميّة وبشكل منهجي رائع.
وبعد أن ترجمت الكثير من الكتب الإسلامية ونقلت لعواصم أوربا
بدأت النهضة العلمية في أوربا في القرن السادس عشر الميلادي، ثم بدأ عصر
التفكر في القرن السابع عشر وكان علماء الطب يتصورون أنّ الإنسان يُخلّق
كاملاً في الحيوان المنوي. رغم اختراع المكرسكوب في ذلك الوقت.
وفي القرن الثامن عشر كانوا يتصوّرون أنّ الإنسان يُخلّق
كاملاً من البويضة في المرأة ثم في القرن التاسع عشر بدأ اختراع الأجهزة
الدقيقة التي أسهمت في كشف دقائق المخلوقات فأخذ العلماء يراقبون تطور
الجنين في مختلف مراحله، وعُقدت مختلف الدراسات لهذه الأغراض ومع كل ذلك لم
تكن مراحل تطور الجنين واضحة كما هي عليه في القرن العشرين خاصة في النصف
الأول منه.
وبدأت الصور تتضح لدراسة تلك المراحل في النصف الثاني من القرن العشرين بعد الكشوفات الحديثة في مختلف المجالات العلمية.
إنّ كل ما توصلت إليه العلوم الحديثة نراه واضحاً وبعبارات شاملة ودقيقة غاية الدّقة في القرآن الكريم بيّنت مراحل تطور الجنين.
حتّى أنّ الألفاظ القرآنية تنطبق تمام الانطباق على كل مرحلة من مراحل تطور الجنين.
ولا شكّ أن الإنسان خلق من تراب، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا
نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مسمّى...}([143])
فالآية الكريمة تعلن بوضوح أنّ الإنسان مخلوق من تراب وقد
أثبت العلم الحديث أنّ جسم الإنسان يتكون من ستة عشر عنصراً مثل الحديد
والصوديوم والكالسيوم والأُوكسجين والهيدروجين والكاربون واليود... الخ.
كما أثبت العلم الحديث أن التراب يتكون من نفس هذه العناصر الستة عشر بلا زيادة أو نقيصة، قال تعالى:
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}([144])
وقال تعالى:
{... إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}([145])
وقال تعالى:
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ}([146])
والمرحلة الاولى التي يتمّ فيها التخليق هو تخليق النطفة، وأنّه يوجد في السائل المنوي تخليق قال تعالى:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}([147])
وقال تعالى:
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}([148])
كشف العلم الحديث أنّ مرحلة النطفة تمر في ثلاثة مستويات من حيث تحديد جنس الجنين:
المستوى الأوّل: مستوى التقدير في
«الزايكوت» البيضة الملقحة أي أنّ هذا المستوى هو مشروع إنسان مقدّر وحتى
الجنسية (ذكر أو أُنثى) فإنّها مقدّرة حيث يحمل الكروموسوم في الحويمن
إشارة X أو Y.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المستوى والى مستوى تحديد الذكر والانثى قال تعالى:
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}([149])
المستوى الثاني: وفي هذا الطور الذي يتم في
العلقة ثم المضغة يبدأ التخليق في صورة براعم حيث تتخصص بعض الخلايا في حين
يبقى البعض الآخر من غير تخصص، وهنا يعبّر القرآن الكريم عن هذه المرحلة
بقولـه تعالى:
{ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}
وهذا المستوى ينتهي بنهاية اليوم الثاني والأربعين من عمر
النطفة وفي هذا المستوى لم يظهر السمع والبصر والجلد واللحم والعظام في
الجنين ولا تظهر الأعضاء التناسلية.
المستوى الثالث: ويبدأ بعد اثنين وأربعين يوماً بعد ستة أسابيع من عمر النطفة وهناك حديث في صحيح مسلم يشير إلى هذه المسالة ونصّه:
«إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً
فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا ربّ أذكرٌ أم
أُنثى».
وفي هذا الطور يبدأ تخليق السمع والبصر والجلد واللحم
والعظام، ويبدأ تخليق المخ إلى أن يكتمل في الاسبوع السادس عشر من الحمل أي
في نهاية الشهر الرابع وحينئذ تحلُّ في الجنين الروح.
والغرض من ذكر هذه المستويات الثلاثة في تحديد جنس الجنين
لبيان أنّ الذكر والاُنثى مُقدّران في مرحلة النطفة، ومحددان بدون أعضاء
التناسل في مرحلة المضغة ومحددان مع تخليق الأعضاء التناسلية بعد الاسبوع
السادس.
نعود للكلام عن مراحل تطور الجنين حيث ذكرنا مرحلة النطفة وتحديد جنسية الجنين، وبعد مرحلة النطفة تأتي مرحلة العلقة، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ...}([150])
الطور الثاني: طور العلقة وقد اختار القرآن الكريم اللفظ
الدقيق والمناسب لهذه المرحلة حيث أنّه يشبه دود العلق من حيث الشكل، كما
أنّه يشبه دود العلق في امتصاص الدماء من جدار الرحم ويشبه العلقة في تعلقه
بجدار الرحم.
قال في لسان العرب ص3071: «عَلِقَ بالشيء عَلَقاً وعَلَقَةً: نَشِبَ فيه».
وقال في اللسان أيضاً ص 3075: «والعَلَقُ: دودٌ أسودُ في الماء معروف، والواحدةُ علقةٌ...
والعلقةُ: دودةٌ في الماء تمصُّ الدمَ والجمْعُ عَلَقُ.
والإعلاق: إرسالُ العلق على الموضع ليمصّ الدم... وعَلِقتْ المرأة، أي حبلت».
قال الجوهري في الصحاح: «والعلّيق: نبتٌ يتعلّق بالشجر، وأعلق أظفاره بالشيء أنشبها» الصحاح مادة [علق].
لقد أكّدت كثير من الآيات الكريمة أنّ العلقة هي المرحلة الثانية من التخليق في الرحم قال تعالى:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ
مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً
ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ}([151])
وقال تعالى:
{أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى}([152])
وقال تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ...}([153])
وقال تعالى:
{خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}([154])
قال في لسان العرب ص3075: «والعَلَق: الدمُ ما كان، وقيل: هو ما اشتدت حُمرته، والقطعة منه علقة... وفي التنزيل: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً}.
ومنه قيل لهذه الدابة التي تكون في الماء علقة لأنّها حمراء
كالدم، وكل دم غليظٍ علقٌ، والعلقُ: دودٌ أسود في الماء معروف، الواحدةُ
علقة».
لقدذكر كثيرٌ من المفسّرين أنّ العلقة هي الدم الغليظ، ولعلّ
السبب في ذلك هو نظرتهم بالعين المجرّدة حيث أنّهم يرون قطعة صغيرة من الدم
لا غير، لأنّ العلقة في تلك المرحلة تكاد أن لا ترى بالعين المجرّدة
وحجمها لا يزيد عن ربع المليمتر ومحاطة بالدم من كل الجهات.
والناظر إلى العلقة بالعين المجردة لا يرى سوى قطعة صغيرة من
الدم الغليظ، فأنّى لـه أن يعرف أنّ هذا الدم يحيط بشكل يكاد أن لا يرى
بالعين المجرّدة ويشبه دود العلق وأنّه في الرحم يعلق بجداره ويمتص الدم
منه.
إنّ بويضة المرأة عندما يخترقها الحويمن تصبح ملقحة (النطفة
الأمشاج) وبعد سبعة أيام ونصف تصل إلى مرحلة العلقة وتلتصق بالجزء العلوي
من جدار الرحم الخلفي وهي محاطة بالدماء كي تتغذى منها، كما أنّها عندما
تخترق جدار الرحم وتعلّق به تتغذى من افرازات الغدد الرحمية التي يبلغ
عددها خمسة عشر ألف غدة تفرز اللبن الرحمي.
