كن من شئت وأبصر! وافتح عينيك فحسب، وشاهد الحقيقة! وأنقذ إيمانك الذي هو مفتاح السعادة الأبدية!))
تأمل هذه العبارة أنت بحاجة لحاسة ضرورية يساعدك هذا الكتاب في االانتباه إليها، اكتشافها وامتلاكها: ألا وهي الإبصار. فالنظر إلى الأشياء لا يغني عن الإبصار!
والقرآن العظيم مجموع كلي من الآيات الدالة على الطريق، آيات هي في حاجة فقط إلى من يبصرها،
الآية 20 من سورة الجاثية(( هذا بصآئر للنّاس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ))
قد نقطن في أجمل بقعة في العالم تحوي مناظر خلابة يتغنى بها الكثيرون ونحن عنها غافلون العين ترى وما بها من علة، أين يكمن الخلل؟
القلب هو الذي يصاب بالعمى عن الغفلة ودواؤه الذكر.
تريد أن تبصر؟
تدبر آي الذكر الحكيم أولا ثم أبصر! لأن الإبصار نتيجة طبيعية للتدبر وتذكر:
الأية 104 من سورة الأنعام(( قد جآءكم بصآئر من رّبّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ ))
الحياة الدنيا -بلا دين- ظلمات متضاربة كأمواج البحر البهيم، والناس راحلون إلى ربهم من خلال ما حد لهم من أعمار، إنها رحلة شاقة مضنية،
الآية 06 من سورة الإنشقاق(( يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه ))
وهو لذلك في حاجة ماسة إلى الآيات -العلامات- عسى أن يسهل عليه أمر العبور، وتتضح له معالم الطريق ويسلك له سبيلها. فكان البلاغ الأول هو خريطة الطريق والصراط المستقيم المؤدي للنجاة والنجاح، في الحيواتين الفانية والباقية، مضمون الرسالة المعجزة: القرآن.
البلاغ الأول: في اكتشاف القرآن تدبرا وتفكرا
(( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نّهدي به من نّشاء من عبادنا وإنّك لتهدي لى صراط مستقيم )) الآية 52 من سورة الشورى
وقد ورد في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للإمام العلامة: عبد الرحمن بن الناصر السعدي في تفسير هذه الآية:
(وكذلك) حين أوحينا إلى الرسل قبلك (أوحينا إليك روحا من أمرنا) وهو هذا القرآن الكريم، سماه روحا، لأن الروح يحيا بها الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين، لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير.
وهو محض منّة الله على رسوله وعباده المؤمنين، من غير سبب منهم، ولهذا قال: (ما كنت تدري) أي: قبل نزوله عليك (ما الكتاب ولا الإيمان) أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أميا لا تخط ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتاب الذي (جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم.
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) أي: تبينه لهم وتوضحه، وتنيره وترغبهم فيه، وتنهاهم عن ضده، وترهبهم منه.
ومن خصائص الروح: جوهره ممتنع الإدراك (( ويسألونك عن الرّوح قل الروح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )) -الآية 85 من سورة الإسراء- وسبب للحياة وباعثها. وكان القرآن روحا، لأنه سبب حياة هذه الأمة، وسبب حياة القلوب، فلا يموت قلب خالطت نبضه آيات القرآن الكريم، ولا حياة لقلب خلي منها.
لما كانت مهمتنا الأولى الإستخلاف وعمران الأرض كانت نقطة بداية رحلة العمران من القرآن. وغاية الإنزال للذكر الحكيم: التدبر والتذكر وعمران الوجدان بالإيمان، فالتدبر هو المنهج القرآني المأمور به لقراءة القرآن العظيم،
فما التدبر؟
تدبر أي نظر في عاقبة الأمر والتدبير أي أن تنظر إلى ما تؤول إليه عاقبة الشيء. وتدبر القرآن هو النظر إلى مآلات الآيات وعواقبها في النفس والمجتمع، على مستوى الفرد والجماعة.
وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله فتنظر إلى موقعها من نفسك وآثارها على قلبك وعملك، ما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها؟ فتحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها باعتبارها مقياسا لوزن نفسك وتقويمها.
وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع، فتنظر في سنن الله عز وجل فيه كيف وقعت وتقع؟ وما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير.
ومن التدبر: التفكر ويكون بالنظر في خلق الله والتأمل في بديع صنعته.
التدبر هو المنهج الرباني لقراءة القرآن يحيل الإنسان على التفكر الذي هو المنهج الرباني لقراءة الكون، فيكون كل متدبر للقرآن متفكرا في الكون، فتقرأ –بقراءة القرآن الكريم- كل آيات الله المنظورة والمقروءة سواء.
وبذلك كله يتم لك شيئا آخر هو الإبصار.
تفكر، تدبر، تبصر
وفي ختام البلاغ الأول في اكتشاف القرآن
إعرف أن: القرآن رسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان، فاحذر أن تظن أنك غير معني بها في خاصة نفسك أو أنك واحد من ملايير البشر لا يدرى لك موقع من بينهم، كلا !
إنه خطاب رب الكون فيه كل خصائص الكلام الرباني، من كمال وجلال، الله عز وجل يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد.
ولما كان البلاغ الأول القرآن: كلام الله سبحانه وتعالى المعجز جاء البلاغ الثاني في معرفة الخالق عز وجل: الله سبحانه وتعالى.
البلاغ الثاني: في التّعرف إلى الله سبحانه وتعالى والتعريف به.
إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداءا عميقا يترجم الرغبة في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود. فالواجب الأول عليك أن تبحث عن الله الخالق البارئ، وتؤدي حق الخالقية لأنها سبب مجيئك إلى الكون وإلا كنت عدما.
كلما نادى الله عز وجل الناس في القرآن بالإستجابة لأمره التعبدي، ناداهم من حيث هو خالقهم سبحانه وتعالى. حقيقة باعتبارها مبدأ كليا من مبادئ الدين والتدين وأنها العلة الأولى منه: (( وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون )) الآية 56 من سورة الذاريات.
جاء في تفسير السعدي لهذه الآية: هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عمن سواه، وذلك يتضمن معرفته تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله عز وجل، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم.
وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات حق الخالقية لله الواحد القهار، كانت هي عينها حجته في الدعوة إلى التوحيد ونفي الحق الوهمي للشركاء.
خلق ما في الأرض جميعا كان من أجل الإنسان بصريح عبارة القرآن ثم كان خلق السماوات بناءا فوق الأرض، سقفا لها وكان بعد ذلك خلق الإنسان ثم سخر كل ما بينهما لخدمته وقد مهدت له كل أسباب الحياة والعمران، إنه تدبير رحيم وتكريم عظيم لهذا الإنسان.
(( يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون )) الآية 21 من سورة البقرة
الأمر الوارد (( اعبدوا ربّكم )) جاء في سياق قصة الخلق الأول والإستخلاف الرباني للإنسان في الأرض. وهذا منطلق مهم لفهم حقيقة الإنسان وطبيعة العبادة المطلوبة منه لله رب العالمين. فالغلاف الكوني كله في خدمة الإنسان خلقا وتسخيرا ومن هنا كان الشرك ظلما عظيما، لأن الله وحده الذي خلق. وبهذا المنطق وجب أن يكون هو وحده الذي يعبد.
(( هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا )) الآية 01 من سورة الإنسان
الإنسان في جميع الأحوال إنما يفكر في شيء واحد هو الأنا بمعناها الفردي والإجتماعي والقرآن يوقظنا بأسلوب التنبيه إلى التفكير في مرحلة ما قبل العمر: وهو مجال يندر جدا أن يطرق بال الفكر البشري، إنك لن تستطيع تصور شيء ولا تخيله لأنه عدم والعدم لا يمكن تخيله. المهم أن تدرك أنك لم تكن ثم كنت وهذا فضل عليك من الله عز وجل.
فحق الخالقية هو مفتاح المعرفة بالله سبحانه وتعالى.
أي ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! بأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة، وهو يرى أنما غايتها إلى العدم المطلق والفناء الرهيب! ذلك ما يقوده غالبا إلى الشره المتوحش في تناولها، أو إلى العزوف القلق ثم الإنتحار، ألا ما أشد وحشة الكفر والضلال.
(( قل ادعوا الله أو ادعوا الرّحمن أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا )) الآية 110 من سورة الإسراء
الأسماء الحسنى هي مدخل التعريف بالله ربا وهو توحيد الربوبية وهي كذلك مدخل تعريف به إلها وهو توحيد الألوهية.
توحيد الربوبية يؤول إلى إثبات الأسماء والصفات لله رب العالمين إثبات إيمان وتسليم، لا ينحرف به تأويل، ولا يزيغ به تعطيل ولا يحزمه تشبيه أو تجسيم.
(( ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير )) الآية 11 من سورة الشورى
توحيد الله في ربوبيته أي في مالكيته للكون وخالقيته له وذلك هو المنطق السليم والأساس القويم لتوحيد الألوهية.
(( إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة )) صحيح البخاري
من أحصا أسماء الله الحسنى دخل الجنة وليس المراد بالإحصاء عدها فقط لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها ويستدل عليه بأثره الساري في الوجود فلا تمر على موجود إلا وتظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء الحسنى.
إنها عقيدة السلام والأنس الجميل بالله تعالى، وبقدر ما سكن النفس إلى إسمه تعالى (الرزاق) يذوق العبد من معنى الحفظ جمالا حميدا وأنسا جديدا، فتعلو القدم بذلك مراتب.
وبالنسبة إلى خصوص معاني التكبر والكبرياء والقهر والجبروت من أسمائه تعالى فهي مما يشين الإنسان ويلقي به في دركات الذم والنقص لو اتصف بها وتخلق بأحوالها، لكنها في ذات الله تعالى جلال وجمال ونور وكمال فهي: (الحسنى).
ورد في الحديث القدسي: (( قال الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار ))
إن المؤمن حينما ينتسب إلى الله عبدا فإنه يكتسب من نسبة العبودية عزة ومنعة إذ هو محمي من الظلمة والفجار باسم الله تعالى الجبار القهار.
إنك حينما تذوق من معرفة الله لمعات وأنوار يتعلق قلبك بحبه لأنك إنما تجد الجمال الحق في تلك المعرفة.
إن المعرفة بالله تملأ قلبك أنسا بالله سبحانه وتعالى ثم أنسا بالحياة وأنسا بالكون والكائنات وأنسا بالموت الذي لن ترى فيه –إذ تقف عليه- إلا موعدا جميلا.
ذلك هو رأس العلم وتلك هي زبدة المعرفة وعليها ينبني ما بعدها من كلمات ومن وجد الله سبحانه وتعالى وجد كل شيء ومن فاته الله عز وجل فاته كل شيء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق