من أشهر عمليات التفاوض في التاريخ
من أشهر عمليات التفاوض في التاريخ
إنَّ مِن أشهر عمليات التفاوض في التاريخ: عمليةَ التفاوض التي جرَت بين قُريش - ولَمَّا يُسلموا بعد - وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فيما عُرفَ بـ (صلح الحديبية)، وفي صلح الحديبية مجموعةٌ كبيرةٌ من دروس وأسُسِ التفاوض التي تم تطبيقها عمليًّا، ويُشار هنا إلى نقطة مهمة؛ وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُفاوض فريقَين في نفس الوقت، والفريقان هما: المشركون من جهة، وبعضُ أصحابه رضي الله عنهم من جهة أخرى.
فحين رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رؤياه الشهيرة؛ أنه وأصحابَه سيَدخلون المسجد الحرام (الكعبة) إن شاء الله آمِنين مُحلِّقين رؤوسهم ومقصِّرين لا يخافون؛ أي: إنهم سيؤدون مناسك العمرة، وذلك في غير تحديدٍ للزمان، ولا تعيينٍ للشهر والعام، فأخبَر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فاستبشروا به خيرًا، وزاد شوقُهم لزيارة البيت العتيق، واعتقَدوا أن هذه الرؤيا ستتحقَّق في نفس العام، فعَقَدوا النية وأعَدوا العُدة للسفر، وقرَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم السفرَ في ذي القَعدة، وهو مِن الأشهر الحرُم؛ حتى لا تتَوجَّس قريشٌ من المسلمين خِيفة؛ لأن العُرف عند العرب أن لا يكون قتالٌ في الأشهر الحرم؛ وهي أربعة أشهر: ذو القعدة، ذو الحجة، المحرَّم، رجب.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم باتجاه مكة معتمِرًا لا يُريد حربًا، وكان عدد الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ألفًا وأربعَمائة رجلٍ، خرَجوا في ثياب الإحرام البِيض، وساقوا معهم الهَدْي (البهائم التي تُذبَح)، وأحرَموا بالعُمرة؛ ليَعلم الناس أنهم جاؤوا زائرين للبيت العتيق معظِّمين له، وحتى لا تفكر قريش في صدِّهم عن الكعبة المشرفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عُزْلاً مِن السلاح إلا ما يَحملُه كلُّ مسافر وهو سيفٌ للدفاع عن نفسه، وركب الرسول محمدٌ صلى الله عليه وسلم ناقتَه القصواء، وسار، وأصحابه خلفَه.
ما إن سمعَت قريشٌ أن المسلمين يقصدون مكة حتى أخذَت وبشكل مباشر في جهود الاستعداد للحرب، ولم يصدِّقوا أن هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أداء العمرة، وعقَدوا النية المسبقة على صد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابِه عن مكة، مهما كلَّفَهم الأمر، وهكذا كان هذا الموقف من قريش دليلاً على عنادهم وصلَفِهم، وتماديهم في الاعتداء على المسلمين، ومصادرة حرياتهم، ومنعهم من أبسط حقوقهم.
ثم إن قريشًا بدأَت مباشرةً باستفزاز النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه؛ لجرِّهم إلى طريق المواجهة والحرب، وبلغ المسلمين أن خالدَ بن الوليد خرج في خيلٍ لقُريش بلغَت مائتي فارس؛ يُريد النبيَّ وأصحابَه، ولكي يتجنَّب الرسولُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم الاصطدامَ بقريش، وتَماشيًا مع رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في السلم والتفاوض والابتعاد عن مبدأ المواجهة - أمام هذا الموقف طلَب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أحد أصحابه أن يَخرج بهم في طريقٍ غير طريقهم التي هم بها، فسلَك بهم رجلٌ مِن أسلمَ طريقًا وعرًا غيرَ الطريق المعهود، حتَّى وصَلوا إلى الحُديبية على طرَفِ حدود أراضي مكة.
ويُلاحَظُ هنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابتعَد عن أسلوب المواجهة؛ لأن لديه أهدافًا أخرى رغم ما قدَّم مِن تكاليفَ إضافيَّة، فمنَع منْحَ الفرصة للطَّرَف الآخر لجرِّه لأسلوب المواجهة.
وما إن استقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية حتى بدأَت عملية التفاوض؛ ففي البداية لم يَبعَث النبيُّ صلى الله عليه وسلم شخصًا أو وفدًا ليُفاوض قريشًا، وانتظر أن تبعَث قريشٌ رَسولها، وهو شيءٌ مستحسَن في عمليات التفاوض؛ أن تَستمع في البداية للطرف الآخر وتَرى ما بجَعْبته، قبل أن تُدليَ أنت بدَلوِك، وكان أوَّلَ مَن جاء مِن قريش للتفاوض رجلٌ يُدعى (بُدَيل بن وَرْقاءَ الخُزاعي) ومعَه نفَرٌ مِن خُزاعة، وهم يُمثِّلون الوفد الأول وفريقَ التفاوض، فلمَّا رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رئيسَ الوفد وهو (بُديل) قال عنه: ((إنه رجل عاقل))؛ فلذلك فقد كلَّمه بمنطق العقل، وأخبَره أنه لم يَأتِ يُريد حربًا، وإنما جاء زائرًا للبيت الحرام، ومُعظِّمًا لحُرمته، وأمام هذا العرض المنطقيِّ والعقلاني اقتنع الوفد المفاوض بأحقِّية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في زيارة بيت الله وتعظيمِه، فرجَعوا إلى قُريش فقالوا: يا معشر قريش، إنَّكم تَعجَلون على محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ إنَّ محمدًا لم يأتِ لقِتال، وإنما جاء زائرًا هذا البيت. ولكنَّ قريشًا رفضَت الاستماع إلى رجُلِها ومُفاوِضِها العاقل.
ثم أرسلَت قريشٌ رجلاً آخرَ فعاد إليهِم بنفس قَناعات بُديلِ بن ورقاء، ثم أرسَلَت قريشٌ مفاوضًا آخرَ هو "مِكْرَزُ بن حَفْص"، فقال النبيُّ حين رآه: ((هذا رجل غادر))، وفي ذلك دلالةٌ واضحة أن النبي صلى الله عليه وسلم يَعرِف خُصومه جيدًا؛ فقد جمَع عنهم المعلومات كاملةً ولدَيه تصوُّر واضحٌ لشخصياتهم، فبَلَّغه بنفس الأشياء التي قالها للذي قبلَه.
ثم جاء دَور مُفاوضٍ آخَر هو (الحُلَيس بن عَلقَمة) وكان يومئذٍ سيِّدَ الأحابيش، فلمَّا رآه الرسول قال: ((إن هذا مِن قومٍ يتَألَّهون))؛ أي: مِن قوم تَعْنيهم العبادة، فأمر أصحابه أن يَبعَثوا الهديَ في وِجْهته حتى يَراه (أي: خاطبه بما يفهم)، (والهَدْي هي البهائم التي يَسوقها الحجيج لذَبْحها لوجه الله تعالى)، فلمَّا رأى (سيدُ الأحابيش) الهديَ يسيل عليه من عُرْض الوادي (جانِبِه)، رجَع إلى قريش دون أن يَصِل إلى الرسول؛ إعظامًا لما رأى، (وهنا يكسب النبي صلى الله عليه وسلم الجولةَ مِن غير تفاوض).
ثم بَعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً رابعًا هو "عُروةُ بن مَسعود الثقفي" سيِّد أهل الطائف، فكلمه الرسول بنحوِ ما كلَّم به أصحابَه، وأخبره أنه لم يأتِ يريد حربًا، وإنما يُريد أن يَزور البيت كما يَزوره غيره فلا يَلْقى صادًّا ولا رادًّا.