ومن المعلوم طبيّاً أنّ الجسم يلفظ أي جسم غريب يلجه، إلاّ
أنّ العلقة بخلاياها الآكلة القاضمة العالقة بالرحم لا تتسبّب بأي أذى
لجدار الرحم كما أنّ جدار الرحم لا يقاومها ولا يلفظها بل يستقبلها بكل
ارتياح ويقدّم لها ما تحتاجه من الغذاء فتبارك الله أحسن الخالقين.
وفي هذه المرحلة تطرأ عدّة تغيرات على جدار الرحم فيكبر من
نصف ملم إلى سبعة مليمترات وتنمو غدده وأوعيته الدموية، يرافق ذلك نمو
الغشاء المشيمي «الكوريون» من الخلايا القاضمة في العلقة.
وينمو كذلك في هذه المرحلة ساق يوصل الجنين بالغشاء المشيمي
يسمّى بالمعلاق وهذا المعلاق هو الذي يتكون منه الحبل السرّي، الذي يقوم
بربط الجنين بالمشيمة التي تتكون هي الاُخرى من الغشاء المشيمي، والعلقة
تمرّ بهذه المرحلة بعدة تعلقات في جدار الرحم مرّة مباشرة وثانية بعد تكوّن
الغشاء المشيمي وتعلّق ثالث عن طريق المعلاق.
فاللفظة القرآنية [علقة] جاءت منطبقة تمام الانطباق ومستوعبة
لكل نشاطات هذه المرحلة، من حيث شكل التخليق أو من حيث الأنشطة التي تقوم
بها أو من حيث التعلقات الثلاثة أو من حيث شبهها بدودة العلق أو شبهها
بامتصاص دودة العلق للدم أو حتّى أنّها تشبه العلقة بمعنى الدم المتخثر.
كل هذه المعاني أوجزها القرآن الكريم بلفظة واحدة وهي {العلقة} ثمّ لاحظ الحالة التي حددها القرآن لهذه المرحلة وهي بين النطفة وبين المضغة التي تبدأ بالاسبوع الرابع.
* * *
في العام 1915 كان أنيشتاين يطرح نظريته النسبية ويتحدث عن
الأبعاد الأربعة للكون، وبعد ذلك بعامين كان يصل في حلّ معادلاته في
الفيزياء الكونية إلى نتائج مزعجة بالنسبة لـه حيث كان يصل إلى نتيجة في
نهاية حل المعادلة تؤكد أنّ الكون في توسع دائم.
في حين كان العلماء في ذلك الوقت يرون أنّ الكون ساكنٌ، ولا
يتصورون وجود مجرات أبعد من مجرتنا درب اللبانة. لذلك كانت النتائج التي
يصل إليها انيشتاين في حل معادلاته تزعجه لأنّها تصطدم مع ما تعارف لدى
العلماء في ثبوت الكون وسكونه وعدم توسعه، فكان هذا يشكل لـه قلقاً كبيراً
أدّى به إلى الشك في نتائج معادلاته.
وفي عام 1922 أكد الفيزيائي الكسندر فريدمان صحة النتائج التي توصل إليها أنيشتاين لكنّها لم تلق اهتماماً.
وفي عام 1929 أعلن الفلكي الأمريكي Edwin Hubble
بعد سنين طويلة مضنية من مراقباته الفلكية بمرصد جبل ويلسون بالقرب من لوس
أنجلس الذي طول قطر عدسته متران ونصف, أعلن عن وجود ملايين المجرات أبعد
من مجرتنا درب اللبانة, وأنّ تلك المجرات تبتعد عنّا بسرعات تفوق الخيال
وأنّ هذه السرعة تتناسب طردياً مع المسافة بين تلك المجرات وبين الأرض،
فكلّما كانت المسافة أطول كانت سرعة الابتعاد عنّا أكبر.
ويشبّه العلماء كوننا المتسع ببالون متمدد على سطحه بقع مطاطة
فكلّما ازداد حجم البالون تباعدت البقع عن بعضها، والبقع في المثال بمثابة
المجرات.
وفي عام 1931 عاد أنيشتاين إلى نظريته في اتساع الكون بعد أن سكت عنها أربع عشرة سنة.
«إنّ معرفتنا عن توسع الكون تعتمد كليّاً على مقدرة الفلكيين
على قياس حركة جسم مضيء في الاتجاه الذي نراه فيه... وتستخدم تقنية هذا
القياس خاصة معروفة تماماً تُسمّى مفعول دوبلر، وهي خاصة مشتركة بين سائر
الحركات الموجبة.
فعندما نلاحظ موجة صوتية صادرة عن منبع ساكن فإنّ الفترة
الزمنية التي تفصل بين استقبال عرفي موجة متتابعين، هي الفترة نفسها التي
تفصل بين اصدارهما من المنبع» فإذا كان المنبع مبتعداً عنّا فإنّ الفترة
الفاصلة بين الاستلامين ستكون أطول من الفترة الفاصلة بين اصدارهما، لأنّ
كل ارسال لاحق يقطع مسافة أطول قليلاً من السابق، «مثل ذلك كمسافر في تجارة
يرسل رسائله إلى مكتبه في أثناء سفره وعلى فترات منتظمة مدة كل منها
أسبوع، فعندما يبتعد، لا بدّ أن تجتاز كل رسالة مسافة أطول من سابقتها،
والمدة التي تفصل بين استقبالين ستكون أطول من أسبوع، أمّا في طريق العودة،
فإن كل رسالة ستجتاز مسافة أقصر من سابقتها، وستصل إلى مكتبه أكثر من
رسالة في الاسبوع...
ويمكن ملاحظة مفعول دوبلر بسهولة في حالة الأمواج الصوتية
فإذا وقفنا على حافة طريق سفر ذات اتجاه واحد، فنلاحظ أنّ ضجيج محرك
السيارة يبدو أكثر حدة عندما تقترب السيارة مما هو عندما تبتعد»([155]).
وأوّل من أشار إلى هذه الظاهرة عام 1842 هو جوهان كريستيان دوبلر حيث فسر اختلاف اللون بين النجوم.
فضوء النجوم التي تبتعد عن الأرض سينزاح نحو الأطوال الموجية الأكبر، وستبدو هذه النجوم أكثر احمراراً من المعدل.
ونتيجة لاستخدام مفعول دوبلر تمكن العلماء من معرفة السرعات النجومية، وتمكنوا من تحديد سرعة المجرات في تباعدها عن بعضها.
وقال العلماء على ضوء ذلك إنّ مجرة درب اللبانة هي قرص مفلطح
مكون من نجوم ويبلغ قطره (80000) سنة ضوئية وسماكته (6000) سنة ضوئية ومحاط
بهالة كروية بحوالي مائة مليار مرة بقدر كتلة الشمس، ومجموعتنا الشمسية
تقع على بعد حوالي (30000) سنة ضوئية من مركز قرص المجرة والى الشمال من
مستوى استوائه.
وهذا القرص يدور بسرعة تبلغ 250 كيلو متراً في الثانية،
وقدروا أن سديم المرأة المسلسلة يقترب من الأرض بسرعة 300 كم في الثانية في
حين أنّ كومة مجرات العذارء التي هي أبعد من سديم المرأة المسلسلة، تبتعد
عن الأرض بسرعة تقرب من 1000 كم في الثانية.
وهكذا يصح القول: إنّ الكون ماض في عملية تشبه عملية الانفجار، أي في حركة تبتعد خلالها كل مجرة عن الاُخرى([156]).
علماً أنّ هناك مجرات تبلغ سرعتها (20000) كم في الثانية، كما
امكن استنتاج أنّ السرعات التي تزيد 170 كم/ثانية تعني أن المجرة تبتعد
عنّا 120 مليون سنة ضوئية.