ويُلاحظ هنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُذكِّره بما فعَلوه يومَ جاء إليهم في الطائف يأمُل دعمَهم فأغرَوْا به غِلمانَهم وضرَبوه حتى أدمَوْه؛ لأن الموضوع صار مِن الماضي، وإثارته قد تجرُّ إلى نتائجَ سلبية.
وانتبهَ هنا عروةُ إلى أمور كانت تحدث بين الصحابة والرسول الكريمِ صلى الله عليه وسلم، فقام مِن عند الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يَصنع به أصحابُه؛ لا يتَوضَّأ إلا ابتَدَروا وَضوءَه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخَذوه! فرجَع إلى قريش فقال لهم: "أيْ قوم، والله لقد وفَدتُ على الملوك؛ على قيصرَ وكِسرى والنجاشي، والله ما رأيتُ مَلكًا يُعظِّمه أصحابُه كما يعظم أصحابُ محمد محمدًا"... إلى أن قال: "وإذا أمَرَهم ابتَدَروا أمره، وإذا توضأ كادوا يَقتتِلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم خفَضوا أصواتهم عنده، وما يُحدُّون إليه النظر؛ تعظيمًا له، ولقد رأيتُ قومًا لا يُسْلِمونه لشيء أبدًا".
وبعد انتهاء هذه المرحلة مِن التفاوض لاحَظَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الطرف الآخر قد بعَث العديدَ من المفاوضين، وقد أصبحَت الصورة الآن أكثرَ وضوحًا للطَّرَفين، وقد آنَ الأوان ليَبعَث هو بِمُفاوض، فبعَث خِرَاشَ بن أميَّة الخزاعيَّ رضي الله عنه مُفاوضًا، يوضِّح موقف الرسول صلى الله عليه وسلم السِّلميَّ، ويؤكِّد مبدَأ الحِلم الذي بلَغ غايته، ولِيَعرف أخبارَ الطرف الآخر، وأين وصَل بهم الحال، فبعَثه إلى قريشٍ بمكة، وحمله على ناقته الخاصة، وكانت تُعرف بالقصواء، (وفي ذلك دلالة تفاوضيَّة خاصة)؛ ليبلِّغَ أشراف مكَّة ما أمره به الرسولُ صلى الله عليه وسلم، ولكن الطرف الآخر لم يفهَم الرسالة جيدًا، وأرادوا قتلَ خِراش بن أمية، وهي محاولة جديدة منهم لِسَحب المفاوضات إلى نقطةِ المواجهة.
ولم يكتفوا بذلك؛ بل أرسلوا أربعين أو خمسين رجلاً، وأمَروهم أن يَدوروا بجَمْع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليُصيبوا لهم من أصحابه أحدًا، فأمسك المسلمون بهم جميعًا، وأُتي بهم إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فعَفا عنهم وخلَّى سبيلهم، (وهذه نقطة أخرى مهمة في عمليَّة التفاوض؛ بتقديم ما يُثبِت صحةَ قول المفاوض، وثباته على الأمر الذي جاء من أجله)، وهو ما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك استطاع أن يَكبَح جِماح الطَّرَف الآخر ورغبته العارمة في المواجهة.
وكَرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تَجري الأمور نحو المواجهة وأن يتَصاعد الموقف نحو القتال مرَّة أخرى، فدعا عُمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه؛ ليبعَثه إلى مكة، فيُبلِّغ عنه أشرافَ قريش ما جاء له، وقد اختار النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسبب مكانة عُمر الرفيعة وقُربِه من النبي صلى الله عليه وسلم، وذَكائه وقوَّته، ووقوفه مع الحق دون أن تأخذه في الله لومةُ لائم، وهي مواصَفات تفاوضية فَريدة، فقال له عُمر رضي الله عنه: يا رسول الله، إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكَّة مِن عَديِّ بن كعبٍ أحدٌ يَمنعُني، وقد عرَفَت قريشٌ عُدواني إياها وغِلظَتي عليها، ولكن أدلُّك على رجلٍ أعزَّ بها منِّي؛ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه.