وهذا يعني أنّ محتويات السماء الدنيا في حالة اتساع دائم وان
اجسامها تبتعد عن بعضها بسرعات هائلة تفوق الخيال وهذا ما يتحدث عنه القرآن
الكريم:
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}([157])
وفي موضع آخر يقول تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا...}([158])
وقال تعالى:
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ...}([159])
والسر هنا في كلمة نعيده، فالاعادة عكس الابتداء وهذا يعني
أنّ الكون كان منطوياً ثم فرش ثم يطوى ليعاد كما كان، وهذا يعني أن أجزاء
الكون سوف تجمع وتتكاثف وتنعدم بينها المسافات الهائلة التي لا زالت تنتشر
فيها، والباري سبحانه، وتعالى يطلب منّا أن نتدبر بناء السماء وكيفية
بنائها وانتشار هذه الزينة هنا، هذه الأجسام المتناثرة كاللآلي في هذا
الفضاء المترامي الأطراف، فيقول سبحانه وتعالى:
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا...}([160])
* * *
- 1- القرآن الكريم.
- 2- نهج البلاغة.
- 3- لسان العرب.
- 4- الصحاح للجوهري.
- 5- الإسلام يتحدّى.
- 6- المغناطيسية ـ جاك مندورلا.
- 7- البيان في تفسير القرآن.
- 8- الإلهيات.
- 9- سفينة البحار.
- 10- مجمع البحرين.
- 11- الميزان في تفسير القرآن.
- 12- مجمع البيان في تفسير القرآن.
- 13- الدر المنثور.
- 14- المنجد.
- 15- الهيدرولوجيا ـ كلية الهندسة المدنية.
- 16- الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون.
- 17- صحيح مسلم.
- 18- مجلة عالم الفكر.
- 19- محاضرات الشيخ عبد المجيد الزنداني.
- 20- مؤتمر الاعجاز الطبي في القرآن الكريم ـ القاهرة ـ.
- 21- محاضرات الدكتور حميد النجدي في إذاعة القرآن الكريم من مكة المكرمة، والبرنانج الثاني.
- 22- دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ـ موريس بوكاي.
- 23- خلق الإنسان بين الطب والقرآن، الدكتور محمّد علي البار.
- 24- احتمالات نهاية الكون.
* * *
الإهداء 5
المقدّمة 7
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم 14
تحديد جنس الجنين 16
التغذية في القرآن الكريم 19
قياس السعرات 21
حاجة الجسم من الغذاء 22
القرآن والسنّة ينظمان التغذية 23
تحريم لحم الخنزير 25
طفيليات الخنزير 27
الزحار البلنتيدي 29
الوشائع المعوية والكبدية 30
مرض دودة لحم الخنزير الشريطية Taenia solum 31
مرض الديدان المثانية لدودة لحم الخنزير Gysticertcosis 32
الديدان الشعيرية الحلزونية تريكينا 33
Trichinella spiralis 33
القرآن الكريم وعالم البحار 36
أدنى الأرض 40
حركة الأرض 45
عمد السماء 52
فناء النجوم والكواكب 56
الماء والتخليق 61
خلقت الأرض أولاً ثم السماء 65
فمحونا آية الليل 68
أصل النجوم دخان 72
الإنسان من طين 79
وحدة الاتجاه في حركة المخلوقات 85
فلينظر الإنسان مـمّ خلق 89
غزو الفضاء 93
فبأي آلاء ربكما تكذبان 93
الشمس والقمر بحسبان 100
أو كظلمات في بحر لجّي 107
تطور الجنين 111
النطفة والعلقة في القرآن الكريم 116
القرآن الكريم ونظرية الانفجار العظيم 124
المصادر 129
المحتويات 131
([8] ) سورة الإسراء: 88 .
([9] ) سورة النجم: 45-46.
([11] ) سورة البقرة: 223.
([14] ) سورة الأعراف: 31.
([16] ) سورة البقرة: 173.
([18] ) سورة الأنعام: 145.
([20] ) «Wilcocks & Manson - Bahr -1974».
([21] ) «Nelson 1972,p.117».
([22] ) سورة النور: 39-40.
([23] ) سورة الأنعام: 19.
([24] ) سورة الأنعام: 20.
([25] ) سورة الأنعام: 21.
([27] ) سورة آل عمران: 126.
([30] ) سورة الإسراء: 85.
([33] ) سورة الإسراء: 85.
([35] ) الإسلام يتحدى: ص140.
([43] ) سورة الواقعة: 75-76.
([44] ) سفينة البحار: ج2, ص547، مجمع البحرين مادة كوكب.
([48] ) سورة الانفطار: 2.
([49] ) سورة التكوير: 20.
([50] ) سورة المرسلات: 8.
([51] ) سورة الواقعة: 75-76.
([52] ) سورة التكوير: 15-16.
([53] ) الميزان: ج20، ص216-217.
([54] ) سورة الفرقان: 61.
([56] ) سورة النبأ: 12-13.
([57] ) سورة الطارق: 1-3.
([58] ) سورة الصافات: 10.
([60] ) لسان العرب: ج4، 2347، مادة «شهب».
([62] ) سورة الواقعة: 58-61.
([63] ) سورة النجم: 45-46.
([64] ) سورة القيامة: 36-37.
([72] ) سورة الإسراء: 12.
([73] ) مجمع البيان: 2/104.
([74] ) الدر المنثور للسيوطي: 40/166-167.
([75] ) الدر المنثور للسيوطي: 166.
([76] ) سورة آل عمران: 19.
([78] )سورة البقرة: 23-24.
([79] ) سورة الأنعام: 19.
([82] ) سورة الأنبياء: 30.
([85] ) سورة الإسراء: 82.
([87] ) سورة الإسراء: 82.
([89] ) سورة الإسراء: 82.
([92] ) سورة المؤمنين: 12-13.
([98] ) سورة الطارق: 6-9.
([99] ) مجمع البيان: 10/471.
([100] ) لسان العرب مادة «صلب».
([101] ) اللسان مادة «ترب» ص224.
([102] ) سورة الرحمن: 33-35.
([103] ) سورة الجن: 8-10.
([104] ) الميزان: 19/107.
([106] ) سورة الحجر: 14-15.
([108] ) سورة الإسراء: 1.
([109] ) سورة الأنعام: 125.
([111] ) سورة التكوير: 1.
([118] ) سورة الانبياء: 33.
([119] ) سورة الأنعام: 96.
([121] )سورة ابراهيم: 33.
([122] ) مجمع البيان: ج6/316.
([123] ) تفسير الميزان: ج13/60.
([124] ) سورة آل عمران: 11.
([125] ) سورة الاسراء: 13.
([126] ) سورة لقمان: 29، وكذلك سورة فاطر: 12، وسورة الزمر: 5.
([128] ) سورة الإسراء: 88.
([129] ) سورة النور: 93-40.
([130] ) الهيدرولوجيا: ص97-99، كلية الهندسة المدنيةـ جامعة حلب.
([132] ) سورة الإسراء: 88 .
([134] ) سورة القيامة: 37.
([135] ) سورة الإنسان: 2.
([136] ) سورة نوح: 13-14.
([138] ) سورة النجم: 45-46.
([139] ) سورة الإنسان: 2.
([140] ) سورة الذاريات: 49-50.
([142] ) سورة الشورى: 49-50.
([145] ) سورة الصافات: 11.
([147] ) سورة الواقعة: 58-59.
([148] ) سورة المرسلات: 20.
([149] ) سورة النجم: 45-46.
([151] ) سورة المؤمنون: 12-14.
([155] ) الدقائق الثلاث الاُولى من عمر الكون: ص20-21.
([156] ) المصدر السابق: ص28 بتصرف.
([157] ) سورة الذاريات: 47.
([158] ) سورة الأنبياء: 30.
([159] ) سورة الأنبياء: 104.