وهنا التفاتةٌ كبيرة من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صُلب العملية التفاوضيَّة؛ لأن التفاوض سيَنتقل الآن في قلب أرض الخَصْم، والخَصم هنا متهوِّر، ولديه مواقفُ سلبيَّة من الشخص المفاوض، فليس مِن المستحسَن أن يُرسل عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه بالرغم مِن مواصفاته الجيدة، وحين يتم اختيار البديل يَكون على نفس الأساس الذي مُنع منه المفاوض الأول.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بن عفان رضي الله عنه، فبعثه إلى أبي سفيان بن حرب (قبل إسلامه) وإلى أشراف قريش؛ يُخبِرهم أنه لم يأتِ لحرب، وأنه إنما جاء زائرًا البيتَ معظِّمًا لحرمته، فانطلق عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعُظماءَ قريش، فبَلَّغهم عن رسول الله ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرَغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتَ أن تَطوف بالبيت فطُف، (وهنا يَلفِت النظرَ محاولةُ الخصم لتقديمٍ أشبهَ بالرِّشوة، أو تحقيق مصلحةٍ شخصيَّة للفرد دون فريق العمل)، فقال: ما كنتُ لأفعل حتى يَطوف به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال عثمان حين رجَع وقال له المسلمون: اشتَفَيتَ يا أبا عبد الله مِن الطواف بالبيت؟ فقال لهم: بئسَ ما ظنَنتُم بي! والذي نفسي بيده، لو مكَثتُ بها سنَةً ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم مقيمٌ بالحديبية ما طُفتُ بها حتى يَطوفَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم! (وهذا الأمر في غاية الأهمية؛ فوَلاء المفاوض يكون للقضيَّة وللفريق، وليس لمصالِحَ شخصية).
ثم بَعثَت قريشٌ بسُهَيلِ بن عمرٍو، وعَقَد صلح الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لِيَكتب شروط الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اكتُب "بسم الله الرحمن الرحيم")) فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله: ((اكتب باسمك اللهم))، فكتبَها. (وهنا أعطى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رِبحًا لسُهيل بن عمرو بتنفيذِ ما طلبه ولم يتأثَّر المعنى).
ثم قال: ((اكتب هذا ما صالَح عليه محمدٌ رسولُ الله سهيلَ بن عمرٍو))، فاعترض سُهيلٌ وقال: لو شَهدتُ أنَّك رسولُ الله لم أُقاتِلْك، ولكن اكتب اسمَك واسم أبيك.
فقال رسول الله: ((اكتب هذا ما صالح عليه محمدُ بنُ عبداللهِ سهيلَ بنَ عمرٍو))، (وهنا نفس الموضوع في إعطاء ربحٍ للمفاوض مقابلَ أرباحٍ أكبرَ دون الضَّرر بجوهر القضية)؛ ففي هذه المرحلة خَطا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الخطوة المهمة في عملية التفاوض؛ بأنه تَقبَّل كلَّ ما كان يَقوله سُهيل بن عمرو وأن يُعيد صياغته؛ حيث تَصرَّف الرسول كشَريكٍ وليس كخَصْم، حين لاحظَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم تمسُّكَ سُهيلِ بن عمرٍو بموقفه في التفاوض مع النبي؛ فقد تنازل الرسول صلى الله عليه وسلم عن جزئيات ولم يتَنازل عن الأهداف الإستراتيجيَّة. وماذا لو لم يَكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وكتَب بدلاً عنها: (باسمك اللهم)؟ وماذا لو كتب: محمد بن عبدالله، ولم يكتب: محمد رسول الله؟
وكان صلح الحديبية يتضمن من البنود ما يأتي:
1 - يعود النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم والمسلمون هذا العامَ إلى المدينة، ولا يَدخلون مكَّة لأداء العمرة، ولهم أن يَعودوا في العام القادم، وأن يَدخلوا مكة بدون سلاح.
2 - الإعلان عن انتهاء حالة الحرب، وإعلان هُدنةٍ بين المسلمين وقريشٍ، ويكون أمَدُ هذه الهدنة عشْرَ سنين.
3 - يلتزم النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم برَدِّ كل مَن يُسلم من أهل مكة، ويُهاجر إلى المدينة بعد هذا الاتفاق.
4 - لا تلتزم قريشٌ بردِّ مَن يأتيها مرتدًّا عن الإسلام، فلا ترجعه للمسلمين في المدينة المنورة.
5 - للقبائل العربية في جزيرة العرب وغيرها أن تَدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم وعهدِه، أو إذا أرادَت أن تَدخل في حِلفٍ وعَهدٍ مع قريش فلَها ذلك.
وهذا هو مُلخَّصٌ لبنود صلح الحديبية، أما نَصُّ الاتفاقية فقد كان:
"باسمك اللهم، هذا ما صالَح عليه محمدُ بن عبدالله سهيلَ بن عمرو، واصطَلَحا على وضعِ الحرب بين الناس عشرَ سنين يَأمَن فيها الناسُ ويَكفُّ بعضُهم عن بعض؛ على أنه مَن قَدِمَ مكة مِن أصحاب محمَّد حاجًّا أو مُعتمِرًا، أو يَبتغي مِن فضل الله فهو آمِنٌ على دمِه وماله، ومن قدم المدينةَ من قُريش مجتازًا إلى مِصر أو إلى الشام يَبتغي من فضل الله فهو آمِن على دمه وماله، وعلى أنه مَن أتى محمدًا مِن قريش بغير إذنِ وليِّه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشًا ممَّن مع محمد لم يَردُّوه عليه. وأنَّ بيننا عَيْبةً مكفوفة، وأنه لا إسلالَ ولا إغلالَ [1]، وأنه مَن أحبَّ أن يَدخل في عَقدِ محمد وعهده دخلَه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدِهم دخَل فيه. وأنك تَرجع عنَّا عامَك هذا، فلا تَدخل علينا مكَّة، وأنه إذا كان عامُ قابِل خرَجْنا عنك، فدَخَلتَها بأصحابك فأقمتَ بها ثلاثًا، معك سِلاحُ الراكب؛ السيوف في القُرُب، ولا تَدخُلها بغيرها، وعلى أنَّ الهديَ ما جِئناه ومَحِلَّه، فلا تُقْدِمْه علينا، أُشهِدَ على الصلح رجالٌ من المسلمين، ورجالٌ من قريش".
وقد بَدا في بداية الأمر لبعض ِالصحابة رضي الله عنهم أنَّ الاتفاقية فيها إذلالٌ وإجحافٌ بالمسلمين، أو أنهم يُعطون الدَّنية في دينهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم - على غير عادته - لَم يُشاورهم فيها؛ لهذا كانت هناك مُفاوضاتٌ بين الفريق الواحد؛ لإقناع بعضِهم البعض بوجهة نظره، وكان أشدَّهم تأثرًا بنتيجة المفاوضات عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه.
فقد ذهَب إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟
قال: بلى.
فقال: أوَلَسنا بالمسلمين؟
قال: بلى.
قال: أوليسوا بالمشركين؟
قال: بلى.
قال عمر: فعَلام نُعطي الدنيةَ في ديننا.
قال أبو بكر: يا عُمر، الزَم غرزَه (الزَم أمرَه)؛ فإني أشهد أنه رسولُ الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ثم أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألستَ برسول الله؟ قال: بلى.
قال: أوَلسنا بالمسلمين؟
قال: بلى.
قال: أو ليسوا بالمشركين؟
قال: بلى.
قال فعلام نعطي الدنيَّة في ديننا؟
قال: أنا عبد الله ورسولُه، لن أُخالِفَ أمره، ولن يضيعني.
فانصاع عمرُ رضي الله عنه، وانصاع مَن كان في نفسه شيءٌ من الصحابة وأذعنوا، فحقَّق بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نجاحَين تفاوُضيَّين؛ مع الخَصم، ومع أصحابه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق